سيف الرحبي يمتحن اللغة في "رعود هائمة في الفجاج"

رحلة بين الجغرافيا والذاكرة

سيف الرحبي

سيف الرحبي يمتحن اللغة في "رعود هائمة في الفجاج"

يقدم الشاعر العماني سيف الرحبي في كتابه الأحدث، "رعود هائمة في الفجاج"، تجربة تتجاوز حدود التصنيف الأدبي، ليؤسس نصا يتقاطع فيه الشعر بالتأمل، والسرد بالرحلة، والذاكرة بالوعي الوجودي. هذا العمل، الصادر أخيرا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن، يشبه مرآة تتحرك فيها الذات وسط عواصف العالم، محاولة العثور على معنى للحضور الإنساني في فضاء مفتوح على القلق والبحث والحنين.

تبدو تجربة الرحبي امتدادا لسيرته التي توزعت بين الجغرافيا والثقافات، فقد عاش متنقلا بين عمان والعالم العربي والغرب، محملا أسئلة المكان والانتماء، وهو ما منح لغته بعدا كونيا ورؤية تعبر من التفاصيل اليومية إلى أفق فلسفي وإنساني واسع. الكتابة عنده وصف يتجاوز العالم لتصبح مشاركة في تكوينه، إذ تتحول الكلمات إلى وسيلة للفهم ومجال لممارسة الحياة في وجه الفناء.

مرآة القلق الإنساني

يتضمن الكتاب نصوصا تتأرجح بين النثر الشعري واليوميات الفكرية، لكنها تحتفظ بخيط داخلي يوحدها في نبرة متأملة ومتوترة في آن. عنوان العمل ذاته "رعود هائمة في الفجاج"، يضع القارئ أمام رمز كثيف، إذ تبدو الرعود صوتا داخليا يتردد في أعماق الذات، والفجاج فضاء مفتوحا على المجهول. الرعد هنا حدث يتجاوز الطبيعة، علامة على اهتزاز الكائن، وعلى القلق الذي يصاحب الوعي بالوجود، وعلى اللحظة التي يتقاطع فيها الخطر بالجمال.

يضع الرحبي نصوصه في فضاء بيني، تتقاطع فيه الطبيعة والروح، والداخل والخارج، ليصبح الرعد استعارة للوعي في مواجهته الدائمة لما يجهله

تتحول الفجاج إلى طرق مفتوحة بلا نهايات مضمونة، فيسير الإنسان فيها مدفوعا برغبته في الاكتشاف، محاطا بالاحتمال. من خلال هذا العنوان، يضع الرحبي نصوصه في فضاء بيني، تتقاطع فيه الطبيعة والروح، والداخل والخارج، ليصبح الرعد استعارة للوعي في مواجهته الدائمة لما يجهله.

رعود هائمة في الفجاج

يفتتح الكتاب بنص "في ضوء صباح غائم" يشكل مدخلا لطبيعة لغته ومناخها النفسي. الصباح الغائم يوحي بمزاج رمادي يعلق العالم بين اليقظة والنوم، فيتحول الضوء إلى كائن متردد بين الوضوح والغيوم. من خلال صور بسيطة، ينقل الرحبي إحساسا بالفراغ المضيء، بالزمن الذي يسير محملا التعب، فيكتب: "الرعد كان يبدأ من أعالي الوادي المسور بالجبال، يهمهم ويسري في عروق السماء والغيوم المنذرة بالمطر كما في عروق البشر وأوصالهم (الأطفال خاصة)، الرعود الهائمة ببروقها التي تضيء الأزل كما تضيء القوافل العابرة في الوادي، والقطارات في محطات المدن البعيدة. رعود الآلهة والبشر".

