هل تجاوز كير ستارمر تاريخ صلاحيته؟

همسات داخل الحزب بعد خسارته نائبا وسفيرا في واشنطن

"المجلة"
"المجلة"

هل تجاوز كير ستارمر تاريخ صلاحيته؟

قبل أكثر من أسبوع بقليل، وقع لي أمر لافت. اعتدت أن أتلقى بريدا إلكترونيا من مجلة "نيو ستيتسمان"، المنبر العريق لليسار البريطاني، كل يوم سبت. لكن هذه المرة وصلني بريد في منتصف الأسبوع من رئيس التحرير أندرو مار. لا أذكر الصياغة الدقيقة، لكن الرسالة كانت واضحة: أيام رئيس الوزراء في داوننغ ستريت باتت معدودة.

لم يمض على السير كير ستارمر سوى عام واحد في المنصب، ومع ذلك أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه غير مؤهل للوظيفة. فقد شهدت حكومته تراجعات محرجة في السياسات، أبرزها ما يتعلق بمدفوعات الوقود الشتوية للمتقاعدين، والمساعدات المقدمة لذوي الإعاقة. كما تصاعد التطرف اليميني نتيجة فشل الحكومة في مواجهة أزمة القوارب الصغيرة المحملة بما يسمى "مهاجرين غير شرعيين" وهم يعبرون القنال الإنكليزي من فرنسا. والأسوأ من ذلك أن أحدا لم يشعر بالرخاء: فالاقتصاد ما زال غارقا في الركود والأزمة، فيما يرزح الناس تحت وطأة أزمة معيشية صارت مزمنة.

لكن هذه لم تكن سوى تفاصيل صغيرة لسياق من الفشل بات معلوما للجميع. المشكلة الجوهرية كانت في قائد البلاد نفسه. لم يكن في مستوى المهمة. ما أراد أندرو مار، المعلق السياسي المخضرم، أن يبلغه للقراء بلهجة عاجلة هو أن هناك منافسا على زعامة "حزب العمال" في الشمال– في مانشستر تحديدا– قد يكون قادرا على إنقاذ البلاد من أزمتها المستمرة. اسمه: آندي بورنهام.

بدت تلك اللحظة وكأنها نقطة تحول حاسمة، حين انخفض رصيد الزعيم إلى ما دون الحد المقبول. غير أن السبب لم يقتصر على قائمة الإخفاقات المعروفة لحكومة "العمال". فليس من قبيل المصادفة أن بورنهام، عمدة مانشستر الذي حاز شهرة وطنية بموقفه من تمويل المجالس خلال جائحة "كوفيد"، قد لفت انتباه أندرو مار. فالمشكلة لم تكن مجرد عجز "حزب العمال" عن معالجة ما خلّفه المحافظون من أزمات، بل كانت أعمق من ذلك: أزمة تواصل واضحة، لكنها لم تمثل الصورة الكاملة.

بورنهام كان مؤشرا إلى أن البلاد بدأت تفقد صبرها مع رئيس وزراء حيّر المعلقين طويلا. لقد هيمن على المعلقين السياسيين في افتتاحياتهم ومقالاتهم، منذ فوز "العمال" الساحق في انتخابات 2024 سؤال واحد: "ما الذي يمثله السير كير ستارمر؟" كان لغزا استعصى على الحل. وربما حان الوقت للاعتراف بالفشل، ووضع اللغز جانبا.

يكفي أن نتأمل إعلان ستارمر اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين. لو كان مكان ستارمر أي سياسي آخر لكان جعل من هذا الإعلان محطة تاريخية، أما ستارمر فقد تعمد التقليل من شأنه، ليغطي على فضيحة تتعلق بتهم معاداة السامية داخل حزبه، ربما بدا ذلك النهج الأكثر صدقا. لكنه اختار أيضا عبارة "هذا البلد العظيم"، التي بدت كأنها إيماءة موجهة للوطنيين الذين يرون في القضية الفلسطينية نقيضا لقناعاتهم، أولئك الذين لوحوا بأعلام القديس جورج طوال الصيف، وكان آخر حضورهم أمام البرلمان.

