ترمب والشرق الأوسط… التقاعد المستحيل

جروح الشرق الأوسط عميقة، تحتاج إلى طبيب صبور

ترمب والشرق الأوسط… التقاعد المستحيل

استمع إلى المقال دقيقة

أعلن دونالد ترمب، مرارا، أنه تقاعد من الشرق الأوسط. قال إن حروب هذه المنطقة لا تنتهي، وإن واشنطن دفعت ما يكفي من الدم والمال، فاختار الانكفاء إلى الداخل الأميركي. لكن الشرق الأوسط، كعادته، لا يسمح لسيد البيت الأبيض بمغادرته بسهولة، مهما كان مزاجه. التقاعد ممنوع. هذه المنطقة العنيدة تأتيك إذا لم تذهب إليها.

ها هو "ترمب الثاني" يعود اليوم إلى ساحةٍ ظنّ أنها أصبحت من الماضي الأميركي، ليحتفل باتفاق غزة الذي فرضه، ويُفترض أن يوقف سفك الدماء ويُنهي حربا استنزفت الجميع، ويفتح الباب أمام مرحلة أكثر تعقيدا في غزة بعد وقف النار وإطلاق الأسرى، وأكثر فرصا في المنطقة. مشهد سياسي وإنساني معا، يعيد ترمب إلى قلب اللعبة التي حاول مرارا مغادرتها.

المفارقة أن الرئيس الذي رفع شعار "أميركا أولا" يجد نفسه مجددا في قلب المنطقة التي حاول إدارتها من بعيد، فعادت لتفرض حضورها عليه بالواقع لا بالاختيار. صحيح أنه لم يكن في البيت الأبيض حين اندلعت الحرب الأخيرة في غزة، التي تمر ذكراها الثانية حاليا، لكن إرث سياساته ظلّ فاعلا: دعمه المفتوح لإسرائيل، والعقوبات القصوى على إيران، وتحويل "اتفاقات أبراهام" إلى قاعدةٍ لتطبيعٍ متدرّج مع إسرائيل.

في السنة الأولى لولايته الثانية، عاد ترمب بدعمه السياسي والعسكري لبنيامين نتنياهو، ومساهمته في استهداف المنشآت النووية الإيرانية.

كل ذلك يجعل عودته الحالية إلى ركام غزة امتدادا لمسارٍ لم يُقفل بعد، لا انطلاقة جديدة. ووراء هذا المشهد تتشكل خريطة جديدة للشرق الأوسط: ترتيبات أمنية بين إسرائيل وسوريا، وميلٌ إلى التهدئة مع إيران في الخليج، ومحاولات إسرائيلية لاستعادة توازنها الداخلي.

نكسات "محور الممانعة" تمنح مسار السلام فرصة للتقدم، خصوصا مع الزخم الذي اكتسبه "حل الدولتين" واعتراف أكثر من 150 دولة بفلسطين

في هذا السياق، قد يشكّل اتفاق غزة فرصة لفتح مسارات سلامٍ أوسع. فالمنطقة جرّبت، عبر عقود، مؤتمراتٍ واتفاقاتٍ كثيرة، من "مدريد" إلى "أوسلو" و"شرم الشيخ" و"كامب ديفيد"، لكن السلام ظلّ ناقصا أو مؤجلا. هذه المرة قد تكون مختلفة، لأن موازين القوى تغيّرت فعلا. فإيران و"محور الممانعة" يمران بأضعف لحظاتهما: "حزب الله" تحت ضغطٍ متعدد، ونظام الأسد تلاشى، و"حماس" خرجت من الحرب منهكة ومنقسمة.

نكسات "الهلال الإيراني" تمنح مسار السلام فرصة للتقدّم، خصوصا مع الزخم الذي اكتسبه "حلّ الدولتين" واعتراف أكثر من 150 دولة بفلسطين.

فرض وقف الحرب في غزة، وتبادل الرهائن، والانسحابات الإسرائيلية، أمور لا تكفي لصنع السلام. فالمراحل المقبلة تبقى الأصعب: كيف سيُنزَع سلاح "حماس"، وأيّ سلاح؟ من سيحكم غزة؟ وكيف ستُبنى سلطة فلسطينية قادرة على الإدارة والتمثيل؟

ليست هذه تفاصيل تقنية، بل أسئلة جوهرية تحدّد ما إذا كان الاتفاق محطة سلامٍ حقيقية أم هدنة جديدة، وما إذا كان اتفاق غزة "فرصة ضائعة" أخرى في الشرق الأوسط، وما إذا كانت جولة ترمب المرتقبة وقمم السلام والإعمار كغيرها من المبادرات التي هبّت على تاريخ المنطقة العنيدة.

الشرق الأوسط، لا يرحم من يغيب عنه، ولا يسمح لأحدٍ أن يتقاعد. جروح الشرق الأوسط عميقة، تحتاج إلى طبيب صبور… ورئيسٍ أميركي بنفس طويل

الشرق الأوسط يعيد صياغة علاقته مع واشنطن، مرّة بالحروب ومرة بالاتفاقات، لكنه لا يسمح لها بالغياب. من يبتعد يُستدعى، ومن يعلن التقاعد يجد نفسه في قلب الحدث من جديد.

ترمب يعود إلى مسرحٍ هرب منه، لكن الأدوار تغيّرت. لم تعد المنطقة ميدانا لتجريب القوة، بل مختبرا لاختبار السياسة والعقلانية. السلام لم يعد شعارا أخلاقيا، بل ضرورة وجودية: الحروب أنهكت الجميع، والاقتصادات تبحث عن استقرار، والعالم يحتاج إلى شرق أوسط يمكن التنبؤ به، لا منطقة تفاجئه كل صباح.

هكذا لا يعود ترمب متفرجا، بل أحد صانعي المشهد، ويحاول صنع السلام كما حاول أسلافه. فالاتفاق الذي دفع به إلى خط النهاية أعاد واشنطن إلى الواجهة، وربط اسمه بمسارٍ جديد للمنطقة. تغيّر الزمن وتبدلت الظروف، لكن ترمب اختار أن يكتب فصول المرحلة بنفسه، أو أن يحاول، أراد أن يرأس قمة تحفر في مستقبل الشرق الأوسط أكثر من قمم أسلافه الأميركيين.

فالشرق الأوسط، لا يرحم من يغيب عنه، ولا يسمح لأحدٍ بأن يتقاعد. جروح الشرق الأوسط عميقة، تحتاج إلى طبيب صبور… ورئيسٍ أميركي بنفس طويل.

font change