نوبل للاقتصاد 2025 تذهب لثلاثي كشف سر النمو الاقتصادي

من فأس الإنسان الأول إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي...

مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لكل من الأميركي جويل موكير، والفرنسي فيليب أغيون، والكندي بيتر هويت

نوبل للاقتصاد 2025 تذهب لثلاثي كشف سر النمو الاقتصادي

اختارت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم أن تمنح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2025 لثلاثة من كبار العقول التي أعادت رسم خريطة الفكر الاقتصادي الحديث هم الأميركي جويل موكير والفرنسي فيليب أغيون والكندي بيتر هاويت. جاء التكريم هذه المرة "لشرحهم النمو الاقتصادي القائم على الابتكار"، وهي عبارة تبدو بسيطة، لكنها تختزن في داخلها قصة البشرية ذاتها: كيف انتقل الإنسان من قرون من الركود إلى قرنين من الازدهار المتواصل، وكيف تحول "الابتكار" من مصادفة إلى نظام.

وقد نال موكير نصف الجائزة تقديرا لأعماله التي حددت الشروط التاريخية والمعرفية للنمو المستدام عبر التقدم التكنولوجي، فيما تقاسم أغيون وهاويت النصف الآخر عن صوغهما الرياضي لنظرية النمو القائم على "التدمير الخلاق"، أي العملية التي يولد فيها الجديد على أنقاض القديم. بهذا الجمع بين المؤرخ الاقتصادي والمنظر الرياضي، بدت الجائزة هذا العام كجسر بين الماضي والمستقبل، بين من درس كيف بدأت النهضة، ومن حاول أن يفهم كيف يمكن أن تستمر.

الركود هو القاعدة

منذ اللحظة التي رفع فيها الإنسان الأول فأسه الحجري ليعيد تشكيل الطبيعة بيده، بدأ خيط طويل يمتد حتى خوارزميات التعلم العميق اليوم، خيط لا تصنعه الأدوات بقدر ما تصنعه الرغبة العميقة في تجاوز الحاضر.

وفي غالبية صفحات التاريخ الإنساني، كان الركود هو القاعدة، والنمو هو الاستثناء النادر الذي يذكر كما تذكر المعجزات. لآلاف السنين، لم يعرف البشر سوى اقتصاد يدور في حلقة مغلقة من الإنتاج المحدود، والاستهلاك المحدود، ومجتمعات تتغير ببطء كأن الزمن نفسه يمشي على أطراف أصابعه. كانت الزراعة تحدد الإيقاع، والمواسم تحكم الحياة، فلا مكان لفكرة "النمو الدائم" التي صارت اليوم من بديهيات الفكر الاقتصادي. كان العالم يعيش في نوع من الركود الأبدي، لكنه ركود مستقر، يعرف حدوده ويحترمها.

ثم، فجأة، انفتح الباب. خلال قرنين فقط — لحظة في مقاييس التاريخ الطويل — قفزت البشرية إلى مدار جديد، من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد الوفرة، ومن الثبات إلى التراكم، ومن المعيش إلى الإنتاج. حدث شيء يشبه الانفجار الكوني، لكن هذه المرة في عالم الأفكار والمؤسسات. لم تكن الثورة الصناعية مجرد طفرة تكنولوجية، بل ولادة لفكرة جديدة عن الزمن ذاته، أن المستقبل يمكن أن يكون أفضل دائما، وأن الغد ليس تكرارا للأمس بل قطيعة معه. ومنذ تلك اللحظة، صار "التقدم" هو القاعدة، لا الاستثناء؛ وصارت المجتمعات تقاس بقدرتها على النمو، لا بقدرتها على البقاء.