مهما كانت دوافع ستارمر لاستخدام عبارة "هذا البلد العظيم"، فإن الأداء بدا باهتا بلا شك. في أجزاء من البلاد التي عادت لتقع تحت التأثير الخبيث لنايجل فاراج، هناك توق إلى الكاريزما لا يشبعه الوقار الصامت لستارمر، الذي لا يفعل أي تصريح يصدر عنه سوى أن يفاقم من حيرة المعلقين السياسيين، فلا أحد يعرف بدقة ما الذي يحرّك كير ستارمر.

ولزيادة الطين بلة، واجه ستارمر خلال أسبوعين فقط أزمتين كبيرتين. الأولى خسارته نائبته أنغيلا راينر، بسبب تهرب غير مقصود من ضريبة الدمغة على شقة في برايتون. والثانية، وهي الأشد وطأة، خسارته ممثل بريطانيا في واشنطن، اللورد بيتر ماندلسون.

كان يمكن للمشاكل في البدايات، مثل التراجعات السياسية، النظارات الفاخرة التي أهداها له أحد الأثرياء، وحتى مشهد التملق غير اللائق للرئيس الجديد، أن تُنسى مع مرور الوقت. لكن غياب البصيرة الذي دفعه إلى تعيين بيتر "ماندي" ماندلسون في أهم منصب دبلوماسي، رغم علاقته بجيفري إبستين، سيظل عالقا زمنا طويلا، ومن غير المرجح أن يتعافى منه أبدا، تماما كما حدث في مقابلة الأمير أندرو الشهيرة مع إميلي مايتليس.

ثمة ما يجعل أي ارتباط، مهما كان بعيدا، مع ملياردير مدان بجرائم اعتداء على الأطفال، يلقي بظلال ثقيلة على سمعة أي شخصية عامة. ومن دون الكاريزما التي تتيح له تجاوز مثل هذه العثرة، تقلّص ستارمر فجأة إلى حجمه الحقيقي– وهو أصغر من أن يكون رئيس وزراء. ولإدراك حجم الخطر الذي يواجهه، يكفي تأمل التاريخ السياسي الحديث.

لزيادة الطين بلة، واجه ستارمر خلال أسبوعين فقط أزمتين كبيرتين. الأولى خسارته نائبته أنغيلا راينر. والثانية، وهي الأشد وطأة، خسارته ممثل بريطانيا في واشنطن، اللورد بيتر ماندلسون

يميل المعلقون السياسيون في بريطانيا إلى ترديد مجموعة من العبارات المألوفة في تحليلاتهم. يتحدثون عن "فقاعة وستمنستر"، أو عن أولئك الذين "يصنعون الطقس السياسي". وفي أوقات الاضطراب داخل الأحزاب، يصفون عادة الشخصيات الأبرز بـ"الوحوش الكبيرة"– المخضرمين الذين يكتسبون، ولو متأخرين، شيئا من الكاريزما بفعل هالة المعرفة الداخلية التي تحيط بهم، والذين يمتلكون سلطة النطق بالحكم على مصائر من يقودون البلاد.
وهناك ميل مشابه في عالم الطبيعة لوصف بعض الحيوانات بـ"الكاريزمية"، مثل النمور أو الفيلة، التي لا يجد دعاة الحفاظ على البيئة صعوبة في إقناع الناس بحمايتها. بعد عام في المنصب، لا شك أن كير ستارمر لا يزال يُعتبر "وحشا كبيرا" داخل "حزب العمال". لكن ما يبقى غير مؤكد هو قدرته على استدعاء الكاريزما التي تليق بهذا اللقب.

