الاستحواذ على "إلكترونيك أرتس"... عنوان سعودي جديد لقطاع في "رؤية 2023"

استراتيجيا السعودية الرياضية تترجم في كرة القدم والألعاب الإلكترونية

رويترز
رويترز
صندوق الاستثمارات يوسع حصته في أسهم شركة "إلكترونيك أرتس"، 20 سبتمبر 2025

الاستحواذ على "إلكترونيك أرتس"... عنوان سعودي جديد لقطاع في "رؤية 2023"

لم يكن الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول المنقضي عاديا لعشاق ألعاب الفيديو. فقد شهد النسخة الجديدة من لعبتهم المفضلة التي يصدر منها جزء جديد مع بداية كل موسم كروي، وما يسبقه من تسريبات حول المزايا الجديدة وتطور أسلوب اللعب، والجدل حول التقييمات التي يحصل عليها كل لاعب بناء على ما يقدمه في الواقع على ملاعب كرة القدم، قبل أن تزدحم خوادمها بملايين المستخدمين حول العالم، المتعطشين لتكوين فرقهم في النسخة الجديدة من لعبتهم الأثيرة.

شيء واحد يبقى ثابتا في كل نسخة مهما تغير المحتوى، إنها تلك المقدمة الصوتية التي تعلن بداية اللعبة، افتتاحا بذكر اسم الشركة المنتجة، تلك النبرة المميزة التي توقظ الطفل داخل نفوس الكبار، وتعود بشريط الذكريات لدى البعض إلى نسخ قديمة لا يمكن الجيل الجديد أن يتخيل حجم المتعة التي قدمتها لأطفال الأمس مهما كانت بساطة تقنياتها البصرية في ذلك الوقت. الاسم الذي يفتتح كل نسخة ويقع كالموسيقى على آذان محبيها، هو "إي إيه سبورتس" المنتجة لأشهر ألعاب كرة القدم الإلكترونية على الإطلاق، "إف سي" حاليا و"فيفا" سابقا، وهي الذراع الرياضية لمجموعة "إلكترونيك أرتس" التي كانت على موعد الأسبوع الماضي مع إعلان تاريخي غطى على الضجة التي صاحبت إطلاق نسخة "إف سي 26" في الأسبوع نفسه.

الشركة وافقت على صفقة استحواذ تحولها إلى شركة خاصة في واحدة من أعلى الصفقات على الإطلاق بقيمة تصل إلى ٥٥ مليار دولار. والطرف المشتري هو تحالف من العيار الثقيل يضم ثلاث جهات، ويتصدره صندوق الاستثمارات العامة السعودي، والى جواره كل من شركة "سيلفر ليك" الاستثمارية الأميركية، وصندوق "أفينيتي بارتنرز" الأميركي الذي يرأسه جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب. الصفقة التي خطفت الأنظار في أروقة "وول ستريت" وأسالت الكثير من الحبر على أوراق صحف المال والأعمال، كانت حلما مؤجلا للرئيس التنفيذي لـ"سيلفر ليك" إيغون دوربان الذي فكر في شراء الشركة قبل عشر سنوات، بينما تحدث كوشنر عن شغفه بمنتجات الشركة التي كان من مستخدمي ألعابها، تماما كالكثير من أبناء جيله. أما بالنسبة للصندوق السعودي الذي كان بالفعل يمتلك نحو ٩٪ من أسهم الشركة قبل الصفقة، فكان القاطرة التي وصلت بالصفقة إلى بر الأمان، ويبدو الاستحواذ على "إلكترونيك أرتس" كأنه لحظة تتجمع عندها العديد من القطع التي تشكل في اكتمالها رؤية المملكة لهذه الصناعة كمجال تراهن عليه ليكون من أعمدة مستقبلها.

