سمفونية القلق والأمل في "معركة تلو أخرى"

في فيلمه "معركة تلو أخرى" لا يصنع المخرج الأميركي بول توماس أندرسون ما يمكن اعتباره حجر الأساس في مسيرته لهذا العقد فحسب، بل يبدو أنه يعيد اكتشاف نفسه بالكامل.

HGHLV KTSI / Warner Bros
HGHLV KTSI / Warner Bros
ليوناردو دي كابريو في فيلم "معركة تلو أخرى"

سمفونية القلق والأمل في "معركة تلو أخرى"

تمتد مسيرة بول توماس أندرسون لعقود عدة، منذ تسعينات القرن الماضي وهو يثبت مكانته واحدا من أهم المخرجين الأميركيين المعاصرين، بقدرة خلابة على تشكيل قصص أصلية تنسل من حقب زمنية مختلفة. يمكن القول إنه مخرج مهجوس بالتاريخ، يهدف إلى استهداف فترات زمنية فريدة من التاريخ الأميركي ويرمي بشخصياته في قلب هذه الفترات.

أما اليوم، وفي ظل وصول النقاش حول المهاجرين في الولايات المتحدة، ذروته، وكونه من النقاط الأساس التي ارتكز عليها دونالد ترمب في حملته الانتخابية، مما جعل أكبر موازنة فيدرالية تخصص لوكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، فإن بول توماس أندرسون ليس في حاجة إلى البحث عن حقبة مهمة في التاريخ الأميركي لمعالجتها، فالتاريخ يحدث أمام عيوننا ويحتاج إلى من يوثقه فحسب.

في كل عقد من العقود الماضية، كان هناك فيلم يمكن اعتباره حجر الأساس ضمن أعمال أندرسون، في التسعينات دشن مسيرته مع "بوغي نايتس" Boogie Nights، في الألفية وقبيل بلوغه الأربعين صنع تحفته في "سيكون هناك دم" There Will Be Blood، تاليا كان التعاون الثاني مع دانييل داي لويس في فيلم "خيط شبحي" Phantom Thread الذي استقبل بحفاوة أكبر من بقية أفلامه في العقد نفسه. اليوم لم يصنع أندرسون ما يمكن اعتباره حجر الأساس في مسيرته لهذا العقد فحسب، بل يبدو أنه أعاد اكتشاف نفسه وتعريفها بالكامل.

صراع الأجندات

يتحدث "معركة تلو أخرى" عن مجموعة من الثوار اليساريين الأميركيين المناهضين للحكومة، وحربهم الشخصية مع عقيد يميني متطرف وقومي أبيض، يمتد هذا الصراع لفترة دموية من الزمن يقع العديد من الثوار ضحيتها. بعد أن تهدأ الأمور لمدة 16 سنة، يعود العقيد لإنهاء ما بدأه في محاولة لدفن ماضيه للمرة الأخيرة. الفيلم الذي كتبه وأخرجه أندرسون استخدم رواية Vineland للكاتب توماس بينتشون كمصدر إلهام أكثر من كونه اقتباسا مباشرا، ويؤدي أدوار البطولة فيه ليوناردو دي كابريو وشون بن وبينيسيو ديل تورو وتشيس إنفينيتي في أول أدوارها السينمائية.

يبدأ أندرسون فيلمه الجديد بمشهد صاعق، حيث نرى مجموعة من المهاجرين المحتجزين في مركز احتجاز، بينما تسير واحدة من قادة الثوار بيرفيديا (تيانا تايلور) فوق جسر يعلوهم، يتم كشف ذلك بعد أن تنعكس زاوية التصوير لتظهر بيرفيديا وهي تسير فوق المهاجرين المحتجزين أثناء عزف موسيقى تقشعر لها الأبدان، هذا الاحتجاز لا يعد سوى نقطة في بحر الأساليب والسلوكيات التي تقف مجموعة "الفرنسيون الـ 75" ضدها مستخدمين العنف لتنفيذ مطالبهم.

يبدو النصف ساعة الأولى من ملحمة أندرسون هذه فيلما آخر، حيث الأجواء المشحونة والأحداث السريعة التي يهيمن فيها دوي الانفجارات وإطلاق النار، جنبا إلى جنب الموسيقى الأقرب إلى صخب وحشي مهيب، حيث تعمل ضراوة اللحن وارتفاع صوته على جذب انتباه المشاهد وجعله في حالة ترقب مستمرة. موسيقى بيانو أوبرالية تضفي طابعا من الهيبة على كل مشهد ترافقه. بالنظر إلى مسيرة أندرسون، فلطالما امتلك علاقة وطيدة بترويض أصوات البيئة المحيطة والموسيقى لخلق جو مكثف ومشحون بالكاد يمكننا التقاط أنفاسنا خلاله (وهذا يتجلى خصوصا في فيلمي "المعلم" The Master و"سيكون هناك دم" There Will Be Blood).

