أم كلثوم ظاهرة عابرة للأجيال في معرضين فنيين بالقاهرة

لمناسبة ذكرى رحيلها الخمسين

STEPHANE DE SAKUTIN / AFP
STEPHANE DE SAKUTIN / AFP
زاوية مخصصة لأم كلثوم ضمن معرض "Divas" في معهد العالم العربي بباريس عام 2021

أم كلثوم ظاهرة عابرة للأجيال في معرضين فنيين بالقاهرة

عادت "كوكب الشرق" أم كلثوم لتملأ مصر بحضورها الآسر، لمناسبة خمسين عاما على رحيلها، من خلال معرضين فنيين، حمل الأول، وهو معرض جماعي، عنوان "أم كلثوم صوت مصر"، وافتتح في سبتمبر/ أيلول ويستمر حتى منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أما الثاني فمعرض فردي للفنان طه قرني بعنوان "أم كلثوم فوق الرأس".

يأتي كلا المعرضين ضمن سلسلة فعاليات فنية وثقافية تحتفي بأم كلثوم، بالتزامن مع إعلان وزارة الثقافة المصرية عام 2025 "عام أم كلثوم"، وهما يصحبان الزوار في رحلة زمنية تستعيد سيرة سيدة الغناء العربي، ليس فقط كصوت خلدته الأجيال، بل كرمز ثقافي وفني ارتبط بتاريخ مصر وجمهورها العربي.

صوت مصر

تتنوع المعروضات في "أم كلثوم صوت مصر"، المقام في مجمع الفنون بالزمالك – "قصر عائشة فهمي"، بين الصور النادرة والمقتنيات الشخصية والملابس التي ارتدتها على خشبات المسارح، وبين تسجيلات لأغانيها وأفلامها، ووثائق نادرة ترصد محطات حياتها ومسيرتها الفنية، فضلا عن تسجيلات صوتية ومرئية تعيد إلى الأذهان لحظات من مجدها الفني.

ويؤكد القائمون على المعرض أن الهدف من هذه الفعالية ليس فقط تكريم أم كلثوم كرمز فني خالد، إنما أيضا إبراز دورها في تشكيل الهوية الموسيقية لمصر والعالم العربي، حيث ظل صوتها لعقود طويلة معبرا عن ملامح العصر.

يشكل المعرض مساحة فنية نابضة تجمع 29 فنانا من مدارس واتجاهات مختلفة، قدموا أعمالا في التصوير والنحت تجسّد سحر أم كلثوم، وتعكس أثرها الفني والثقافي العميق

يتيح المعرض للزوار رحلة بصرية وروحية، تتوّجها قاعة توثيقية تعرض صفحات من الصحف والمجلات المصرية والكتب على مدى قرن كامل، لتروي بحضورها الأصيل تفاصيل المسيرة الاستثنائية لـ"كوكب الشرق" فنيا وإنسانيا.

Khaled DESOUKI / AFP
زوار يتأملون صورا ورسائل ووثائق تخص أم كلثوم في متحفها بالقاهرة، بعد 50 عاما على رحيل أسطورة الغناء العربي

ولا يقتصر هذا الجانب من المعرض على عرض الصحف القديمة، وملصقات الأفلام، وتذاكر الحفلات، والصور النادرة، والتسجيلات الصوتية، والكتب والمقتنيات الشخصية التي أعارها هواة الجمع خصيصا للحدث، بل يمتد ليضم جانبا من مذكرات "كوكب الشرق" التي صاغها بريشته الفنان الكبير بيكار، إلى جانب مجموعة ثمينة من مقتنيات متحف أم كلثوم بالمنيل، من بينها فساتينها الشهيرة، وأحذيتها وحقائبها ونظاراتها الأيقونية التي شكلت جزءا من هويتها البصرية الخالدة.

FB
مذكرات أم كلثوم بريشة بيكار

يعكس هذا التعاون المثمر بين متحف أم كلثوم وقطاع صندوق التنمية الثقافية ومكتبة البلدية بالإسكندرية، حرص القائمين على المعرض على تقديم تجربة غنية تتيح للزائرين التفاعل مع إرث أم كلثوم الفني والإنساني، في رؤية جديدة تعيد تقديمها كرمز يعبر عن صوت مصر الثقافي والإبداعي الممتد عبر الأجيال.

