30 عاما على رحيل غونفور هوفمو أيقونة الشعر النروجي

استثمرت أمثولات الحداثة لترجمة تجربتها الوجودية الرهيبة

بورتريه غونفور هوفمو

30 عاما على رحيل غونفور هوفمو أيقونة الشعر النروجي

باستثناء سطر واحد على موقع "ويكيبيديا"، لا تتوافر باللغة العربية أي كلمة عن الشاعرة النروجية غونفور هوفمو (1921 – 1995)، على الرغم من كونها أحد أبرز أصوات الشعر النروجي الحديث، ومن مأساة حياتها التي لن نجد أفضل – وأصدق - من "صرخة" مواطنها إدوارد مونخ الصامتة للتعبير عن فصولها المعتمة، وعن الذهان الذي تحكم بمفاصلها.

لذلك، نغتنم اليوم مناسبة مرور 30 عاما بالتمام على رحيل هذه "المتفوقة المجهولة" (العبارة لأندريه بروتون) للتعريف بها وبأبرز محطات مسيرتها، ولإنارة مشروعها الشعري الفريد الذي أثمر عشرين ديوانا، ورسمها كاهنة، لا بل أيقونة حية أبدا في معبد الشعر الحديث.

من حياة هوفمو، نحفظ أولا ولادتها ونشأتها في أوسلو داخل عائلة من الطبقة العاملة، بين الاشتراكيين والشيوعيين، وانطلاق مسيرتها الشعرية باكرا، عبر إرسال قصائدها الأولى إلى صحف ومجلات مختلفة، من بينها قصيدة أهدتها لصديقتها الحميمة آنذاك، روث ماير، وتبدأ على النحو الآتي: "الكلمات، التي تشع في صمتها/ سأعرف كي أجدها/ وأمنحكِ إياها، محفورة لبضع لحظات معًا/ تحت غطاء الأبدية/ كي لا تنسيني أبدا".

مأساة ومصح عقلي

مقتل هذه الصديقة في معسكر أوشفيتز في سن الـ 22، بعد اعتقالها في أوسلو، ما لبث أن تحول إلى مأساة مركزية في حياة هوفمو، أدخلتها منذ عام 1943 إلى مصح عقلي، مدشنة صراعا ثابتا ومؤلما مع الاكتئاب دام حتى رحيلها. وفعلا، بعد مرحلة ترحال قصيرة في أرجاء أوروبا، وخطّها مقالات نقدية لامعة مستوحاة من أسفارها، أو مكرّسة للشعر الإسكندنافي، وخمسة دواوين شعرية صدرت بين عامي 1946 و1955، رميت مجددا في مصح عقلي، من عام 1955 إلى عام 1971، إثر معاناتها من فصام بارانويدي كانت نتيجته "16 عاما من الصمت".

بعد خروجها من المصح، وضعت 15 ديوانا شعريا، صدرت بين عامي 1971 و1994، لكن منذ عام 1977، انعزلت كليا في شقتها بأوسلو حتى وفاتها.

مصادر الإلهام الرئيسية لعمل هوفمو الشعري هي عذابات الحرب التي عاشتها في فتوتها، شعور ثابت بالذنب لبقائها على قيد الحياة بعد مقتل صديقتها روث، وغضب جارف من سماء صامتة


مصادر الإلهام الرئيسية لعمل هوفمو الشعري هي عذابات الحرب التي عاشتها في فتوتها، شعور ثابت بالذنب لبقائها على قيد الحياة بعد مقتل صديقتها روث، وغضب جارف من سماء صامتة. أما كتابتها الشعرية، فمينيمالية، مشغولة بأدوات صائغ، مشدودة مثل وتر ربابة. كتابة تصعق بصدقها وحدتها الميتافيزيقية، من دون مغادرة دائرة الحميمي، وبذلك الصوت الهامس، المهيب، الذي يرتفع داخلها، ويبدو كأنه قادم من ظلام دامس. لا عجب إذن في قولها يوما: "أفضل قصيدة هي تلك التي لا نرغب في كتابتها، لأنها باهظة الثمن"، وفي تلقّينا قصائدها مثل نور خافت يلمع داخل عتمة كالحة، وفي مقارنتها على يد بعض النقاد بجورج تراكل ونيلي ساكس وبول تسيلان.

