ذهب فورت نوكس... هل يطفئ الدين الأميركي؟

توجه لإعادة تقييم إحتياطيات الذهب كأداة استراتيجية لإدارة الدين العام، تعزيز المالية، وإعادة التوازن الى النظام النقدي العالمي

المجلة
المجلة

ذهب فورت نوكس... هل يطفئ الدين الأميركي؟

الارتفاع التاريخي الأخير في أسعار الذهب، إلى جانب الزيادة الملحوظة في مشترياته من المصارف المركزية، واستمرار ارتفاع الدين الوطني الأميركي بوتيرة متسارعة ليتجاوز 38 تريليون دولار، أعادت إحياء فكرة إعادة تقييم الاحتياطيات الذهبية التي تمتلكها الخزانة الأميركية، كوسيلة لجمع الأموال من دون رفع الضرائب أو إصدار سندات دين جديدة.

تعود ملكية الاحتياطات الذهبية الأميركية إلى قانون احتياطي الذهب لعام 1934 الذي صدر في عهد الرئيس فرانكلن روزفلت. وبموجب الأمر التنفيذي رقم 6102، الصادر استنادا إلى هذا القانون، صودر الذهب النقدي من المواطنين لصالح وزارة الخزانة في مقابل تعويضات احتسبت وفق السعر الرسمي للأونصة "تروي" (troy) الذي حدد بـ20.67 دولارا آنذاك.

ذهب فورت نوكس المنسي

ومنذ ذلك الحين، منعت الخزانة والمؤسسات المالية من استبدال الدولار بالذهب، وأودع جزء من الذهب المجمع لدى الاحتياطي الفيدرالي ليحتفظ به نيابة عن الخزانة الأميركية في قاعدة فورت نوكس بولاية كنتاكي، إلى جانب احتياطات أخرى موزعة في أقبية الاحتياطي الفيديرالي بنيويورك ودنفر ووست بوينت.

بعد نحو عام، جرى إعادة تقييم ثانية للذهب، رفع بموجبها سعر الأونصة إلى 35 دولارا. وقد ترتب على ذلك زيادة بنسبة 69 في المئة في ثروة الخزانة الأميركية المستندة إلى احتياطاتها الذهبية، في مقابل انخفاض في قيمة الدولار بنحو 41 في المئة أمام الذهب.

خمس دول فقط أقدمت خلال العقود الثلاثة الماضية على إعادة تقييم احتياطياتها من الذهب، هي: ألمانيا، وإيطاليا، ولبنان، وكوراساو وسانت مارتن، وجنوب أفريقيا

لاحقا، في مطلع السبعينات، جرت إعادة تقييم ثالثة للذهب خلال إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، حيث تم تحديد سعر الأونصة عند 42,22 دولارا. ومنذ ذلك التاريخ، بقي هذا السعر ثابتا في دفاتر الخزانة الأميركية على الرغم من الارتفاع الكبير في أسعار الذهب في الأسواق العالمية.

وقد أدى هذا الخلل المحاسبي المستمر إلى وضعٍ يحتسب فيه أحد أهم الأصول المادية الأميركية بأقل من قيمته الحقيقية بشكل كبير في السجلات الرسمية.

الذهب في هندسة الموازنات

يشير الاقتصادي كولين فايس من مجلس محافظي الاحتياطي الفيديرالي الأميركي، في ورقة بحثية حديثة صدرت في 1 آب/أغسطس 2025 بعنوان "إعادة تقييم الاحتياطيات الذهبية: التجربة الدولية"، إلى أن خمس دول فقط أقدمت خلال العقود الثلاثة الماضية على إعادة تقييم احتياطياتها من الذهب، هي: ألمانيا، وإيطاليا، ولبنان، وكوراساو وسانت مارتن، وجنوب أفريقيا. وبحسب فايس، فقد استخدمت عائدات إعادة التقييم بطرق مختلفة، إذ ذهبت إلى المصارف المركزية لتعويض خسائر تشغيلية، بينما استخدمتها الحكومات لإطفاء جزءٍ من الديون القائمة.

رويترز
سبائك الذهب معروضة في متحف الطبيعة في نيويورك، 19 أغسطس 2019

وعلى الرغم من أن خفض الدين العام عبر هذه الأدوات يساهم في تحسين الوضع المالي مؤقتا، فإنه لا يعالج المشكلات الهيكلية العميقة في الاقتصاد. فعلى سبيل المثل، استمرت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بالارتفاع، على الرغم من استخدام عائدات إعادة التقييم مرتين لسداد جزء من الدين، من دون أن يلفت ذلك المعنيين داخل مجلس النواب اللبناني، وخصوصا في لجنتي المال والموازنة والإدارة والعدل.