يكثف هذا المقطع روح الكتاب، إذ ثمة تداخل جلي وحميم للكوني باليومي الآني، وتحول المشهد الطبيعي إلى مرآة للداخل الإنساني. فالرعد يسري في السماء كما يسري في جسد الإنسان، والطفولة تظهر كمجال أكثر حساسية لهذا الاهتزاز الكوني. في مثل هذه اللحظات تتجلى فلسفة الرحبي الشعرية، إذ يربط الإحساس الفردي بمجرى الطبيعة، ويعيد توحيد الإنسان بعناصر الكون من خلال اللغة.

سيف الرحبي

الإلهام وتلقي العالم

في نص "إلى شاعر" يقدم الرحبي تأملا في فعل الكتابة نفسها، في أصلها، وفي علاقتها بالمصدر الغامض الذي يولدها. يرى أن الكتابة تولد من فيض مباغت لا من الجهد العقلي وحده، كوميض يهبط من مكان غير مرئي. الشاعر، في نظره، يستقبل أكثر مما يخلق، يعيش في حالة استعداد دائم، يفتح جسده وروحه لتيارات المعنى القادمة من المجهول. يقول: "مباركة أيتها الموجة القادمة من ضفاف البحر العماني... مباركة أيتها الموجة العمانية في حلك وترحالك، لأنك الوحيدة على هذا النقاء العادل المغامر حين تحول البشر إلى جيفة ومسوخ".

يضع الرحبي الشاعر في موقع الكائن الهش والمتأهب، المتصل بالعناصر، المعرض للفيض والغياب معا

هذه الرؤية تحول الكتابة إلى فعل روحي، نوع من الوحي الأرضي، حيث تمتزج الحسية بالقداسة. الموجة هنا هي الإلهام، والبحر هو الذاكرة التي تنبع منها اللغة، والكتابة تتحول إلى وسيلة للتطهر والنجاة في مواجهة فساد العالم.

بهذا المعنى، يضع الرحبي الشاعر في موقع الكائن الهش والمتأهب، المتصل بالعناصر، المعرض للفيض والغياب معا. الشعر عنده ضرورة وجودية، ووسيلة لإبقاء الصلة بما يظل أكبر من الفرد.

المدن بوصفها ذاكرة

تمتزج في النصوص المدن التي زارها الرحبي، مثل باريس وبيروت، بالطبقات الشعورية التي عاشها هناك. فالمكان عنده مساحة تتجاوز الجغرافيا، ذاكرة تتحرك، تحمل في تضاريسها وجوه الناس، أصواتهم، ورائحة البحر أو الدخان. باريس تتجلى في كتابه فضاء للعزلة والحنين، وبيروت تظهر كجسد مكلوم بالحب والحرب، مدينة تجمع بين الحياة والدمار.

في أحد المقاطع يقول: "أمام بحرك يا بيروت/ إزاء أفق المتوسط/ والجبال المحيطة ترسل غيومها وأشجارها/ هدايا لعيد ميلاد قادم./ ثمة امرأة جميلة تتنزه بحزن على الشاطئ/ صياد يصلي".

هنا يتحول المشهد إلى لوحة تجمع بين النشوة والفقد. البحر يرمز إلى اللامتناهي، والمرأة تمثل الجمال المتألم، والصياد الذي يصلي يجسد الإنسان البسيط الذي يحاول النجاة في مواجهة المجهول. عبر هذه الصور، تستعاد بيروت كذاكرة مفتوحة على التناقض، مدينة تعيش في شعرها كما تعيش في جراحها.

الرحلة في نصوص الرحبي تتجاوز الانتقال بين المدن لتصبح عبورا بين حالات الوعي. السفر يتحول إلى وسيلة لاكتشاف الذات، والمدينة إلى مرآة تعكس باطن الإنسان. كل مكان يزوره الشاعر يعيد تشكيل صورته عن العالم، فيغدو النص فضاء يجمع بين الخارج والداخل، بين المشهد العابر والذاكرة الدائمة.