غلاف ديوان أريد أن أعود

منذ ديوان هوفمو الأول، "أريد أن أعود"، تحضر دارماتورجيا الحميمي التي تؤسس لشعرها، كما تشهد على ذلك القصيدة التي منحت هذا الديوان عنوانه: "أريد أن أعود للسكن بين البشر/ مثل ضرير/ ثقبه في العتمة/ بريق الحِداد النجمي". قصيدة تكشف فورا مصدر إبداعها الشعري: "لكني على الجانب الآخر/ حيث شفرات العشب/ أجراس تدق حِدادا، انتظارا مريرا/ أمسك بيد إنسان/ أنظر في عيني إنسان/ لكني على الجانب الآخر/ حيث الإنسان ضباب من الوحدة والقلق".

روث ماير

حالة الحِداد التي عاشتها هوفمو طوال حياتها هي نتيجة فقدانها المبكر لصديقتها الحبيبة: "رأيتُ صديقتي/ الوحيدة، رأيتها/ تذهب إلى الموت/ ومذاك، الأشجار في حِداد/ مذاك، سحب الموت/ جسدي، روحي، صوتي/ إلى عمق محيط اليأس". لكن قراءة قصائدها بهذا الموشور المعتم فقط تبقى ما دون وهجها الناتج أيضا مما تطلبته الشاعرة من الشعر، أي أسمى ما يمكن أن يقدمه للبشر: أسراره، التي هي أسرارهم.

الأمل البصير

فعلا، في هذا المشروع الكتابي الفريد، لا تلمع تلك الثقة الفائضة بسلطة الكلمات بقدر ما يلمع الأمل البصير – إلى حد التمزق – بقول هوفمو نفسها من خلال الكلمات. وفي حياة تنخرها الوحدة، شكلت هذه الكلمات - كلمات قصائدها - الرفيقات الأقرب لها. فمن خلالها، معها، وفيها، عرّت نفسها. وعلى مدار عشرين ديوانا وما يقارب 700 قصيدة، تمكنت من تشييد عالم بأكمله، ومنظور له.

شاعرة الخلود بامتياز، لشخوصها الثابت به وتوقها الثابت إليه، إلا أن الكلمات التي فاضت منها كتبتها من زمنها. كلمات تنتمي إلى هذا الزمن، تعانقه، وفي الوقت نفسه، تنفصل عنه لكونه زمن عالم مقفِر، مدمر، خال من البشر، وخصوصا من الإنسانية، كما يتجلى ذلك بقوة في ديوانيها "عنادل عمياء" (1951) و"وصية للخلود" (1955). كأن أخذ هذه الظلمة الدنيوية في الاعتبار هو الذي يزيد الشعر ضرورة، في نظرها. الشعر الذي، بطريقته الخاصة، يتوق إلى إعادة بناء ما أتلفته الحرب في الإنسان.

تنتمي إلى هذا الزمن، تعانقه، وفي الوقت نفسه، تنفصل عنه لكونه زمن عالم مقفِر، مدمر، خال من البشر، وخصوصا من الإنسانية


بعد هذين الديوانين، صمتت هوفمو ستة عشر عاما، مما جعل من كانوا يعرفونها يعتقدون أنها لن تكتب من جديد. لكم مع صدور "ضيف على الأرض" (1971)، فهم الجميع أن هذا الصمت كان سهلا خصبا توجب على الشاعرة أن تعبره لتكتسب كلماتها بريقا، وقوة، وحيوية، في تربته، وتشهد عليه. لذلك، لم يخطئ مترجمها الفرنسي، الشاعر بيار غروي، في ملاحظته أنه "بثقلها، لا بجاذبيتها، نتعرف إلى هذه الشاعرة التي لديها أشياء خطيرة تقولها، خطيرة لدرجة أنها نأت بنفسها عن النشيد الغنائي حفاظا على شيء من الكلام الكاشف". كأن رحابة النشيد المذكور قد تسلب هذا الكلام حدته وكثافته.

أصوات

من هذا الشاعر، الذي ندين له بنقل أبرز وجوه الشعر الإسكندنافي إلى الفرنسية، نعرف أيضا أنه "حتى في أصالتها، أو على الأقل لبناء هذه الأصالة، تأثرت هوفمو لفترة بأصوات أخرى اعتبرتها مهمة لصقل صوتها الخاص"، كالشاعرة الفنلندية "إديت سودرغران (1892 – 1923) التي استقت هوفمو منها ذلك التوكيد للذات والكتابة بضمير المتكلم، أو الشاعر السويدي غونار إكيلوف (1907 – 1968) الذي استلهمت منه فكرة تلك الدعوة إلى الأرض، أو مواطنها الشاعر تارياي ويساس (1897 – 1970) الذي يقف خلف صورة المركب الليلي، أو ربما أيضا مواطنها الآخر كنوت هامسون (1859 – 1952) الذي تحاكي قصيدتها "طقس ممطر" شخصياته الرومانسية التائهة.