يبدو النصف ساعة الأولى من ملحمة أندرسون هذه فيلما آخر، حيث الأجواء المشحونة والأحداث السريعة التي يهيمن فيها دوي الانفجارات وإطلاق النار، جنبا إلى جنب الموسيقى الأقرب إلى صخب وحشي مهيب


بعد نصف ساعة صاعقة، تبدأ القصة الحقيقية  اثر مرور 16 عاما، تبدو الحياة فيها أكثر هدوءا. يجب أن نشير إلى أنه حتى مع كونها مجرد مقدمة، لم يتم التنازل فيها عن جودة السرد، في وقت تتخاذل فيه بعض الأفلام خلال سرد ماضي الشخصيات، كونه مجرد تهيئة للأحداث. المقدمة هنا منعشة منذ البداية، منذ اللحظة التي يفتتح فيها الفيلم يطلب منك التركيز بكامل حواسك على ما تشاهده، مشاهد "أكشن" حية، وحبكة متسارعة متلاحقة، ومونتاج يرينا تقدم الزمن دون أن يتركنا تائهين أو يغيبنا عما يحصل من تطور بين الشخصيات. مع قرب نهاية هذه المقدمة يهدي الينا الفيلم مشهد مطاردة جويا بديعا للثائرة بيرفيديا وهي تهرب جريا على الأقدام، محاطة بسيارات شرطة تترصدها بكل ضراوة. مشهد كفيل أن يتصدر العديد من الأفلام، لم يضعه أندرسون سوى في المقدمة، لأنه يحمل الكثير في جعبته بعد ذلك.

AUDE GUERRUCCI / AFP
المخرج الأميركي بول توماس أندرسون في عرض فيلم "Rio Bravo" بنسخته المرممة 4K – هوليوود، 2023

تحول النبرة

استطاع بول توماس أندرسون، كما أسلفنا، إعادة اكتشاف نفسه، عبر التحول البارع في نبرة الفيلم بعد الفصل الأول. بعد كل الضجيج والتسارع الحاد والمواجهات الجافة بين الشخصيات، يدشن أندرسون فيلمه فعليا بمشهد عاطفي للفتاة المراهقة ويلا (تشيس إنفينيتي) وهي تتدرب على حركات فنون قتالية تحت أنظار المدرب الهادئ والمتزن سيرجيو كارلوس (ديل تورو). بعد أن تقوم بأداء روتين حركاتها، يقترب منها المدرب ويطلب منها إعادة الروتين لأنها نسيت أن تتنفس، وكأنه يطلب من المشاهدين أن يلتقطوا أنفاسهم مؤقتا، فتسارع الأحداث سوف يتوقف مؤقتا.

إنه مشهد عاطفي لأكثر من سبب، الانطلاقة مع أغنية Dirty Work لفرقة "ستيلي دان" تأتي بعد فصل أول عاصف بالموسيقى الصاخبة الصادمة. فصل انتهى وبوب (دي كابريو) يهرب بابنته الرضيعة بعيدا من حالات الاعتقال والإعدام التي طاولت زملاءه الثوار. فصلٌ عنوانه القلق في شأن كل نظرة غريبة يتلقاها في أي مكان عام، لأن احتمال فصله عن ابنته الوحيدة وارد جدا. يأتي هذا المشهد بكل الدفء الممكن تقديمه، لقد نجح بوب في مهمته الرئيسة، ألا وهي تقديم حياة طبيعية قدر الإمكان لابنته وعدم الزج بها في فوضى حياته السابقة. وبعد أن ينجح في هذه المهمة يرمي بكل ثقله في الملهيات والمخدرات لأنه يحتاج إلى تخدير كل حواسه حتى يهرب من مواجهة ماضيه المرعب.

هذا التغير الجوهري في النبرة غير معتاد من بول توماس أندرسون، وبقدر ما أنه محفوف بالأخطار، ينجح في هذه المجازفة. النبرة الجديدة والهادئة في بدايتها تأتي بمثابة عناق دافئ، ويقود هذه النبرة الرائع بينيسيو ديل تورو الذي يأتي كصوت واثق يبعث على الثقة في عالم لا يمكنك منح امتياز الثقة فيه لأي كان.