Khaled DESOUKI / AFP
زائرة تدخل القاعة التي تُعرض فيها فساتين أم كلثوم في متحفها بالقاهرة، بعد 50 عاما على رحيل أسطورة الغناء العربي

جسر زمني وفني

في موازاة الجانب التوثيقي، يشكل المعرض مساحة فنية نابضة تجمع 29 فنانا من مدارس واتجاهات مختلفة، قدموا أعمالا في التصوير والنحت تجسّد سحر أم كلثوم، وتعكس أثرها الفني والثقافي العميق. فتتجاور أعمال الرواد الكبار مثل سيف وانلي، الذي خلد المشهد المسرحي لأم كلثوم وفرقتها، وصلاح طاهر وحسين بيكار وجمال السجيني، مع إبداعات فنانين معاصرين قدموا قراءاتهم الخاصة لتجربة "كوكب الشرق".

تتنوع الوسائط بين الرسم والنحت والكولاج والفيديو، لتتحول القاعة إلى فضاء حواري نابض، تتلاقى فيه الأزمنة والرؤى، في معزوفة بصرية تستعيد صوت مصر وتعيد صوغه بلغة الفن الحديث.

وتستحضر لوحة الفنان طاهر عبد العظيم مشهد الفرقة الموسيقية بوصفها شريكا أصيلا في الأسطورة، إذ تبرز أن "الست" لم تكن ظاهرة فردية، بل ثمرة جماعة فنية وثقافية متكاملة أسهمت في صنع مجدها وترسيخ حضورها في الذاكرة المصرية.

Khaled DESOUKI / AFP
أوسمة نالتها أم كلثوم خلال مسيرتها معروضة في متحفها بالقاهرة، بعد 50 عاما على رحيل أسطورة الغناء العربي

الدكتور وليد قانوش، رئيس قطاع الفنون التشكيلية في مصر، قال لـ"المجلة" إن المعرض "يمثل محطة مهمة وإصدارا مرجعيا يوثق كيف تفاعل مبدعو مصر مع أيقونة لا تغيب عن الوجدان"، مشيرا إلى أن أم كلثوم "ستظل رمزا خالدا للعصر الذهبي للفن والإبداع المصري، ليس فقط بما امتلكته من موهبة وصوت استثنائي، بل أيضا بدورها الوطني المؤثر ومكانتها الراسخة في تاريخ مصر الحديث".

تجربة استثنائية تعيد رسم ملامح "كوكب الشرق" في صوغ بصري مبتكر، تتداخل فيه الفنون التشكيلية مع الأرشيف الصحافي والذاكرة الغنائية

علي سعيد

وقال قانوش إن ذكرى مرور نصف قرن على رحيل أم كلثوم "تستدعي الفخر والاعتزاز بهذا الرمز الذي تجاوز حدود الفن ليصبح جزءا من هوية الأمة". وأوضح أن المعرض يأتي ليمنح الأجيال الجديدة نافذة على عالم أم كلثوم، عبر رحلة بصرية ثرية أعدت بإخلاص وجهد بحثي وفني مضن، لتجسيد مكانتها وتقديم مشهد فني يليق بهذه الأيقونة المصرية.

REUTERS/Ahmed Yosri
الفنانة السعودية نورة بنت سعيدان تضع اللمسات الأخيرة على جدارية لأم كلثوم ضمن فعاليات "موسم الرياض"

ملامح كوكب الشرق

من جانبه أوضح الفنان علي سعيد، مدير عام مراكز الفنون ومنسق المعرض، أن المشروع "يمثل تجربة استثنائية تعيد رسم ملامح كوكب الشرق في صوغ بصري مبتكر، تتداخل فيه الفنون التشكيلية مع الأرشيف الصحافي والذاكرة الغنائية، لتشكل لوحة متكاملة تعكس حضور أم كلثوم كواحدة من أبرز الرموز الثقافية التي طبعت الوجدان المصري والعربي في تاريخه الحديث".