حين يصبح التغيير شرطا للبقاء، يصبح العالم كائنا يعيش على استنزاف ذاته. كل دورة ابتكار تخلف وراءها أطلالا من صناعات ومهن وأفكار لم يعد لها مكان، كما لو أن التاريخ الحديث يسير على أنقاض نفسه


لكن في قلب هذا الانفجار، تكمن المفارقة الكبرى، فكيف تحول الاقتصاد من نظام يبحث عن التوازن إلى نظام يعيش على الاختلال؟ كيف صار التدمير شرطا للبقاء؟ هنا بالضبط يولد مفهوم "التدمير الخلاق" الذي صاغه جوزيف شومبيتر في النصف الأول من القرن العشرين، ليصف آلية التاريخ الحديث مؤكدا أن كل ابتكار يدمر ما قبله، وكل ولادة اقتصادية ترافقها جنازة قديمة. فالمصنع يقتل الورشة، والمحرك ينسف الحرفة، والشركة العملاقة تبتلع السوق الصغيرة. إنه قانون التقدم الذي لا يعرف الرحمة، لكنه أيضا سر الحيوية التي جعلت العالم الحديث يدور بلا توقف.

تلك الفكرة — رغم قسوتها — شكلت الأساس الفلسفي لعصرنا، التي ترى أن التغيير قيمة بحد ذاته، وأن البقاء للأصلح لم يعد بيولوجيا فقط بل اقتصادي أيضا. وهكذا أصبح "الاستقرار" مرادفا للتراجع، وصار النمو المتواصل هو المعيار الوحيد للنجاح.

لكن للتدمير الخلاق وجها آخر لا يرى بسهولة، وجها أكثر خفوتا لكنه لا يقل تأثيرا. فحين يصبح التغيير شرطا للبقاء، يصبح العالم كائنا يعيش على استنزاف ذاته. كل دورة ابتكار تخلف وراءها أطلالا من صناعات ومهن وأفكار لم يعد لها مكان، كما لو أن التاريخ الحديث يسير على أنقاض نفسه. هنا تبدأ الشيخوخة الحضارية في التشكل، ليس في الأفراد بل في البنى نفسها، وفي النظم التي استهلكت طاقتها الحيوية في سباق لا يعرف الراحة. التدمير الخلاق ينجب شبابا دائما من رحم الفناء، لكنه أيضا يزرع بذور الإنهاك في قلب الحضارة.

REUTERS
مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لكل من الأميركي جويل موكير، والفرنسي فيليب أغيون، والكندي بيتر هويت

وتلك هي مفارقة للتقدم أن يشيخ العالم وهو يركض. فالمجتمعات التي كانت تخاف الركود أصبحت تخاف البطء، ثم أصبحت تخاف التوقف ولو لحظة للتفكير في وجهتها. وهنا يتحول النمو من وسيلة إلى عبء، من وعد بالتحسن إلى التزام لا يطاق. وما نراه اليوم من أزمات اقتصادية متكررة، ومن قلق وجودي يرافق حتى أكثر الدول ثراء، ليس سوى أعراض الشيخوخة المبكرة لهذا النظام الذي نسي كيف يهدأ.

في هذا المعنى، لا يعود التدمير الخلاق مجرد آلية اقتصادية، بل يعود قدرا حضاريا. وكل حضارة، كما الإنسان، تمر بطفولة مبدعة، وشباب متمرد، ثم كهولة تراجع فيها نفسها وتسأل: إلى أين نمضي؟ وما الغاية من كل هذا الجري؟ وهنا بالضبط تبدأ قصة الشيخوخة الاقتصادية لا كأزمة أرقام، بل كأزمة معنى.

لقد أطلق التنوير الأوروبي عملية تحول عميقة بعد أن أعاد تعريف معنى "المعرفة" نفسها. فبعد أن كانت غاية لذاتها في زمن أرسطو وديكارت، أصبحت وسيلة لتحسين شروط الحياة اليومية


حين يتحدث جويل موكير عن النهضة الصناعية، لا يراها مجرد حكاية آلات وبخار ومصانع، بل قصة أفكار تغيرت، ومجتمع تعلم أن يتسامح مع المجهول. في نظره، الثورة الصناعية لم تبدأ في المناجم ولا في الموانئ، بل في العقول. في مكان ما بين الورشة والمكتبة، بين الحرفي الذي يجرب والعالم الذي يتأمل، ولدت الفكرة التي غيرت مصير العالم تؤكد أن المعرفة يمكن أن تكون نافعة، وأن النظرية ليست ترفا، بل وسيلة لتحسين الحياة. تلك اللحظة الفكرية، حين تصافح "المعرفة النظرية" و"المعرفة العملية" كانت الشرارة الحقيقية لنهضة لا تنتهي.