أ ف ب
عمدة مانشستر في صورة تعود الى اكتوبر 2020

في سنوات المعارضة الطويلة لـ"حزب العمال"، التي امتدت لأكثر من عقد، كان رؤساء وزراء المحافظين يتساقطون بوتيرة مذهلة. هذه التغيرات المفاجئة في القمة ساهمت في تعميق شكوك الناخبين. عصر "الكاميرونيين"– ديفيد كاميرون وجورج أوزبورن– سرعان ما أفسح المجال لمتاعب "بريكست يعني بريكست" في عهد تيريزا ماي، بعد الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي.
ومن الإنصاف القول إن ماي، رغم محاولاتها لإبراز شخصيتها– بما في ذلك رقصها على أنغام "آبا" في المؤتمر– كانت تواجه قوة كاريزمية لا يمكنها التغلب عليها: رجل نادر في السياسة، يملك من الجاذبية ما يكفي ليُعرف باسم واحد فقط، مثل بونو أو مادونا: بوريس.
ها هو الوحش الأشقر القادم من إيتون، الذي وعد بإنجاز البريكست. بعد أن انتقل من عمدة لندن إلى الصفوف الخلفية في مجلس العموم، شرع بوريس في شق طريقه إلى داونينغ ستريت وسط فوضى شعره وابتكاراته اللغوية. كانت تلك لحظة تجلّت فيها الكاريزما المحافظة بكل بهائها: الملك العابر للماء، الفارس المتبجّح، المتأنق بلا اكتراث، الذي سيُنقذ الأمة.
ثم، ومن حيث لا يُحتسب، ضرب "كوفيد". بدا بوريس غير متأثر بقدوم الجائحة، فواصل حفلاته كما يحق لكل إنكليزي حرّ (محافظ بالطبع)، وأصيب هو نفسه بالفيروس. ولكن ما قتله لم يكن الفيروس، بل الحفلات التي كان يقيمها.
وبعد أن استهلك من كاريزمته ما يكفي ليبدأ الناس بمناداته بـ"جونسون"، بدلا من "بوريس"، أُزيح المقامر الإيتوني لتحلّ محله ليز تراس، المدللة لدى أعضاء "حزب المحافظين"، والتي لم تصمد رئاستها للحكومة أطول من عمر خسّة، كما راهنت صحيفة "ديلي ستار" في خطوة ساخرة لافتة. وما إن أرعب وزير ماليتها الأسواق وكاد يطيح بالاقتصاد، حتى انتهى عهدها بالسرعة نفسها التي بدأ بها.
جاء بعدها ريشي سوناك، وزير المالية السابق، الذي استُقدم لإصلاح الاقتصاد مجددا، ولم يكن يملك أي صفات نجمية تُذكر. ورغم أن لكنته تذكّر من عاش زمن توني بلير بنبرة الأخير، فإنه لا شيء آخر فيه يوحي بالكاريزما. وقد يكون ذلك، في الحقيقة، أفضل ما لديه. فلو امتلك الكاريزما، لتأكد من حوله من إخفائها تماما.

في الكرملين والفاتيكان لا تأثير يذكر لعامة الناس على مستوى الكاريزما لدى من يصلون إلى السلطة. أما في بريطانيا، فالأمر يرتبط بالجمهور أكثر