لكن إن كان ثمة صوت تمكن مقارنته بصوت هوفمو على جميع الأصعدة تقريبا، بحسب غروي، فهو صوت الشاعر النرويجي تور تومسون (1916 – 1951): "حتى في صور كل منهما، لدينا ذلك الجانب الكئيب، الذي لا يبعد أبدا عن اليأس الأسود. وفي كلتا الحالتين، انتفاء البهجة الكلي في القصيدة، وكلمات جدية لكائن يدرك أنه هش، غير مستقر، ومصيره التراب".

REUTERS / Lise Aaserud
مدينة أوسلو في يوم شتوي عام 2009

مع ذلك، يجب عدم المبالغة في تقدير ثقل هذه التأثيرات لدى شاعرة لم تقترب أو تدعي الانتماء إلى أي مدرسة أو تيار شعري محدد. فما احتفظت به من الحداثة التي استكشفتها بعمق، استخدمته لتأجيج نار صورها، وهو ما أشار إليه الكاتب والباحث الفرنسي إريك إيدو، المتخصص في الأدب الإسكندنافي، بقوله: "مع تملكها مكتسبات الحداثة، ما لبثت هوفمو أن عززت حسها التشكيلي بغية ترجمة تجربتها الوجودية إلى صور متوهجة". في اختصار، استثمرت هذه الشاعرة الابتكارات الحداثية الجريئة لتحقيق غرضها الخاص.

عالم الأساطير

من المهم أيضا عدم إغفال الحضور القوي للأساطير القديمة وسرديات التوراة في نصوصها، الذي يعكس معرفة واسعة في هذا الموضوع، تفسر مثول الشخصيات الأسطورية والتوراتية في هذه النصوص بشكل شبه طبيعي. لكن على الرغم من أهمية هذه المراجع، تبقى هوفمو مترسخة في زمنها، وحتى في ما بعد زمنها، كما تشهد على ذلك القصائد الحزينة التي كتبتها بعد الحرب العالمية الثانية وتوقعت فيها الحروب القادمة. قصائد يتبين فيها أن الفرح ليس من مفرداتها، وأن هذه الشاعرة المعتمة تشكل خير تجسيد صورة الإسكندنافيين النمطية كشعوب يتسلط عليها الخوف من نهاية العالم بطريقة رهيبة، كما تصور ذلك أسطورة "راغناروك" الشهيرة.

AFP
جنود ألمان أمام القصر الملكي المهجور في أوسلو عام 1940

وهذا ما يقودنا إلى موضوع مركزي في شعر هوفمو، أي الخالق ومخلوقاته، الذي تعكس مقاربتها له وقوفها بطريقة حاسمة، راديكالية، إلى جانب البشر، وتوقها إلى العودة للعيش بينهم، وبالتالي كل إنسانية شعرها. لكن كيف نفسر إذن عزلتها الطوعية المطبقة في شقتها خلال العقدين الأخيرين من حياتها؟

هذه الشاعرة المعتمة تشكل خير تجسيد صورة الإسكندنافيين النمطية كشعوب يتسلط عليها الخوف من نهاية العالم بطريقة رهيبة


بالنسبة إلى هذه المخلوقة الهشة، شكل التواصل مع الواقع دائما مصدر ألم، وهو ما تؤكده شكواها في واحدة من قصائدها: "كنتُ قريبة أكثر من اللزوم من الأشياء". لذلك، كان لا بد لها من مسافة من هذا الواقع، فلجأت، بطريقة إنسانية للغاية، إلى ذلك المكان الذي يقع "على الجانب الآخر" من الواقع، حيث كل شيء عزلة وصمت. مكان لا ترتفع فيه سوى أصوات هسيس ووشوشة سعت الشاعرة إلى ترجمتها في قصائدها انطلاقا "من عوالم أعمق من هذا العالم".

AFP / CARL COURT
اللوحة الشهيرة «الصرخة» لإدفارد مونك في مزاد سوذبيز بلندن

التفسير الآخر لعزلة هوفمو هو أنها لم تكن يوما شخصية عامة، بل كانت كائنا خجولا، كما تشهد على ذلك الصور الفوتوغرافية النادرة لها، حيث يظهر على وجهها كل حزنها وعفتها. ومع أنها كتبت يوما: "دائما، حتى في الأحلام، كان الانفتاح قانونا لي"، وكانت تعني ذلك، إلا أنها ظلت حتى رحيلها كائنا ليليا يعيش ويرى في وهج الظلام: "ينغلق فم المساء/ لكن همسه يتردد/ بين الأشجار والصخور/ يهسّ بالخالد/ بالليل القادم/ حيث تُريك البروق، الواحد تلو الآخر/ مشهد العالم".

font change

مقالات ذات صلة