في القرن الثامن عشر، تحولت بريطانيا إلى ما يشبه الورشة المفتوحة الكبرى، حيث لم تعد الفواصل بين الطبقات ولا بين التخصصات حواجز مغلقة. في المرافئ والمقاهي والجمعيات العلمية، كان الحرفيون يتحدثون مع المخترعين، والعلماء مع التجار، والمهندسون مع الفلاسفة. لم يكن "الابتكار" مشروعا رسميا تموله الدولة، بل روحا عامة تسري في الهواء. كان الناس يؤمنون بأن العالم قابل للإصلاح، وأن كل مشكلة يمكن أن تحل بفكرة جديدة. هذه البيئة الثقافية، كما يقول موكير هي التي صنعت الثورة، لا الفحم ولا الحديد.

لقد أطلق التنوير الأوروبي عملية تحول عميقة بعد أن أعاد تعريف معنى "المعرفة" نفسها. فبعد أن كانت غاية لذاتها في زمن أرسطو وديكارت، أصبحت وسيلة لتحسين شروط الحياة اليومية. العلم خرج من جدران الأكاديميات إلى الورش والمصانع، وصارت التجربة اليدوية تلتقي بالتفكير النظري في مساحة واحدة من الفضول والإيمان بالعقل. وهنا تكمن عبقرية المجتمع الإنكليزي في تلك الحقبة: أنه لم يقدس الماضي، لكنه لم يهدمه أيضا بل استخدمه قاعدة للقفز نحو المستقبل.

ولعل أجمل ما في فكر موكير هو أنه يذكرنا بأن التقدم ليس سلسلة اختراعات، بل منظومة قيم. السماح بالخطأ شرط للإبداع، والشك أحيانا أكثر خصوبة من اليقين. لقد خلق التنوير مجتمعا يتصالح مع الفشل ويحتفي بالمحاولة، مجتمعا يرى في المجهول فرصة لا خطرا، ومن هذا التصالح مع اللايقين خرجت موجة الاكتشافات التي غيرت وجه الاقتصاد والعلم والسياسة.

وحين نتابع هذا الخيط من البخار إلى البرمجة، نكتشف أن العلاقة بين العلم والتجارة لم تتغير جوهريا، بل تمددت فحسب. فكما كان المخترع الفيكتوري يجرب تحسين المحرك البخاري ليكسب قوته، يفعل المبرمج المعاصر الشيء نفسه حين يبتكر خوارزمية جديدة تختصر بها عمليات الإنتاج أو تخلق بها أسواقا رقمية. في الحالتين، تتحول الفكرة إلى سلعة، والعقل يصبح أداة إنتاج ولا يقاس التقدم هنا بما نملك من آلات، بل بقدرتنا على تحويل المعرفة إلى طاقة حية تحرك العالم.

منذ أن صاغ جوزيف شومبيتر مفهوم "التدمير الخلاق" لم يعد الابتكار مجرد عملية اقتصادية لتحسين المنتج أو خفض الكلفة. صار ظاهرة اجتماعية شاملة تمس نسيج الحياة اليومية وتعيد رسم حدود السلطة والفرص

في هذا المعنى، كان موكير يرى أن "النهضة لا تنتهي" ما دام المجتمع يحتفظ بقدرته على الربط بين النظرية والتطبيق، وبين الحلم والفعل، وبين الخيال والعائد الاقتصادي. إنها معادلة دقيقة، لكنها وحدها التي تجعل الحضارة قادرة على التجدد بدل الاكتفاء بتكرار نفسها.

أما حين نشر فيليب أغيون وبيتر هاويت نموذجهما الرياضي عام 1992، كانا يقدمان ما يشبه "خريطة وراثية" للاقتصاد الحديث. فبدل أن ينظر النموذج إلى التقدم كتدفق خارجي يأتي من السماء — كما افترضت النماذج الكلاسيكية — قدماه بوصفه عملية داخلية، تنبع من رحم السوق نفسها. السوق هنا ليست مسرحا للمنافسة فقط، بل كائن حي يعيش بالتجدد. كل شركة تحاول أن تبتكر لا لترضي فضولها العلمي، بل لتتفوق على من قبلها، ولتزيح منافسا عن مكانه في "السلم التكنولوجي" الذي ترتكز عليه بنية الاقتصاد.