كان دور سوناك تهدئة الأسواق، فقدّم نفسه كتكنوقراطي نموذجي، ذلك الذي يُستدعى في لحظات الأزمات ليمسح الفوضى التي خلّفتها كاريزما من سبقوه. غير أن بقايا الكاريزما الفاسدة التي تركتها المرحلة السابقة كانت أكبر من أن يتحملها أكثر رؤساء الوزراء مللا في الذاكرة المحافظة الحديثة. وحين أعلن سوناك عن انتخابات مبكرة من منصة داونينغ ستريت، انفتحت السماء فوقه وغرقت بدلته الجديدة. لم يقتنع أحد بأن رجلا يرفض استخدام مظلة قادر على إصلاح الاقتصاد.
وهنا يأتي دور السير كير. في تلك اللحظة، كان "حزب العمال" قد طوى صفحته القصيرة والعاصفة مع جناحه اليساري، ليستبدلها بتكنوقراطي لامع من صنع يديه. تلك التجربة السابقة كانت قد دفعت بجيريمي كوربين إلى الصدارة– رجل ملتح، نقي حتى العناد، يحمل شيئا من كاريزما بطله المنسي توني بن، وإن كان مجرد وميض باهت.
لم يكن كوربين خطيبا مفوها، وكان يعبّر علنا عن كراهيته للصحافيين، مما أضعف الهالة التي أصر أنصاره في يسار الحزب على إلباسه إياها. ومع ذلك، بدت التجربة واعدة لبعض الوقت. وقد بلغت ذروتها في لحظة ثقافية لافتة خلال مهرجان غلاستنبري، حين ردد الآلاف هتاف الدعم على لحن أغنية "سيفن نايشن آرمي" (Army Seven Nation) لفرقة "وايت سترايبس" (White Stripes): "أوه يا جيريمي كوربين!" كانت تلك لحظة نادرة التقى فيها النقاء السياسي بوهج الثقافة الشعبية، ولكنه كان لقاء عابرا.
ومع ذلك، لم تكف جاذبية كوربين "الباردة" لهزيمة تيريزا ماي في صناديق الاقتراع. واتضح أن الرجل الذي حظي، ولو لفترة وجيزة، بلقب أحادي بين أنصاره– "جيزا"– لم يكن مؤهلا لإعادة "حزب العمال" إلى مجده الغابر.
جاء البديل رجلا أدهش الجميع بقدرته على التمحيص في التفاصيل خلال المعارك البرلمانية الطويلة حول البريكست. محام بارع في قضايا حقوق الإنسان، فصيح وذو لمحات من الظرف، يعرف طريقه جيدا إلى منصة الخطابة، ويبدو واثقا من نفسه وهو يهاجم سلسلة الكفاءات المتواضعة التي مررها المحافظون إلى الحكم. لم يكن يملك الكاريزما، ولكن ألم نختبر إلى أين تقود الكاريزما؟ وبدلا من ذلك، وعد بتنظيف "إسطبلات "أوجياس" (التي تقول الأسطورة إن هرقل  كُلف بتنظيفها بعدما تراكمت فيها مخلفات الأحصنة لثلاثين عاما، فحوّل مجرى نهرين لتطهيرها في يوم واحد) بعد رحيل وحوش "حزب المحافظين"، اسمه كير، على اسم مؤسس "حزب العمال". قد لا يكون هرقل الذي طلب منه في الأسطورة تنظيف الإسطبلات، ولكن لديه ما هو أكثر طمأنة: يد أمينة.
تكمن المفارقة في صميم هذه المسألة في الطريقة التي يُنظر بها إلى الكاريزما نفسها. فحين تظهر، لا يساور أحدا شك في وجودها. وقد شهد العالم ذلك في روسيا السوفياتية، مثلا، حين أفرز النظام شخصية كاريزمية مثل ستالين، أعقبها سريعا طابور طويل من البيروقراطيين الذين لم يعد أحد يتذكر أسماءهم. والبابوية بدورها اعتادت إنتاج بابوات بشخصيات آسرة مثل البابا فرنسيس، وسط أعداد من بابوات باهتين.
طبعا، في الكرملين والفاتيكان لا تأثير يذكر لعامة الناس على مستوى الكاريزما لدى من يصلون إلى السلطة. أما في بريطانيا، فالأمر يرتبط بالجمهور أكثر، وإن كانت الصحف ووسائل الإعلام هي التي تصنع هذه الكاريزما وتقدّمها لهم على طبق من الإثارة. وبرغم خبرتهم وتجاربهم السابقة، يقع الجمهور في شَرَكها مرة بعد أخرى.