 هذا الزخم المتعدد الأوجه كان في حاجة إلى عنوان يتداوله الجميع ولا يدع مجالا للشك في أن الوجود السعودي لا يهدف فقط لوضع اسم المملكة على خريطة هذا المجال، بل لإعادة تشكيله، بما يضعها في قلبه، وفي تلك الصناعة المترامية الأطراف

منذ إطلاق ولي العهد السعودي الاستراتيجية الوطنية للرياضات والألعاب الإلكترونية، مرورا باستثمارات سعودية متعددة في علامات تجارية بارزة في قطاع تطوير منصات الألعاب ومحتواها، أبرزها شركة "نينتندو" اليابانية الشهيرة ولعبة "بوكيمون جو" التي أصبحت تحت ملكية شركة "سافي" التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، وانتهاء بنسختين متتاليتين من كأس العالم للرياضات الإلكترونية أقيمتا في الرياض بنجاح لم يشهده هذا المجال من قبل، لا يبدو من الصعب الاعتراف بالتأثير الذي أحدثته الدفعة الاستثمارية السعودية في هذا القطاع في السنوات الأخيرة.

تحول التفوق السعودي على أجواء اللعبة إلى امتلاكها

لا يتوقف حضور المملكة على الجانب الاستثماري فقط في الرياضات الإلكترونية، بل يمتد تأثير الرياض إلى داخل أشهر الألعاب ولا سيما FC المنتج الرئيس لشركة "إلكترونيك أرتس"، حيث يعد اللاعبون السعوديون ضمن أكثر الدول فوزا ببطولة كأس العالم لكرة القدم الإلكترونية التي يشارك فيها أكثر من نحو 20 مليون منافس، وهي الدولة العربية الوحيدة في هذه القائمة، وغيرها من البطولات العالمية التي استطاع اللاعب السعودي مساعد الدوسري أن يحقق فيها أرقاما قياسية في عدد البطولات، وهو رئيس فريق "فالكون" الذي فاز بآخر نسختين من كأس العالم للرياضات الإلكترونية.

واس
ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، يسلم قائد فريق "فالكونز" مساعد الدوسري كأس العالم للرياضات الإلكترونية، الرياض، 24 أغسطس 2025

 هذا الزخم المتعدد الأوجه كان في حاجة إلى عنوان يتداوله الجميع ولا يدع مجالا للشك في أن الوجود السعودي لا يهدف فقط لوضع اسم المملكة على خريطة هذا المجال بل لإعادة تشكيله بما يضعها في قلبه، وفي تلك الصناعة المترامية الأطراف التي أصبحت أكثر ربحية وبفارق يعد بمئات الملايين من الدولارات من قطاعات ترفيهية سبقتها بنصف قرن على الأقل مثل السينما والموسيقي، يصعب أن تجد أسماء تملك من الوصول الى مئات الملايين من البيوت حول العالم.

 ومن التأثير في الشكل الذي يمكن أن يكون عليه عالم ألعاب الفيديو في السنوات المقبلة، أسماء مثل "إلكترونيك أرتس" التي أطلت من كاليفورنيا في مطلع الثمانينات لتصبح من أقوى منتجي الألعاب الإلكترونية بأنواعها على الإطلاق، والتي تتنوع من الألعاب التي تحاكي كبرى المنافسات الرياضية العالمية، إلى لعبة تنقل المستخدم بمؤثراتها البصرية إلى عالم يتحول فيه إلى جندي في مهمة عسكرية مثل "باتل فيلد" التي تصدر بلا توقف سنويا منذ عام 2002، وانتهاء بـ"ذا سيمز" التي بدأت كأنها "صندوق عرائس افتراضي" كما وصفها مصمم اللعبة ويل رايت، لتتحول إلى لعبة وزعت أكثر من 200 مليون نسخة. وشكلت نمطا كاملا من ألعاب واقع افتراضي تمنح مستخدمها فرصة يطلق خلالها العنان لخياله ليصنع عالمه الخاص كما يتمنى أن يكون.

