في نيويورك، لا تنتهي القصص، بل تعود في أزمنة مختلفة بأسماء جديدة وظلال قديمة. لكن هذه المرة، بلغة تتحدث إلى التاريخ، من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
فلسطين تطرق باب المجتمع الدولي بثقة أكبر، مع اتساع رقعة الاعتراف بها، وقمّة لـ"حل الدولتين". وسوريا تعود إلى المنبر الأممي بعد غياب لستين سنة، وبعد 14 سنة من حرب طاحنة وعقود من العزلة.
موضوعان يلتقيان على منصة دولية واحدة، ليقولا إن الشرق الأوسط ليس صفحة منتهية، بل أمل يخرج من ركام الدمار، الذي تصاعد بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وفاقمته حكومة بنيامين نتنياهو.
يوم الاثنين، تُعقد قمة "حل الدولتين" بمبادرة سعودية-فرنسية، لوضع آليات وخطوات تنفيذية للمبادرة، بمشاركة تلفزيونية من رئيس السلطة محمود عباس. في قاعات الجمعية العامة، ترتفع الكلمات عن "حل الدولتين" كأنه نداء قديم وجد أخيرا أصداءه في جدران دبلوماسية منهكة لا تؤمن بالعجز.
ثمّة إرادة لرسم أفق لدولة فلسطين، وقد باتت على أعتاب اعتراف دولي، رغم جروح غزة العميقة. فلسطين تقدّمت هذا العام ليس فقط بالخطاب، بل بحراك دبلوماسي غير مسبوق جرى العمل عليه بمبادرات وتحركات سعودية وفرنسية.
المبادرات والاعترافات الدولية تعيد التذكير بالمأساة الفلسطينية، ولا سيما في غزة وتُغلق فجوة في القانون وتفتح معابر الخروج من الكارثة وتفتح مسارا الى المستقبل. دول أوروبية كبرى، وأخرى من الجنوب العالمي، أقدمت على الاعتراف بدولة لم تولد بعد، لكنها حاضرة في الوجدان العالمي أكثر من أي وقت مضى.
المسألة ليست مجرد خطاب، بل لحظة رمزية تكسر صمتا طويلا، بدأ منذ تقاعد سوريا من مقعدها الأممي بفعل عزل سياسي طاحن، لتعود اليوم بصوت رئاسي يبحث عن اعتراف مختلف
وآخر "المعترفين" كان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي أقدم على تحوّل جذري في السياسة الخارجية البريطانية، إذ قال: "لإحياء الأمل بالسلام للفلسطينيين والإسرائيليين، وحل الدولتين، تعلن المملكة المتحدة رسميا الاعتراف بدولة فلسطين". وأضاف: "في مواجهة الرعب المتنامي في الشرق الأوسط، نعمل على إبقاء إمكانية السلام وحل الدولتين قائمة" التي يسعى نتنياهو وحكومته لوأده في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأشار ستارمر، في كلمة تزامنت مع إعلان كندا وأستراليا، قبل فرنسا ودول أخرى، الاعتراف، إلى أن "الأمل في حل الدولتين يتلاشى، ولكن يجب أن لا ندع النور ينطفئ".
ذلك "الأمل" الذي يجب أن لا ينطفئ للاعتراف بدولة فلسطين، بدأ يتّسع في مكان مجاور وعانى كثيرا. إذ ظهر وجه جديد لسوريا في نيويورك. الرئيس أحمد الشرع، القادم من مرحلة ما بعد الحرب، من بلد لم يصعد إلى منبر الجمعية العامة منذ ما يقارب الستين عاما، وكان غائبا عنه رغم الحضور الطارئ للرئيس نور الدين الأتاسي عام 1967، مع أن هذا البلد كان من مؤسسي الأمم المتحدة.
ليست المسألة مجرد خطاب، بل لحظة رمزية تكسر صمتا طويلا، بدأ منذ تقاعد سوريا من مقعدها الأممي بفعل عزل سياسي طاحن، لتعود اليوم بصوت رئاسي يخرج من "ثلاجة العزلة" ويبحث عن اعتراف مختلف. اعتراف بالوجود، بالعودة، وربما بشكل أعمق، بالشرعية.
في القاعة ذاتها، وفي الزمن ذاته، التقت فلسطين الجريحة وسوريا الخارجة من العزلة. فالغياب لا يعني النسيان، والتاريخ لا يُغلق فصوله وعقارب الساعة لا تتوقف
الشرع لا يتحدث عن الماضي كثيرا، بل عن الحاضر المثقل بالدمار والعقوبات والرهانات المفتوحة. يمشي في نيويورك بخطوات حذرة، كمن يريد أن تكون العودة إلى المنبر، عودة كاملة إلى المسرح العالمي. ومع ذلك، فإن وجوده بحد ذاته رسالة مزدوجة، إلى الداخل السوري بأن الدولة عائدة، وإلى الخارج بأن سوريا تريد أن تُسمِع، لا فقط أن تُراقَب.
المفارقة أن سوريا، التي حضرت فلسطين في خطاباتها، غابت عن المؤتمر الوزاري لـ"حل الدولتين". و"القضية" واحدة من عدة عناوين. هي جزء من المشهد لا مركزه. وربما في ذلك مؤشر على تبدل الأولويات، أو تبدل أدوات التعبير عنها، وبدقة أكثر تجريد البلاد من الشعارات. وإحدى الأولويات الآن، هي "تصفير المشاكل" مع الجوار بما فيها احتمال توقيع اتفاق مع إسرائيل يتضمن ترتيبات أمنية جنوب سوريا.
أسبوع نيويورك هذا العام ليس كغيره من أسابيع الجمعية العامة كل سنة. مرآة لشرق أوسط يختبر أشكالا جديدة من الظهور. وما بين تقدّم فلسطين وعودة سوريا، تبقى منطقة الشرق الأوسط مثقلة بأسئلتها الكبرى، مترددة بين ما تريد قوله وما يُسمح لها فعله.
في القاعة ذاتها، وفي الزمن ذاته، التقت فلسطين الجريحة وسوريا الخارجة من العزلة. فالغياب لا يعني النسيان، والتاريخ لا يُغلق فصوله وعقارب الساعة لا تتوقف.