Khaled DESOUKI / AFP
صورة لأم كلثوم مع حقائبها وأحذيتها في متحفها بالقاهرة

وبيّن سعيد أن الإعداد لهذا الحدث استغرق شهورا طويلة من البحث والتنقيب وتتبع حضور هذه الشخصية في الصحافة القديمة من خلال أرشيف مكتبة البلدية، الذي يضم عشرات آلاف الصفحات عن أم كلثوم منذ انطلاقتها الفنية في عشرينات القرن الماضي.

وأشار سعيد إلى أن المعرض يضم أعمالا لفنانين كبار من رموز الحركة التشكيلية المصرية، مثل سيف وانلي الذي التقط بإحساسه التعبيري اللحظة المسرحية المحفورة في ذاكرة المصريين لمشهد أم كلثوم وفرقتها، وصلاح طاهر الذي عبر عن حضورها بعمل رسمه في جلسة خاصة مع أم كلثوم، وحسين بيكار الذي جمع بين الرقة التشكيلية والعمق الإنساني في رؤيته لمذكرات أم كلثوم وهي طفلة على صفحات مجلة "آخر ساعة".

وأوضح سعيد أن المعرض يسعى إلى "كسر القوالب المعتادة فى تناول شخصية كوكب الشرق، إذ لا يكتفي بتوثيق سيرتها أو الاحتفاء برمزيتها، بل ينطلق من رؤية فنية وبحثية تضع أم كلثوم فى سياق جديد، يتجاوز حدود الحنين إلى الماضي، نحو قراءة أعمق لتأثيرها الثقافي الممتد".

واللافت في التجربة أنها لا تكتفي بعرض لوحات أو مقتنيات فنية، بل تمزج بين الفن والبحث التاريخى، لتعيد بناء صورة "الست" كما انعكست في وعي الناس وصحفهم ومقالاتهم على مدار قرن من الزمان. ومن خلال هذا التداخل بين الجمالي والبحثي، يتحول المعرض إلى مساحة استكشاف لعلاقة المجتمع بالفن، ولتطور صورة أم كلثوم في المخيلة الجماعية.

شجرة إبداع

وقال الفنان التشكيلي عبد الوهاب عبد المحسن المشارك في المعرض إنه سعى من خلال لوحته إلى "إظهار أم كلثوم بوصفها شجرة إبداع مصري أصيل عبر التاريخ، فشجرة الجميز المقدسة أو الأم السماوية، هو لقب أطلق على إيزيس وحتور ونوت كرمز لأمومة السماء للإنسان، وفي قلب نقوش الأهرامات المقدسة تتجلى الإلهة حتور سيدة الجمال والموسيقي".

أم كلثوم تمثل الموسيقى التصويرية لكل شارع في مصر، فهي دائما موجودة وتمتزج بها الشخصية المصرية

عماد إبراهيم

أما الفنان مصطفى رحمة، فقال إن "جمهور الست كان له الأثر الكبير في العمل الذي شارك به في المعرض، ولا سيما النساء منهن اللواتي يطربن لتعدد المقامات اللحنية واختلافها ويستقبلن أيامهن بفرح بينما يأتيهن صوت الست من جهاز الفونوغراف أو الراديو".

من جانبه قال الفنان علاء حجازي، إن أم كلثوم "حالة يحياها كل عربي، ويرى من خلال صوتها أحلامه وآماله وعذاباته، ولأننا شعوب يطربها الشجن كانت أم كلثوم 'تتسلطن' بالخروج عن اللحن وعن الكلمات (دون الخروج عن السياق العام للأغنية) لتلقي بالآهات حيث تحمل كل آهة شجن المستمع وسعادته البالغة".

نقيب الفنانين التشكليين طارق الكومي والمشارك بتمثال كبير لسيدة الغناء العربي أم كلثوم في المعرض قال: "كنت في الصف الأول الابتدائي عام 1968 وأثناء ذهابي إلى المدرسة وسماعي لأغنية 'الصبحية ساعة هنية' لأم كلثوم، بدأت تتسرب في داخلي مشاعر وأحاسيس جذبتني بقوة إلى صوت أم كلثوم، ومع الوقت أصبحت من عشاقها مستمتعا بكل مراحل غنائها، من أبو العلا محمد والقصبجي والسنباطي إلى محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي".