ففي ديسمبر/كانون الأول 2002، قام مصرف لبنان بتحويل جزء من أرباحه غير المحققة الناتجة من إعادة تقييم احتياطياته من الذهب والعملات الأجنبية إلى الحكومة اللبنانية، لسداد سندات خزينة بقيمة 1,8 مليار دولار. وقد مثل هذا المبلغ نحو 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبنان في عام 2002، مما جعله، بحسب الورقة البحثية للاقتصادي فايس، أكبر استخدام لعائدات إعادة تقييم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في العالم.

يمكن إعادة تقييم هذا الاحتياطي الذهبي، الذي يعد الأكبر في العالم، بما يعادل 8133,46 طنا، من خلال قيد محاسبي بسيط لا يتطلب أي موافقة سياسية

ومع استمرار ارتفاع نسبة الدين بعد عام 2002، لجأت الحكومة اللبنانية مجددا في عام 2007 إلى إطفاء جزء آخر من الدين العام من خلال إعادة تقييم ثانية للذهب، وفقا لما ورد في تقرير مشاورات المادة الرابعة لصندوق النقد الدولي لعام 2009.

في ألمانيا، اقترح كل من المستشار هيلموت كول ووزير المالية ثيو فايغل عام 1997 إعادة تقييم احتياطيات البلاد من الذهب والعملات الأجنبية، مع تخصيص 20 مليار مارك ألماني من مكاسب إعادة التقييم لتعويض العجز في أجزاء من الموازنة، ولا سيما سداد التزامات "صندوق الميراث" لتغطية ديون ألمانيا الشرقية، ولتفادي تجاوز نسبة العجز المسموح بها بموجب معاهدة ماستريخت.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحمل سبائك الذهب، بالقرب من بورصة نيويورك

غير أن المقترح واجه معارضة شديدة من المصرف المركزي الألماني، "البوندسبنك"، ومن قطاعات واسعة من الرأي العام، الذين اعتبروا أن اللجوء إلى إعادة التقييم لا يمثل إدارة مالية رشيدة، ويعد مساسا باستقلالية البنك المركزي. وفي النهاية، استخدم جزء محدود من مكاسب إعادة التقييم عام 1998 للحفاظ على نسبة عجز الموازنة ضمن الحد الأقصى البالغ 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لمعايير اتفاقية ماستريخت الأوروبية.

الاحتياطي الذهبي كأداة مالية

تظهر دفاتر الاحتياطي الفيديرالي وجود نحو 261,5 مليون أونصة من الذهب مملوكة باسم الخزانة الأميركية، تقدر قيمتها بنحو 11 مليار دولار وفق السعر الرسمي للأونصة المعتمد منذ عقود.

ومع ذلك، يمكن إعادة تقييم هذا الاحتياطي الذهبي، الذي يعد الأكبر في العالم، بما يعادل 8133,46 طنا، من خلال قيد محاسبي بسيط لا يتطلب أي موافقة سياسية، بحيث يعاد تسعير الذهب بما يتوافق مع السعر الحالي في سوق لندن أو في بورصة كومكس، أو وفق أي سعر أعلى يحدده رئيس الولايات المتحدة استنادا إلى قانون احتياطي الذهب لعام 1934.

تقدم عملية إعادة تقييم الاحتياطيات الذهبية حلا لتعزيز قيمة أصول الخزانة، وتقليص نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك خفض نسبة العجز في الموازنة، من دون الحاجة إلى زيادة الديون أو رفع الضرائب، وبدون إصدار نقد تضخمي

وتسجل المكاسب المحاسبية الناتجة من هذه العملية، التي قد تصل إلى مليارات أو حتى تريليونات الدولارات، لصالح الخزانة الأميركية في حساب خاص لدى الاحتياطي الفيديرالي.

وقد نشر الاحتياطي الفيديرالي دليلا للمحاسبة المالية موجها إلى البنوك الإقليمية الاحتياطية الفيديرالية، أشار فيه إلى أن وزير الخزانة مخول إصدار شهادات بالذهب الذي تمتلكه الوزارة، والتي يمكن تداولها دون الحاجة إلى تداول مادي للذهب فعليا، أو بهدف تسييله عند الضرورة.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي الراحل فرانكل روسفلت

كما يجوز لوزارة الخزانة استرداد الشهادات الذهبية المتداولة في أي وقت، مع إمكان إلغاء العملة النقدية المقابلة، بما يتيح مرونة في إدارة الاحتياطيات الذهبية والسيولة المالية.