غلاف "ليل المحطات والنجوم"

الذات في مواجهة الفقد

يحمل الكتاب وعيا متجددا بمفهوم المنفى، إذ يصوره كحالة شعورية أكثر من كونه تجربة جغرافية. المنفى عند الرحبي هو المسافة التي تنشأ داخل الذات حين تتبدد الروابط الأولى مع المكان والأهل واللغة، بينما الغربة تظهر في التفاصيل الصغيرة: في مقهى باريس، في وجه عابر، في لهجة تستعاد من الطفولة.

هذا الوعي بالفقد يدفع الكتابة لتكون وسيلة للبقاء. فالنص عند الرحبي يكتب من أجل النجاة من المحو، حيث تتحول الكتابة إلى فعل يقاوم العدم، ومحاولة لإعادة خلق العالم بلغتها الخاصة.

في نهاية الرحلة، يظهر أن سيف الرحبي يكتب من موقع يمتحن اللغة ليحمي بها هشاشة الإنسان، ويحول الكتابة إلى بيت مؤقت يقيه من التيه

تتميز لغة الرحبي بالصفاء والاقتصاد، فهي هادئة في سطحها، مشتعلة في عمقها. الجملة تتقدم بخطى واثقة، محمولة بإيقاع داخلي يشبه التنفس، وتبني من الكلمات معمارا شفافا يتسع للغموض دون أن ينغلق، حيث يكتب الرحبي كمن يسير في حقل من العزلة، حاملا بيده مصباح اللغة ليقترب مما لا يقال.

تتوزع النصوص بين الذاكرة الفردية والجماعية، حيث يلتقي الشعور الشخصي بقلق الإنسان المعاصر. ثمة إحساس بأن العالم يفقد معناه، وبأن الشعر هو الملاذ الأخير لاستعادة تلك الخيوط التي تربط الكائن بالأشياء. من خلال هذه المقاربة، يتحول "رعود هائمة في الفجاج" إلى تجربة تأملية في معنى الوجود والكتابة والوقت.

غلاف "صالة استقبال الضواري"

تجربة مفتوحة على الاحتمال

يتجاوز هذا الكتاب فكرة الاكتمال، فكل نص فيه يقود إلى نص آخر، وكل تأمل يفتح بابا جديدا للسؤال. يقدم الرحبي كتابة تتجه نحو البحث المستمر في ماهية الحياة، وفي علاقة الكائن بلغته وموته وأحلامه.

يتعامل مع اللغة ككائن حي، يختبر قدرتها على التمدد والانكسار، ويرى فيها وسيلة للنجاة من الجمود. كل كلمة في هذا الكتاب تعمل كنبضة جديدة في جسد لغوي يعيش بالدهشة والحنين معا.

حين يتنقل القارئ بين نصوص الرحبي، يشعر أنه يسير في خريطة من الأصوات والذكريات، حيث يمتزج الصمت بالرعد، واليقين بالحيرة. النصوص تمنحه تجربة تأملية، تدفعه إلى الإصغاء لما يحدث في داخله، وإلى التفكير في موقعه من هذا العالم المترامي الذي يزداد غموضا كل يوم.

في نهاية الرحلة، يظهر أن سيف الرحبي يكتب من موقع يمتحن اللغة ليحمي بها هشاشة الإنسان، ويحول الكتابة إلى بيت مؤقت يقيه من التيه. فـ"رعود هائمة في الفجاج" يشكل تجربة وجودية متكاملة، يعيد تعريف العلاقة بين الكلمة والكينونة، بين العبور والحنين، وبين الجغرافيا والذاكرة.

إنه كتاب يستمد قوته من قدرته على أن يكون مفتوحا على الاحتمال، وأن يمنح القارئ شعورا بأن في اللغة دائما متسعا للنجاة. فالرعد لا يهدأ، والكتابة تستمر كصوت يقاوم الصمت، وكطريق يفضي إلى ضوء لا ينطفئ.

font change