نجاح سعودي في كرة القدم واقعيا وافتراضيا

على الرغم من ضخامة الرقم المدفوع للوهلة الأولى، تحمل "إلكترونيك أرتس" بما أنتجته على مدار سنوات من أجيال لألعاب الفيديو، تقاطعات عدة مع اهتمامات الصندوق السعودي والمجالات التي استثمر فيها أخسرا. كرة القدم، التي يمتلك الصندوق في أروقتها ناديا في الدوري الإنكليزي الممتاز هو "نيوكاسل يونايتد"، فضلا عن النوادي الأربعة الكبار في الدوري السعودي، تأتي صفقة "إلكترونيك آرتس" استكمالا لاستراتيجيتها الرياضية الشاملة في الواقع وعالم منصات الألعاب، وهي التي تصدرت على مدى ثلاثين عاما قائمة الألعاب الأكثر مبيعا بلعبة كرة القدم الشهيرة التي وزعت ما يتجاوز 325 مليون نسخة منذ صدورها للمرة الأولى.

تجربة الشركة العريضة في إنتاج الألعاب المحاكية للرياضات تضعها على عرش الشركات المنتجة لهذا النوع في رياضات أخرى تمنحها انتشارا واسعا خاصة في الولايات المتحدة بإصدارات مثل "مادن" لعشاق كرة القدم الأميركية، وحول العالم بالنسخة الإلكترونية من نزالات "يو إف سي" الشهيرة للفنون القتالية المختلطة

ولم تتأثر شعبيتها وانتشارها على منصات الألعاب المختلفة برفع اسم "فيفا" من علامتها التجارية بعد انتهاء الشراكة بين الشركة والاتحاد الدولي لكرة القدم في عام 2023. يتنامى الحضور السعودي في عالم كرة القدم  يوما بعد الآخر من خلال  عدد من الأحداث المرتقبة حتى يصل الى ذروته بإقامة كأس العالم عام 2034 على أرض المملكة، مما يجعل من استثمار المملكة في الواجهة الإلكترونية للعبة الشعبية الأولى عالميا ،أمرا يستحق أن يكون محل اهتمام، خاصة في ظل إقبال لا يخفت على منتج الشركة الكروي الذي يوفر نافذة مفتوحة على عدد متابعين سنوي يبدو شبه مضمون على الأقل في المستقبل القريب بعد أن حسمت "إف سي" معركتها على صدارة ألعاب كرة القدم منذ سنوات، وأمّنت لنفسها مكانة في الثقافة الجمعية لمحبي كرة القدم بشراكاتها مع كبرى البطولات الكروية والأندية العملاقة التي أصبح رد فعل لاعبيها على تقييماتهم في اللعبة فقرة سنوية ينتظرها الجمهور بشغف مماثل لانتظاره اللعبة ذاتها.

الرياضة على طاولة أولويات صندوق الاستثمارات

 لعبة أخرى تحظى باهتمام الصندوق السعودي وتحمل تقاطعات مع منتجات "إلكترونيك أرتس" هي الغولف التي كان الصندوق قد اقتحم عالمها قبل سنوات بإنشائه بطولة "ليف غولف"، محدثا ضجة في عالم تلك الرياضة وصلت الى وساطة من الرئيس ترمب لإتمام مفاوضات شاقة أدت إلى اتفاق لدمج البطولة مع جولة "بي جي إيه" الأميركية العريقة، التي كانت شراكتها مع "إلكترونيك أرتس" قد أثمرت منتجات عدة أبرزها ستة عشر إصدارا متتاليا حملت اسم أسطورة الغولف الأميركي تايغر وودز بين منتصف التسعينيات ومطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. تجدر الإشارة هنا إلى أن قيمة صفقة الاستحواذ على الشركة، تعادل بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، قيمة استثمار الصندوق في "ليف غولف" بأحد عشر ضعفا.