سرعة الانقلابات

الفكرة الأساس بسيطة في ظاهرها، لكنها ثورية في جوهرها، فكل ابتكار جديد يخلق قيمة مضافة لكنه في الوقت نفسه يدمر القيمة القديمة. فالشركات التي تتسلق درجات السلم بمنتجات أكثر كفاءة تستحوذ على السوق، بينما تسقط الشركات العاجزة عن الابتكار إلى القاع. وهكذا يتحول الاقتصاد إلى نظام ديناميكي لا يعرف السكون، حيث يولد نفسه من خلال صراع دائم بين القديم والجديد. التقدم إذن ليس نتيجة تراكم بطيء، بل سلسلة متواصلة من "انقلابات صغيرة" في التكنولوجيا والمعرفة.

في نموذج أغيون وهاويت يقاس النمو الاقتصادي بمدى سرعة هذه الانقلابات — أي بسرعة الابتكار. وكل ابتكار يولد بدوره أرباحا مؤقتة هي "جائزة الفوز"، لكنها لا تدوم طويلا، لأن الابتكار القادم سيقلب القواعد من جديد. إنها دورة حياة قصيرة ومتوترة، لكن فيها يكمن سر الحيوية الاقتصادية. فكل شركة تعرف أنها إن توقفت لحظة واحدة عن التسلق، فمصيرها السقوط.

REUTERS
صورة ميدالية جائزة نوبل، قبل إعلان جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، في ستوكهولم، السويد، 13 أكتوبر 2025

أما "السلم التكنولوجي" الذي استخدمه أغيون وهاويت كمجاز رياضي، فهو في الحقيقة صورة دقيقة للحضارة الحديثة نفسها. نحن جميعا — أفرادا ومؤسسات ودولا — نتسلق هذا السلم بلا توقف، ونبتكر لكي ننجو، ونسابق الزمن لكي لا نصبح قدامى. لكنه سلم بلا نهاية، وكل درجة جديدة تفتح بابا لسباق أشد قسوة. إنه التدمير الخلاق وقد تحول إلى قانون رياضي، يعيد إنتاج ذاته بلا مركز ولا سقف.

لكن وراء هذا النموذج، يختبئ سؤال إنساني عميق: ما الثمن الذي يدفعه المجتمع مقابل هذا التجدد الدائم؟ فكل ابتكار جديد يحرر طاقة لكنه يخلف أيضا خاسرين — شركات تنهار، مهارات تبلى، ووظائف تختفي. السوق تولد نفسها عبر الابتكار، نعم، لكنها تفعل ذلك بدم بارد، بلا ذاكرة، وكأن الاقتصاد يشيخ بسرعة لأنه لا يعرف التوقف عن الشباب.

منذ أن صاغ جوزيف شومبيتر مفهوم "التدمير الخلاق" لم يعد الابتكار مجرد عملية اقتصادية لتحسين المنتج أو خفض التكلفة. صار ظاهرة اجتماعية شاملة تمس نسيج الحياة اليومية وتعيد رسم حدود السلطة والفرص. فكل ابتكار جديد لا يبدل فقط ما نشتريه أو ننتجه، بل يبدل من نكون — من يمتلك القوة، ومن يقصى إلى الهامش. حين دخلت الآلة البخارية المصانع، تغير شكل العمل ذاته، وحين دخلت الخوارزميات الأسواق، تغيرت وظيفة الإنسان في الاقتصاد. هكذا يتحول التقدم من ظاهرة تقنية إلى حدث اجتماعي يعيد توزيع الأدوار والمصائر.