في اللحظة الراهنة، يبقى هذا التعلق الراسخ بالكاريزما الشيء الوحيد القادر على جعل "عالم السياسة، وهو عرض لوجوه غير جذابة، جديرا بالمشاهدة". ولكن هذا هو بالضبط ما سلط الأضواء على نايجل فاراج. فحزبه، "حزب الإصلاح"، يتصدر استطلاعات الرأي، مستثمرا قائمة طويلة من المظالم التي يحمّل مسؤوليتها جميعا للهجرة. وتبلغ السياسة أوجها الكاريزمي عندما تتبنى أجندة بسيطة. وربما لهذا تبدو كاريزما شيطان الشاعر البيوريتاني العظيم جون ميلتون مفهومة، فهو يريد أن يجعل إبليس عظيما من جديد. وقد قال وليم بليك في ذلك يوما إن ميلتون كان "من حزب الشيطان دون أن يدري".
وعليه، تنظر الأحزاب التقليدية إلى فاراج بازدراء محسوب. فقد وُصفت تصريحاته الأخيرة حول الهجرة بأنها شريرة ومفرّقة. وحتى الديمقراطيون الليبراليون، الذين لا يُعرف عنهم استخدام السخرية ضد خصومهم، لم يترددوا في نعتِه خلال مؤتمرهم الأخير بـ"الوطني البلاستيكي"، ووزعوا دمية ليغو على هيئته كهدية للصحافيين.
من أجل البقاء، قد يجد "حزب العمال" نفسه مضطرا إلى البحث عن بديل كاريزمي لزعيمه الحالي، مهما كان الثمن. وربما يكون آندي بورنهام هو المرشح الأوفر حظا. فقد نجح في مانشستر، وساهم في تحويلها إلى واحدة من المناطق القليلة التي تشهد نموا اقتصاديا، بينما لا تزال الحكومة المركزية تتخبط في محاولاتها لإنعاش الاقتصاد.
نيل لوسون، المدير التنفيذي لمركز الأبحاث "كومباس" وأحد مؤسسي التكتل الجديد داخل الحزب "مينستريم"، الذي يحظى بدعم بورنهام، يرى أن العمدة بات "مرتاحا في جلده ومتصالحا مع قناعاته"، ويضيف: "وهذا في حد ذاته جاذب، سواء كنت من اليسار أو من اليمين".
لوسون يعتبر أن بورنهام هو الخليفة الأكثر منطقية إذا ما تعثر ستارمر. "لا يوجد زعيم مثالي، لكن في ظل الأزمة الوجودية التي نعيشها، مع صعود اليمين المتطرف وتراجع (حزب العمال)، فإن وجود زعيم جيد يكفي."
والأهم من ذلك أن بورنهام يفيض جاذبية وثقة بالنفس. ففي عشاء فاخر الشهر الماضي، بدا متحفظا بقدر ما تسمح به التكهنات المتزايدة بشأن مستقبله. قال: "أحب عملي هذا. أنا سعيد جدا حيث أنا. ولا أطمح لأن أكون... سفيرا في واشنطن".

صحيفة "الغارديان" علقت على تصريحه بأنه "نكتة أثارت ضحكا كبيرا". فبورنهام لم ينخرط قط في لعبة التظاهر بعدم الطموح لدخول داونينغ ستريت، لكنه أيضا لا يقدم الرد التقليدي للسياسي الطموح الذي يدعي أن المنصب غير متاح. بل يتبع نهجا أكثر صدقا: لم يكن ليترشح مرتين لزعامة "حزب العمال" لو لم يكن راغبا في المنصب.
لكن عليه أولا أن يحجز مقعدا في البرلمان. وهناك "وحوش سياسية" أخرى قد تنافسه، بينها ويس ستريتينغ، وزير الصحة، الذي يتمتع بحضور قوي وعقل مستقل، وقد يتمكن من استدعاء الكاريزما التي كبتها حتى الآن في الحكومة. أما المرشحتان لخلافة أنغيلا راينر في منصب نائب رئيس الوزراء– لوسي باول، حليفة بورنهام، وبريجيت فيليبسون– فتمتلكان بدورهما المهارات والمصداقية اللازمة.
تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن السؤال القاتل بات يطرح على ستارمر نفسه. نظرة عبر الأطلسي تكشف أن الكاريزما هناك في ذروة حضورها، مجسدة في شخصيات تجيد إقناع الناس بأنهم يسمعون صدى أفكارهم الخاصة. وإذا ما استمع عدد كاف من البريطانيين إلى أمثال فاراج، فقد يجد رئيس وزرائنا المتردد والهادئ والتكنوقراطي نفسه واقفا خلف منصة مبتلة بمطر لندن، مستعدا لتقديم استقالته على غرار ريشي سوناك. وإن حافظ على صورته كـ"يد أمينة"، فلن يفعل ذلك إلا وهو ممسك بمظلة.