الذهب وحوكمة السيولة المالية

تقدم عملية إعادة تقييم الاحتياطيات الذهبية حلا لتعزيز قيمة أصول الخزانة، وتقليص نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك خفض نسبة العجز في الموازنة، دون الحاجة إلى زيادة الديون أو رفع الضرائب، وبدون إصدار نقد تضخمي.

كما تنعكس آثار هذه العملية في مجالات أخرى، أبرزها: أسواق العملات العالمية ودور الدولار فيها، وإمكانات إعادة هيكلة النظام النقدي الدولي، فضلا عن استراتيجيات الحفاظ على الثروة الشخصية. كما تنعكس آثار هذه العملية في مجالات أخرى، أبرزها: أسواق العملات العالمية ودور الدولار فيها، وإمكانات إعادة هيكلة النظام النقدي الدولي، فضلا عن استراتيجيات الحفاظ على الثروة الشخصية.

مع التراجع الحالي في الإقبال الأجنبي على الدين الأميركي، ستواجه الولايات المتحدة أزمة عملة ستجبرها بالتأكيد على إعادة تقييم احتياطياتها من الذهب بمستويات مرتفعة، وذلك بهدف الحفاظ على صدقية الدولار واستقرار النظام المالي

محلل الأسواق اللندني ألاسدير ماكليود

في تجاربها الأولى خلال ثلاثينات القرن العشرين، مدت عمليات إعادة تقييم الاحتياطيات الذهبية الخزانة الأميركية بأموال جديدة، مما أدى إلى زيادة المعروض النقدي. وقد وصف النقاد هذه الإجراءات بأنها شكل من أشكال الطباعة الخفية للنقود، أسهمت في تفاقم التضخم وعدم الاستقرار المالي، كما قلصت دور الاحتياطي الفيديرالي، مانحا الخزانة سيطرة فعلية على السياسة النقدية.

واستمر هذا الوضع حتى توقيع اتفاقية الاحتياطي الفيديرالي مع الخزانة عام 1951، التي رسخت الاستقلالية الحالية للاحتياطي الفيديرالي في إدارة السياسة النقدية.

ويتوقع محلل الأسواق اللندني ألاسدير ماكليود أنه مع التراجع الحالي في الإقبال الأجنبي على الدين الأميركي، ستواجه الولايات المتحدة أزمة عملة ستجبرها بالتأكيد على إعادة تقييم احتياطياتها من الذهب بمستويات مرتفعة، وذلك بهدف الحفاظ على صدقية الدولار واستقرار النظام المالي.

رويترز
موظف بنك يعد أوراقًا نقدية من فئة مئة دولار أمريكي في بنك كاسيكورن في بانكوك، 21 يناير 2010

وفي حال اتخذ الرئيس ترمب قرار تفعيل قانون احتياطي الذهب، فإن ارتفاع سعر الذهب عالميا سيعود بالنفع على جميع الدول المثقلة بالديون والتي تمتلك احتياطيات كبيرة من الذهب. كما قد يؤدي ذلك إلى انخفاض متضافر في أسعار العديد من العملات الورقية، مما يرجح أن يفضي إلى اضطرابات مالية خطيرة ومتنوعة.

الذهب وإعادة التوازن العالمي

ومن هنا، يفهم توجه بعض الدول، أبرزها دول مجموعة "بريكس"، للاستثمار بكثافة في الذهب والمعادن النفيسة منذ فترة، إضافة إلى تعديل الصين قواعد بورصة شنغهاي بهدف تحويلها إلى مركز إقليمي، ولاحقا دولي، لحفظ الذهب وإجراء العمليات المختلفة عليه وعلى مشتقاته، تحوطا من صدمات نظامية مستقبلية، وفي مقدمتها احتمال انهيار النظام النقدي الدولي.

هناك من يشكك في اعتبار الذهب أصلا نهائيا لأي دولة لمواجهة انخفاض قيمة عملتها وضمان ثقة حامليها، فقد لا يكفي بالضرورة لمنع هبوط أسعار العملة

وتشير دروس التاريخ إلى أن تأمين الملكية المادية للذهب يمثل وسيلة فاعلة للحفاظ على القوة الشرائية خلال التحولات النقدية والتغييرات النظامية.

في المقابل، هناك من يشكك في اعتبار الذهب أصلا نهائيا لأي دولة لمواجهة انخفاض قيمة عملتها وضمان ثقة حامليها، حتى لو لم يكن لديهم حق مباشر في هذه الاحتياطيات. فهم يرون أن وجود مخزون كبير من الذهب كنسبة من العملة المصدرة لا يكفي بالضرورة لمنع هبوط أسعار العملة، كما تظهر الليرتان التركية واللبنانية أمثلة حية على ذلك.