الإفراط في الأمان يقتل روح الابتكار، والإفراط في المنافسة يحول الاقتصاد إلى غابة اجتماعية

لكن التدمير الخلاق، كما يقول أغيون وهاويت، لا يعرف الرحمة. فكل خطوة نحو الأمام تترك وراءها خاسرين، عمالا فقدوا مهاراتهم، وشركات فقدت مكانها، ومجتمعات محلية فقدت هويتها الاقتصادية. السؤال إذن ليس كيف نسرع الابتكار، بل كيف نبطئ آثاره المدمرة دون أن نكسر روحه؟ هنا يظهر مفهوم المرونة الآمنة، وهو نظام تبنته بعض الدول الأوروبية — خاصة الدانمارك — يقوم على معادلة دقيقة أهمها حماية العامل لا الوظيفة. أي أن المجتمع يضمن للفرد الأمان في مواجهة الخسارة، لكنه لا يحميه من التغيير نفسه. فحين تغلق شركة، لا تغلق معها حياة الناس، لأن الدولة تساعدهم في الانتقال إلى وظائف جديدة، وتستثمر في إعادة تدريبهم.

في هذا المعنى، تصبح السياسة الاقتصادية فنا للتوازن بين الحماية والمجازفة. لأن الإفراط في الأمان يقتل روح الابتكار، والإفراط في المنافسة يحول الاقتصاد إلى غابة اجتماعية. الحكومات لا تستطيع أن تنبت الإبداع بأمر إداري، لكنها تستطيع أن تخلق تربة خصبة له مثل تعليم جيد، ونظام قانوني مستقر، ومؤسسات تحمي حرية البحث، وثقافة لا تجرم الفشل بل تعتبره تجربة. إنها أشبه بمهندس البنية التحتية للنمو الذي لا يزرع الأشجار، لكنه يصلح الأرض حتى تنمو.

وربما هنا يكمن أحد دروس القرن الحادي والعشرين، أن النمو لا يقاس فقط بالناتج المحلي، بل أيضا بمدى قدرة المجتمع على امتصاص الصدمات التي يولدها التقدم. كل اختراع جديد يفتح بابا لمستقبل أكثر إشراقا، لكنه في الوقت نفسه يغلق أبوابا أخرى — لأجيال، ولمهن، ولطرائق حياة كانت ذات يوم راسخة. فهل يمكن أن نحلم بتقدم لا يدهس من يتأخر؟ وهل يستطيع النظام الرأسمالي أن يتعلم الرحمة دون أن يفقد شغفه بالمغامرة؟ تلك معادلة لا تقل تعقيدا عن نموذج أغيون وهاويت نفسه، لكنها أكثر إنسانية بما لا يقاس.

في تصور موكير المستقبلي، قد يكون الذكاء الاصطناعي هو المرحلة الثانية من عصر التنوير. فكما مكنت أدوات القياس والملاحظة العلماء من كشف قوانين الطبيعة، تمكننا الآن أدوات التحليل الذكي من كشف الأنماط الخفية في السلوك البشري والاقتصاد والمجتمع. إنها عودة الى فكرة "المعرفة النافعة"، ولكن بوتيرة غير مسبوقة. فبينما احتاجت البشرية قرونا لتراكم ما يكفي من العلم لتشغيل محرك بخاري، فإنها اليوم تراكم معرفة جديدة في كل لحظة، بفعل شبكات التعلم الآلي. في هذا المعنى، الذكاء الاصطناعي ليس مجرد اختراع، بل آلية لتسريع الابتكار نفسه، وكأن التاريخ قرر أن يضغط زر "التسريع المزدوج".

لكن هنا تبرز المفارقة التي لم تغب عن ذهن موكير ولا عن تلاميذ مدرسة النمو الحديث. فالنمو الدائم لا يعني الاستدامة، والتقدم التكنولوجي الذي يضاعف الإنتاج، يضاعف أيضا استهلاك الموارد. وكل قفزة في الكفاءة تحمل في طياتها خطر الإفراط، وكل توسع في الإمكانات يولد ظلا بيئيا أعمق. العالم الذي يستطيع أن يحسن كل شيء، يجد نفسه فجأة عاجزا عن السيطرة على نتائجه. من المناخ إلى المياه إلى استنزاف المعادن، بدأنا نكتشف أن النمو اللانهائي في كوكب محدود الموارد هو معادلة مستحيلة  أو على الأقل معادلة تحتاج إلى إعادة تعريف جذرية لمعنى "النمو" نفسه.