بينما تصف الحكومة خصومها بـ"العنصريين"، تواصل تشديد قوانين الهجرة في محاولة للظهور بمظهر الحزم

وقد بدا المؤتمر السنوي لـ"حزب العمال" وكأنه فرصة حاسمة أمام كير ستارمر لإسكات المشككين وإثبات جدارته الحقيقية، وهو ليس بالتحدي الهيّن لرجل لم يُعرف يوما بقدرته على الخطابة الملهِمة، والذي تبرأ علنا من أي توجه أيديولوجي، ويتعامل مع الحديث عن "الرؤية" بشيء من الريبة المعلنة.
يكاد هذا التحفظ أن يكون انعكاسا لسمات شخصية معينة، أو ربما نتيجة تأثير مدير مكتبه، مورغان ماك سويني، الذي وصفه الكاتب بيتر أوبورن، بحدة لاذعة، بأنه "الرجل الخفي الذي يحرك دمية رئيس الوزراء". ولكن أيا يكن السبب، يبدو أن كل ملامح الرؤية قد طُرحت جانبا في الطريق إلى الحكم، لتتحول السلطة ذاتها إلى الغاية الوحيدة، لا وسيلة لتحقيق غاية.

"المجلة"

ولا خطاب، مهما بلغ من الصقل، كان بإمكانه أن يبدد هذا الانطباع، خصوصا في زمن لم تعد فيه الخطب السياسية تترك أثرا كما كانت تفعل على شاشات التلفاز. ومع ذلك، كانت أمام ستارمر فرصة لرسم ملامح استراتيجية، ولو متواضعة، لمواجهة نايجل فاراج وتفكيك بعض من جاذبيته الشعبوية.
وفي نهاية المطاف، وجد ستارمر سبيلا ليمتدح الطبيعة المتعددة الثقافات والمتسامحة لبريطانيا، بل ذهب أبعد من ذلك فرفض سياسة "حزب الإصلاح" اليمينية واصفا إياها بـ"العنصرية".  أما أكثر عباراته حدة، فجاءت في مقابلة مع قناة "GB News"، حين أطلق على قوارب المهاجرين التي تعبر القنال الإنجليزي وصفًا ساخرا: "قوارب فاراج".
"أود أن أذكّر السيد فاراج وآخرين بلطف، أنه قبل خروجنا من الاتحاد الأوروبي، كان لدينا اتفاق لإعادة المهاجرين مع كل دولة عضو. وقد وعد فاراج الشعب بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لن يحدث أثرا، ولكنه كان مخطئا. وهذه هي القوارب، التي يمكن أن نسميها في كثير من النواحي قوارب فاراج، تعبر القنال".
كانت ضربة ذكية، وقد تمثل أرضا خصبة لرئيس الوزراء إن أراد البناء عليها، لكنها ليست بلا مخاطرة. فالمؤمنون ببريكست قد يسمعون فيها صدى نقد خافت للخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت ذاته، وبينما تصف الحكومة خصومها بـ"العنصريين"، تواصل تشديد قوانين الهجرة في محاولة للظهور بمظهر الحزم. أما باتريك ماغواير في "التايمز"، فقد ذهب إلى حد التهكم بأن قال إن بريطانيا تشهد صعود "زعيم حزب العمال الجديد: نايجل فاراج". بالمقابل، لم يتوان ستارمر عن وصف فاراج بأنه "سياسي بارز"، مضيفا أنه لا يعتبر جميع مؤيدي فاراج عنصريين.
لكن لماذا هذا التردد؟ إنه يكشف عن تناقض مربك في صميم مقاربة الحكومة لقضية الهجرة. وقد يقدّم مراقب منصف النصيحة التالية: أظهر عزمك على هزيمة فاراج، ولكن من دون أن تلعب وفق قواعده.