ويرى الخبير المالي لوك غرومين أن النظام النقدي الدولي، الذي تمركز منذ القرن الماضي حول الدولار، قد بلغ نقطة الانهيار بسبب الدين العام والعجز الأميركي. ويعتبر أن إعادة وضع الذهب مجددا في قلب الهيكل المالي الدولي كأصل احتياطي محايد يمكن أن يسهم في إعادة التوازن الى النظام النقدي العالمي المتهالك.

.أ.ف.ب
دبابة أميركية عند مدخل قاعدة عسكرية في ولاية كنتاكي، 31 يوليو 2025

من جهة أخرى، يقدر الكاتب والمحلل النقدي جيم ريكارد ومدير الثروات السويسري كلايف تومسون أن زيادة سعر أونصة الذهب بمقدار 4,000 دولار ستؤدي إلى محو نحو تريليون دولار من الدين الأميركي، بينما إعادة تقييم الأونصة بسعر 15,000 دولار ستوفر نحو 4 تريليونات دولار من السيولة.

وفي النظر إلى هذه الحسابات، يرى تومسون أن إعادة تقييم الاحتياطيات الذهبية إلى مستوى 25,000 دولار للأونصة كفيلة بتوفير موارد مالية كبيرة يمكن أن تكون حاسمة في تحسين المالية العامة دون زيادة الدين.

ومع ذلك، تنطوي هذه الخطوة على أخطار كبيرة، أهمها تداعيات عميقة على قيمة الدولار ومكانته في الأسواق العالمية، في مقابل اتساع الاتجاه لدعم العملات بالأصول، لا سيما الذهب المادي. ومن شأن هذه التغييرات أن تمثل تحولا جذريا في المشهد النقدي الدولي، مع انعكاسات واضحة على التجارة العالمية، وتدفقات الاستثمار، والعلاقات الاقتصادية الدولية. وتشير دروس التاريخ إلى أن تأمين الملكية المادية للذهب يمثل وسيلة فاعلة للحفاظ على القوة الشرائية خلال التحولات النقدية والتغييرات النظامية.

الذهب "أصل لا يمكن أن يعاني من عجز، ولا يمكن أن يتخلف عن السداد، ومحصن ضد فشل الحكومات"، فهو "أصل استراتيجي في عالم يشهد إصلاحا شاملا وتحولا جذريا في أسسه النقدية"

وزير الخزانة الأميركي سكوت بينست

تبقى عملية إعادة تقييم الاحتياطي الذهبي في الولايات المتحدة أمرا تخمينيا حتى الآن، إذ لم يصدر أي قرار رسمي في شأنها حتى اليوم. وما تم فعليا هو قرار من الرئيس ترمب بإجراء تدقيق لموجودات فورت نوكس من الذهب.

من جهة أخرى، صرح وزير الخزانة سكوت بيسنت في فبراير/شباط الماضي قائلا: "خلال الاثني عشر شهرا المقبلة، سنسيل الأصول المدرجة في الموازنة العامة الأميركية وسنستفيد من هذه الأصول، لقد درسنا أفضل الممارسات العالمية". ومع ذلك، أوضح لاحقا بعد أسبوعين في ظهور له على قناة "بلومبيرغ"، عندما سئل عن احتمال "إعادة تقييم الذهب"، أن "هذا ليس ما كنت أقصده".

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون، في عام 1971

وفي مقابلة لاحقة حول دور الذهب في الحقبة الاقتصادية المقبلة، وصفه بيسنت بأنه "أصل لا يمكن أن يعاني من عجز، ولا يمكن أن يتخلف عن السداد، ومحصن ضد فشل الحكومات"، مشيرا إلى أنه "أصل استراتيجي في عالم يشهد إصلاحا شاملا وتحولا جذريا في أسسه النقدية".

الجدير بالذكر أن الذهب المادي كأصل استراتيجي ليس متوفرا بكثرة، فيما تقدم مشتقاته بدائل منخفضة التكلفة. فقد تم حشد الذهب الحقيقي، ورهنه، وتأجيره، وإقراضه لأكثر من خمسين عاما، مما يجعل من الصعب اليوم تحديد عدد الأونصات المتبقية ذات الملكية الواضحة ومصدرها. ويعكس ذلك ما تشير إليه رابطة سوق لندن للسبائك  (LBMA)، حيث تمتد فترات التسليم الحالية من أربعة إلى ثمانية أسابيع، مقارنة بالمدة المتعارف عليها سابقا والتي كانت تتراوح بين يومين وثلاثة أيام فقط.

font change