الذكاء الاصطناعي، في نظر بعض المفكرين الاقتصاديين المعاصرين كجويل موكير، ليس مجرد ثورة صناعية جديدة، بل منعطف تاريخي يعيد تعريف العلاقة القديمة بين العلم النظري والمعرفة النافعة

وهنا يبدأ النقاش الأخلاقي الذي طالما أجلناه، هل كل ابتكار هو بالضرورة خير؟ وهل يمكن أن يصبح التقدم ذاته خطرا وجوديا؟ من الذكاء الاصطناعي إلى التعديل الجيني، تتسع الهوة بين ما نستطيع فعله وما ينبغي أن نفعله. بعض التقنيين يراهنون على فكرة "التصحيح الذاتي" — أي أن التكنولوجيا قادرة على معالجة آثارها بنفسها. فالذكاء الاصطناعي سيحل أزمة الطاقة عبر كفاءة التشغيل، والهندسة الحيوية ستصلح ما أفسده التلوث، والاقتصاد الدائري سيعيد تدوير موارده تلقائيا. إنها رؤية مريحة، لكنها رومانسية أكثر مما ينبغي، فالتاريخ يخبرنا أن التكنولوجيا لا تصحح نفسها إلا بعد أن تحدث الضرر أولا، وأنها تحتاج دوما إلى يد بشرية تعيد توجيهها.

لذلك، لا مفر من العودة إلى السياسات العامة بوصفها صمام الأمان الوحيد في مواجهة الاندفاع التقني. فكما احتاجت الثورة الصناعية إلى قوانين العمل والضمان الاجتماعي لحماية الإنسان من الآلة، تحتاج الثورة الرقمية إلى تشريعات بيئية وأخلاقية تحمي الكوكب من الإنسان. التكنولوجيا وحدها لا تملك ضميرا، أما السياسات فهي محاولتنا الدائمة لإعطائها ضميرا. وربما يكون التحدي الأكبر أمام القرن الحادي والعشرين هو كيف نصنع نظاما عالميا للنمو الواعي — نمو يعرف حدوده، ويوازن بين السرعة والحكمة، بين الطموح والبقاء.

REUTERS

والذكاء الاصطناعي، في نظر بعض المفكرين الاقتصاديين المعاصرين كجويل موكير، ليس مجرد ثورة صناعية جديدة، بل منعطف تاريخي يعيد تعريف العلاقة القديمة بين العلم النظري والمعرفة النافعة. فكما جسد القرن الثامن عشر لحظة التحام بين التجريب العلمي والطموح التجاري، يبدو أن القرن الحادي والعشرين يشهد ولادة علاقة جديدة بين الخوارزميات والمجتمع، بين التجريد الرياضي والممارسة الاقتصادية. الذكاء الاصطناعي هنا ليس أداة إنتاج فحسب، بل جسر معرفي يصل المختبر بسوق العمل، ويمتد من عقل الباحث إلى سلوك المستهلك، بما يجعل فكرة "النمو" نفسها أكثر تعقيدا وتداخلا من أي وقت مضى.

نقاش أخلاقي

لكن المفارقة العميقة في هذا التحول أن النمو الدائم لا يعني بالضرورة الاستدامة البيئية أو الإنسانية. فبينما تقاس مكاسب الابتكار اليوم بسرعته وقدرته على مضاعفة الكفاءة، تتزايد خسائره غير المرئية في صورة استنزاف للموارد الطبيعية وتآكل لخصوصية الإنسان ومعناه. الذكاء الاصطناعي الذي يقول بزيادة الإنتاجية، يفرض في الوقت نفسه أسئلة أخلاقية غير مسبوقة، فمن يملك الحق في البيانات؟ ومن يتحمل المسؤولية عن أخطاء الآلات؟ وهل يمكن أن ينمو اقتصاد يعتمد على أنظمة لا تفهم الأخلاق لكنها تملك القدرة على اتخاذ القرار؟

هنا يتقاطع النقاش الأخلاقي حول الابتكار مع جوهر فكرة "التقدم" نفسها. فالتاريخ علمنا أن كل ثورة تقنية كانت تفتح أبوابا للتغيير كما تفتح أبوابا للخطر — من البخار إلى الذرة، ومن الكهرباء إلى الكود. الجديد في عصر الذكاء الاصطناعي أن الخطر لم يعد خارجيا فحسب، بل أصبح كامنا في قلب العملية المعرفية نفسها: قدرة الإنسان على إعادة إنتاج ذاته معرفيا من خلال آلة قد تفوقه فهما وسرعة.