بعد أن يقتحم العقيد لوكجاو (شون بن) حياة بوب وابنته من جديد، يبدأ بول توماس أندرسون بتسريب التوتر إلى الفيلم وكأنه يسرب غازا ساما، لا يتبع أسلوبه الصارخ والجهوري في الفصل الأول، بل يتسلل خفية مفاجئا الجميع. الموسيقى الوحشية التي كانت تقتحم المشهد عنوة سابقا، استبدلت بنوتة واحدة من البيانو استمرت لفترات طويلة كسجل صوتي يترجم حالة القلق والضياع المتسارع التي يعيشها بوب وهو يبحث عن ابنته. الموسيقار جوني غرينوود، عضو فرقة Radiohead الذي يستمر بالتعاون مع أندرسون منذ فيلم "سيكون هناك دم" يجعل الموسيقى إحدى شخصيات هذا العمل. فهذا الأسلوب لا يخلق عوالم سينمائية فحسب، بل يخلق شعورا بالكثافة والانغمار. لا يمكنك تحديد مصدر هذا الشعور بالضبط لأن الفيلم بأكمله يقبل عليك، بأصواته وتصويره وأداءات ممثليه الحادة. في "معركة تلو أخرى"، الحالة التي يخلقها هي حالة من التوتر والقلق المتراكمين اللذين يتحولان سريعا إلى جزع مطلق وغير مقيد.

Warner Bros
ليوناردو دي كابريو، بول توماس أندرسون، وبنيسيو ديل تورو في فيلم "معركة تلو أخرى"

مواقف صارمة

يتضمن الفيلم أبعادا سياسية ويتخذ مواقف صارمة، وهذا أيضا ليس بالأمر المعتاد، لأن قصص أندرسون تطغى عليها سمات شخصية، لكن "معركة تلو أخرى" لا يتردد في اتخاذ هذه المواقف الواضحة والجلية (معاداة التطرف العرقي اليميني ودعم الأقليات) أثناء قولبتها في قصة درامية عن رجل كان يصارع الفقد والاكتئاب الناتجين من هرب شريكة حياته وتخليها عن فتاتها الصغيرة، قبل أن يبدأ بمهمة شبه مستحيلة لإنقاذ ابنته الوحيدة. يقول أندرسون إن كتابة الفيلم استغرقته 20 عاما، وبالنظر إلى تاريخ صدور الرواية التي استلهم الأحداث منها، يمكننا استنباط أنه كان يحاول إيجاد الحقبة الزمنية المناسبة لسرد مثل هذه القصة وتشكيل شخصيات لا تتناسب في سياق الحقبة فحسب بل تمتد وتتقاطع مع فترات أخرى وتصمد أمام تغير المناخ السياسي والثقافي.

 

هذا التغير الجوهري في النبرة غير معتاد من بول توماس أندرسون، وبقدر ما أنه محفوف بالأخطار، ينجح في هذه المجازفة

غني عن القول، إن الأداءات التمثيلية هي من أبرز نقاط القوة في أفلام أندرسون، فحتى الأدوار التي لا تترشح للعديد من الجوائز في أفلامه تظل أيقونية وتنال نصيبا لها في ذاكرة الجمهور. دي كابريو في تعاونه الأول مع أندرسون يقدم أداء رائعا، فجزء أساس في نجاح تغيير نبرة الفيلم يكمن في قدرته على التأقلم مع القفزة الزمنية، وتجسيد تأثير هذه الفترة الزمنية المليئة بهول الفقد والقلق على مستقبل ابنته واستمرار استهلاكه المخدرات. أثبت دي كابريو خلال السنوات العشر الأخيرة، أنه تخطي حدود الأدوار الرئيسة لشخصية "البطل" التي كانت تكتب له، واتخاذ خطوات نحو شخصيات أكثر تعقيدا، وهو يواصل تحدي نفسه والقوالب التي وضع فيها باختيار أدوار تخالف صورته كنجم سينمائي وسيم، وهنا لا يكتفي بالتأقلم مع القفزة الزمنية، بل يجعلنا نستشعر مقدار التوتر والقلق اللذين يعتريانه باستمرار دون التنازل عن كوميديا جسدية رفيعة تستحوذ على الشاشة.

أما شون بن في شخصية العقيد لوكجاو، فيجسد هزلية التطرف اليميني المهووس بنقاء العرق الأبيض ونشر القيم الدينية، وينجح بن في إيجاد التوازن المناسب، لأن شخصية العنصري العسكري الذي لا يمتلك سوى كره خالص في قلبه، قد تكون مستهلكة وغير مجدية في سياق الفيلم. حتى مع هزلية الشخصية وكونها نقطة كوميدية مهمة، لا يجعلنا شون بن نشك للحظة بمدى صدق نياته في ارتكاب جرائمه وضراوة أفعاله، هو أداء "جوكري" بامتياز.