بدت كيمي بادينوك، زعيمة "حزب المحافظين" المتقلّص والمثقل بالأزمات، وكأنها تبذل جهدا مضنيا لتجنب ذكر نايجل فاراج تماما

وعلى النقيض من ذلك، بدت كيمي بادينوك، زعيمة "حزب المحافظين" المتقلّص والمثقل بالأزمات، وكأنها تبذل جهدا مضنيا لتجنب ذكر نايجل فاراج تماما. ففي مقابلة مع قناة "سكاي نيوز"، ظهرت عليها علامات التوتر حين سألتها بيث ريغبي عمّا إذا كانت تُكن إعجابا لزعيم "حزب الإصلاح". حتى خطابها الرئيس في مؤتمر "المحافظين" بمدينة مانشستر خلا من أي إشارة مباشرة إليه.

 أ ف ب
رئيسة مجلس العموم البريطاني لوسي باول قبيل القاء كلمتها امام مؤتمر حزب العمال في ليفربول في 22 سبتمبر 2024

وبالنظر إلى أن حزبها لا يثير حماسة تُذكر لدى الناخبين، فإن غياب الكاريزما قد يكون أمرا مفهوما. ومع ذلك، تجد بادينوك نفسها الآن في خضم صراع على النفوذ مع شخصية قلقة في حكومة الظل المحافظة، منافسها السابق على زعامة الحزب، روبرت جنريك.
لقد ألقت خطابا قويا ومتماسكا، نال ما يستحق من التصفيق التقليدي، ولكن أداء جنريك هو الذي هزّ أجواء المؤتمر الراكد. فقد أضفى عليه روحا من الدعابة والثقة، بل واستعان بإكسسوار بصري، باروكة قاضٍ، ليُجسّد غضبه مما وصفه بـ"القضاة النشطاء". وعلى خلاف زعيمته، أطلق جنريك هجوما صاخبا على ستارمر، ساخرًا منه بوصفه مجرد مدير على طريقة ديفيد برنت من مسلسل "The Office".
وقد صبّ جنريك جام غضبه في سلسلة متلاحقة من العبارات، ومما قال: "لقد أثبت أنه زعيم لا يستحق منصبه. يلهث وراء المجانية، يخنق حرية التعبير، يطلق سراح المجرمين، يرفع الضرائب، يزدري المزارعين، يخون بريكست، ويقوّض الطموح. إنه شخص يجعل الفراغ يبدو ذا قيمة...".
واستمر في سيل مشابه من الانتقاد اللاذع والسريع، الذي يعجز التحليل عن ملاحقته، إذ لا يترك لك وقتا كافيا للتأمل أو التبصّر.
وكأن ذلك لم يكن كافيا، فقد اشتكى جنريك لاحقا، في اجتماع داخلي، من أنه كان "الوجه الأبيض الوحيد" خلال زيارة إلى هاندزورث، أحد أحياء برمنغهام ذات الأغلبية السوداء والآسيوية. وما كان ذلك بالتصريح الحكيم، خصوصا حين تكون زعيمة حزبك ذات بشرة سمراء. وقد أثار هذا التعليق غضبا واسعا بين السكان، وليس بدون وجه حق.
وهكذا تحققت الغاية. كان تعليق جنريك بشأن هاندزورث صفارة عنصرية كلاسيكية، نافذة في حدّتها، لا تقل عن أي صفارة قد يطلقها فاراج نفسه. 

font change