ومع ذلك، تبقى هناك قوة تصحيحية كامنة في المسار البشري نفسه — ما يمكن تسميته بـ"التصحيح الذاتي للتكنولوجيا". فكلما تجاوزت الابتكارات حدودها، نشأت حركات فكرية وتشريعية وأخلاقية لإعادة توازنها. لكن السؤال الذي يطرحه العصر الحديث هو ما إذا كان هذا التصحيح البشري سيبقى قادرا على مواكبة سرعة التغيير التقني. فبينما تتحرك الخوارزميات بسرعة الضوء، تتحرك المؤسسات السياسية بسرعة التاريخ.

بعد قرون من الانبهار بالقوة، ربما حان الوقت لنعيد النظر في معنى الغاية. نحن في حاجة إلى رؤية أكثر إنسانية للنمو 

لهذا تبدو الحاجة اليوم إلى سياسات عامة ذكية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، سياسات لا تخنق الابتكار باسم الحذر، ولا تطلقه بلا كوابح باسم السوق. فالمستقبل الذي ينتظرنا ليس صراعا بين الإنسان والآلة، بل تفاوض مستمر بينهما حول معنى التقدم ذاته: هل هو تراكم للقدرات؟ أم ارتقاء في الوعي بما نصنع؟

إن قصة النمو، في جوهرها، ليست حكاية عن الأسواق أو المصانع أو معدلات الناتج المحلي، بل عن نزعة بشرية قديمة تقاوم السكون، تبحث دائما عن ضوء أبعد وأفق أوسع. وكل مرحلة من مراحل التاريخ لم تكن سوى محاولة جديدة لإعادة تعريف معنى "الإمكان".

لكن ما كان نادرا صار اليوم إيقاعا يوميا. لقد تحول "الابتكار" من حدث استثنائي يهز عصورا بأكملها، إلى نظام حياة لا يتوقف عن إعادة تشكيل نفسه. في القرون الماضية، كان الاكتشاف يولد من مصادفة عبقرية أو لحظة إلهام في عقل عالم منعزل، أما الآن فقد أصبح الابتكار آلية اجتماعية منظمة — تغذيها مختبرات، وتمولها الشركات، وتقاس بالعائد على الاستثمار. ورغم أن هذا التحول صنع ازدهارا غير مسبوق، إلا أنه أفرغ "الدهشة" من معناها، وجعلنا أسرى سباق دائم مع الزمن لا نملك فيه ترف التوقف للتأمل.

وهنا تكمن هشاشة هذه الآلة الحضارية. ماذا لو توقفت عجلة "التدمير الخلاق"؟ ماذا لو شاخت مجتمعاتنا معرفيا، فاكتفت بما وصلت إليه بدلا من أن تخترع مستقبلها؟ إن التاريخ يخبرنا أن الحضارات لا تموت حين تفتقر إلى الموارد، بل حين تفقد شهيتها الى المغامرة. فكل ابتكار هو في جوهره قفزة إيمانية في المجهول، وكل تراجع عن الإبداع هو شكل من أشكال الخوف المقنع.

ومع ذلك، لا يمكن أن يبقى النمو هدفا في ذاته. فبعد قرون من الانبهار بالقوة، ربما حان الوقت لنعيد النظر في معنى الغاية. نحن في حاجة إلى رؤية أكثر إنسانية للنمو — رؤية تعيد التوازن بين المعرفة والمغزى، بين الكفاءة والكرامة، بين السرعة والمعنى. فالعقل الذي اخترع الآلة يجب أن يظل أقدر منها على طرح السؤال: إلى أين نمضي بكل هذا التقدم؟

font change

مقالات ذات صلة