وسط كل الفوضى والقلق والإزعاج المتراكم والمتجدد، يظهر بينيسيو ديل تورو بدور "السينسي" سيرجيو كضوء في آخر هذا النفق، ويغمر بوب والمشاهدين بثقة هادئة مثل أمواج المحيط التي لا يذكرها كلما أراد أن يهدئ من روع أحدهم. عندما يخطو الفيلم خطوته الأولى نحو فصل ثان أقل توترا وأكثر هدوءا، فإن ديل تورو هو من يقود هذه الخطوة بكل تفان وتروّ، وحينما تبدأ الأحداث بالتسارع من جديد، يبقى صامدا بكل ما تمتلكه شخصيته من حكمة وثقة أمام ما لا يمكن وصفه إلا بغزو عسكري لمدينته ومنزله.

Warner Bros
تييانا تايلور وليوناردو دي كابريو في فيلم "معركة تلو أخرى".

تباين

يقدم الفيلم تباينا رائعا بين شخصية بوب وسيرجيو: بوب ثوري هارب من القانون، ومن المفترض أن سنواته في المعارضة والثورة تعطيه شيئا من رباطة الجأش أمام مثل هذه المواقف، إلا أن اضمحلال غريزته وحواسه مع مرور السنوات يجعله فزعا غير مستعد لما ترميه الحياة في طريقه. أما سيرجيو، الذي يأتي من خلفية ثقافية وعرقية مختلفة جذريا، فإنه يعيش هذه الثورة كل يوم بإيوائه مهاجرين في المبنى الذي يقطن فيه وتهريبهم خلال مداهمة السلطات. يمكن بكل سهولة أن ترتكز قصة الفيلم حول سيرجيو، فهناك وفرة من الأحداث والأبعاد الدرامية التي تبرر ذلك، وبينما هو لا يدين لبوب بأي مساعدة نظرا للموقف الصعب الذي يجد نفسه فيه، إلا أنه يعرض هذه المساعدة باستمرار وتبدو مشكلة بوب الوحيدة أمام تيار المشاكل الذي يواجهه مجرد مهمة جانبية، الى درجة أنه يلتقط صورة شخصية معه بعد تهريبه من السلطات للمرة الثانية.

مشاهد "الاكشن" والمطاردات الجوية تقدم ما يمكن تصنيفه كأكثر أعمال اندرسون إثارة على الإطلاق، المطاردة الأخيرة تحديدا هي من أذكى وأبرع المطاردات التي شاهدناها في السنوات الأخيرة


من الجدير ذكره، أن إضافة جزئية إيواء المهاجرين لدى سيرجيو، لم تكن موجودة في النص الأساسي، لكن بعد انقطاع التصوير لعدة أشهر وعودة ديل تورو من تصوير فيلم آخر، طرح هذه الفكرة التي لاقت ترحيبا من بول توماس أندرسون وفريقه، مما يظهر جانبا آخر مهما عند أندرسون وهو التواصل الفعال مع الممثلين والقدرة على الاستفادة من منظورهم الفني والثقافي في إثراء شخصياتهم إذا تطلب الأمر ذلك.

AFP
تشيس إنفينيتي في فيلم "معركة تلو أخرى"

رفقة المصور السينمائي مايكل باومان (الذي عمل في Licorice Pizza)، يصنع أندرسون سمفونية سينمائية استثنائية، عمل مبهر بصريا في جميع المواقع والأوقات، المشاهد التأملية للطبيعة في مختلف أوقات اليوم، تضفي بعدا آخر يتخطى حالة التوتر إلى ما هو أبعد من ذلك. مشاهد "الاكشن" والمطاردات الجوية تقدم ما يمكن تصنيفه كأكثر أعمال اندرسون إثارة على الإطلاق. المطاردة الأخيرة تحديدا هي من أذكى وأبرع المطاردات التي شاهدناها في السنوات الأخيرة.

بعد إسدال ستار المعركة الأخيرة في "معركة تلو أخرى"، تمضي ويلا إلى تظاهرة جديدة فيما يضطجع والدها على أريكته بعد سنوات من النضال. يعلن الفيلم موقفه الأخير في ظل هذا التباين، أغنية American Girl تعزف لتكرس ويلا -المنحدرة من سلالة نساء ثوريات والناتجة من اختلاط عرقي- كرمز للهوية الأميركية المشتهاة رغم محاولات اليمين المتطرف احتكار هذه الهوية. لم تنته المعارك، لكن الصراع انتقل إلى الجيل الجديد فقط.

font change