رويترز
منافسات موسم "القيمرز"، في الرياض، 9 يوليو 2023

خبرة الشركة العريضة في إنتاج الألعاب المحاكية للرياضات، تضعها على عرش الشركات المنتجة لهذا النوع في رياضات أخرى تمنحها انتشارا واسعا خاصة في الولايات المتحدة بإصدارات مثل "مادن" لعشاق كرة القدم الأميركية، وحول العالم بالنسخة الإلكترونية من نزالات "يو إف سي" الشهيرة للفنون القتالية المختلطة، والتي يتصادف أن يكون لشركة "سيلفر ليك"، أحد أطراف صفقة الاستحواذ، استثمار كبير فيها.

هذا التوجه في الاستحواذ على شركة لها كل هذا الباع في إنتاج ألعاب الفيديو الرياضية، يبدو مختلفا في نقطة انطلاقه، بالمقارنة مع إنشاء "ليف غولف" من العدم أو الاستحواذ على نادي "نيوكاسل"، بينما يواجه خطر الهبوط الى دوري الدرجة الثانية الإنكليزي، إذ يمنح الصندوق ذراعا مهيمنة بالفعل على قطاع كبير وواسع الشعبية بين مستهلكي ألعاب الفيديو، ويضع المملكة ورؤيتها في قلب أي تطوير سيشهده هذا القطاع في السنوات المقبلة، ليس فقط كمستثمر أو مشارك محدود التأثير بل كأحد اللاعبين الرئيسيين في المعادلة ممن يرسم مسار القطاع بكل ما يحمله ذلك من قدرة على التأثير في أحد أهم المنتجات الثقافية التي تحظى بإقبال خاص من الجيل الشاب.

تشي هذه المعطيات وغيرها بحجم النمو والتغير الذي ينتظر الألعاب الإلكترونية في الجوانب الاقتصادية والثقافية لعالم المستقبل، بما يجعل توجه الصندوق السيادي السعودي للاستثمار في هذا القطاع خطوة طبيعية في إطار مهمته الرئيية لتنويع مصادر الدخل

اكتمال هذه الصفقة يأتي في لحظة تبحث فيها الدول الكبرى عن حجز موقعها في العالم الجديد الذي يرتقب أن يشكله الذكاء الاصطناعي في السنوات المقبلة، تلك التكنولوجيا التي أطلت بالفعل على العالم من نافذة الألعاب الإلكترونية منذ أن بدأت بأبسط تطبيقاتها في أواخر القرن الماضي.

.أ.ف.ب
المقر الرئيس لشركة "إلكترونيك أرتس"، في مدينة ريدوورد، كاليفورنيا، 29 سبتمبر 2025

تعكس خطوة الصندوق السعودي والشركاء في صفقة استحواذ بهذا الحجم، مدى الثقة والإمكانات لديهم في قدرة التطور المتسارع لهذه التقنية في إعادة صوغ عالم الترفيه وما يمكن أن تقدمه السنوات المقبلة من دفعة لقاعدة شعبية الرياضات الإلكترونية، خاصة مع دراسات تظهر ارتفاع متوسط أعمار مستخدمي الألعاب الإلكترونية في السنوات الأخيرة بشكل يعكس تمسك أطفال العقدين الماضيين بهواية نشأوا على حبها، وتطورا ملحوظا في سياقات قصص الألعاب وإطارها الدرامي المدعوم بتطورات بصرية مبهرة تجعل اصدار نسخة جديدة من اللعبة نفسها كل عام مطلبا جماهيريا.

تشي هذه المعطيات وغيرها بحجم النمو والتغير الذي ينتظر الألعاب الإلكترونية في الجوانب الاقتصادية والثقافية لعالم المستقبل، بما يجعل توجه الصندوق السيادي السعودي للاستثمار في هذا القطاع خطوة طبيعية في إطار مهمته الرئيسة في تنويع مصادر الدخل، متزامنة مع شغف محلي كبير بما تنتجه شركات الألعاب الكبرى من إصدارات جديدة، ورغبة من أعلى مستويات الدولة في نقل المملكة من مقعد المستهلك إلى مركز عالمي يقدم نفسه للعالم كمعقل جديد لصناعة لم تعد حكرا على عمالقة الماضي في اليابان والولايات المتحدة.

font change