Khaled DESOUKI / AFP
تمثال أم كلثوم في حي الزمالك بالقاهرة، بعد 50 عاما على رحيل أسطورة الغناء العربي

ورأى الفنان عماد إبراهيم أن "أم كلثوم ظاهرة تطبع المجتمع المصري بكل طبقاته، وعلى المستوى الشخصي أشعر أنها تمثل الموسيقى التصويرية لكل شارع في مصر، فهي دائما موجودة وتمتزج بها الشخصية المصرية".

ويشكل الكتاب المصاحب للمعرض تحفة فنية هو الآخر، فهو يجمع بين الصورة والوثيقة والنص، ليحكي سيرة أم كلثوم من خلال ذاكرة الصحافة والفن.

الكتاب الذي أعده الدكتور إسلام عاصم عبد الكريم، مسؤول البحث التاريخي والتوثيق، اعتمد على أرشيف نادر من الصحف والمجلات التي عاصرت حضور "الست"، وكوّن من قصاصاتها وصورها أرشيفا غير رسمي، لكنه صادق وحي، يعكس نبض الجمهور ومكانة أم كلثوم فى وجدان عصرها.

"الست فوق الراس"

بالتوازي مع المعرض الجماعي، أقيم في "غاليري آزاد" بالقاهرة معرض فردي للفنان الكبير طه قرني تحت عنوان "الست  فوق الراس"، يقدم فيه مجموعة لوحات زيتية بمنظور "عين الطائر"، أو كما يسميها الفنان "فوق الراس"، التي تمنح المتلقي رؤية بانورامية لأم كلثوم وفرقتها من زاوية علوية فريدة، تكشف أدق التفاصيل وتعيد ترتيب العلاقات البصرية بين مكونات اللوحة، بما يخلق حالة من التلاحم والتفاعل الحيوي بين عناصرها، في تجربة جمالية تمزج بين الدهشة والدقة في آن واحد، حيث تلتقط لوحات قرني حضور أم كلثوم الآسر على المسرح، وتعيد تشكيل المشهد كله: الفرقة الموسيقية، والعازفون، والأجواء التي صنعت ذاكرة جماعية لا تنسى.

أم كلثوم بريشة طه قرني

ويتجاوز المعرض فكرة استحضار صورة أم كلثوم كما رسخت في الذاكرة، إلى إعادة ترجمة موسيقاها وكلماتها وإرثها العاطفي والوطني بلغة بصرية نابضة، تتجسد فيها الألوان والتكوينات كأنها نغمات تُرى بالعين وتُحس بالقلب.

حاولت توظيف التكوين والبناء الفني في تواصل حي مع الموروث الشعبي، رغبة في مزج الفنون التشكيلية بالموسيقى والشعر، لتغدو هذه التجربة البصرية بمثابة تحية فنية خالصة

طه قرني

عن هذا المعرض يقول قرني لـ"المجلة": "أم كلثوم لم تكن مجرد صوت عابر في ذاكرة الفن العربي، بل شكلت بصوتها العذب وإحساسها الفياض على مدى عقود، الوجدان الجمعي العربي، ومن هنا جاءت رغبتي في مقاربة عالمها برؤية تشكيلية مختلفة، حيث سعيت إلى ترجمة هذا الإرث الموسيقي والوجداني إلى لغة اللون والتكوين، بمنظور عين الطائر الذي يتيح تأمل العمل من جميع الزوايا، في كسر متعمد لقوالب اللوحة التقليدية. وقد حاولت توظيف التكوين والبناء الفني في تواصل حي مع الموروث الشعبي، رغبة في مزج الفنون التشكيلية بالموسيقى والشعر، لتغدو هذه التجربة البصرية بمثابة تحية فنية خالصة لـ'الست'".

أم كلثوم بريشة طه قرني

وأشار قرني إلى أنه اختار عنوان "الست فوق الراس" تعبيرا عن المكانة الفريدة التي تحظى بها أم كلثوم في الوجدان العربي، "فهي رمز يتجاوز حدود الزمان والمكان".

font change