كاظم جهاد لـ"المجلة": كثير من المترجمين يخطئون فهم دقائق اللغة الأجنبية

يواصل العمل على موسوعة الشعر الفرنسي

كاظم جهاد لـ"المجلة": كثير من المترجمين يخطئون فهم دقائق اللغة الأجنبية

عرف عن الكاتب العراقي كاظم جهاد حسن اشتغالاته المتعددة في المجال الثقافي، فهو إلى جانب كتابته للشعر، ترجم وراجع عشرات الكتب من الفرنسية إلى العربية، إضافة إلى دراساته البحثية والنقدية في الأدب، سواء باللغة العربية أو بلغات أخرى، كما أنه، خلال عمله الأكاديمي في الجامعات الفرنسية، درس المئات من الطلاب الذين صار بعضهم علما في الدراسات الأدبية. في هذا الحوار، سنكتشف جوانب أكثر من هذه الانشغالات.

قبل ما يقرب من خمسين عاما، قررت مغادرة بغداد إلى باريس. هل يمكن أن تعود بنا إلى تلك اللحظة الثقافية التي كانت تعاش في العراق وأدت بك إلى قرار الهجرة؟

أنا من أبناء مدينة الناصرية في جنوب العراق، وهي تقع على مشارف مدينة أور القديمة المعروفة بأهميتها التاريخية والأسطورية. مدينة الناصرية الحديثة بدورها معروفة بإسهامها الكبير في رفد الثقافة العراقية بشعراء وكتاب وفنانين لامعين، مما بوأها مكانة خاصة في وجدان العراقيين. وقد شكلت الأجواء الثقافية والفنية في المدينة حافزا كبيرا لي ولكل أبناء جيلي من شعراء وكتاب وفنانين. أمضيت في بغداد ما يقرب من عامين، من نهايات 1974 إلى أواسط 1976، بعد إنهاء الدراسة الثانوية في مدينتي. كانت تلك السنوات حافلة بالآمال الثقافية من جهة، ومكتنزة بالمخاوف والأخطار من جهة أخرى. إنها أعوام قيام الجبهة الوطنية التي سمحت لأول مرة في تاريخ العراق الحديث لمثقفين شيوعيين وبعثيين وآخرين من غير ذوي الانتماءات الحزبية من الاجتماع في ندوات مشتركة والتعايش في الحياة اليومية والسهرات. كنت في سن الثامنة عشرة، ولم أكن أجد ما يدعوني إلى التسيس في ذلك الوقت. بدأت أعيش من مردود مقالات بسيطة أنشرها في صحف البلاد. ولقلة زادي المعرفي والنقدي في تلك الآونة، كنت ولعا بالحوارات الطويلة، أقيمها مع شعراء وكتاب يزورون البلد في المهرجانات الثقافية والمنتديات الفكرية. هكذا أجريت حوارات لقيت في وقتها أصداء طيبة مع نزار قباني وألفريد فرج وخيري منصور، والعديد من شعراء العراق وفنانيه. مع نهايات العام 1975 التي بدأ فيها صدام حسين -وكان يومذاك نائبا لرئيس الجمهورية والحاكم الفعلي للبلاد- يفرض بصمته الدموية على الوضع السياسي في العراق، لاحت بوادر التغيير السلبي تظهر في الأفق. بدأ التلويح بصورة سافرة إلى أن الاستمرار في نشر مقالات وحوارات لم يعد ممكنا من دون الانخراط في الحزب الحاكم، وتصاعد اضطهاد السلطة لليساريين الذين خدعوا بالجبهة فأظهروا انتماءهم ونضالهم إلى العلن.

مع نهايات العام 1975 التي بدأ فيها صدام حسين يفرض بصمته الدموية على الوضع السياسي في العراق، لاحت بوادر التغيير السلبي

هكذا نشأت رغبة جماعية لدى الغالبية الغالبة من أبناء جيلي في الرحيل إلى لبنان أو إلى اليمن أو الجزائر أو أوروبا. كانت تلك فترة واعدة تفتحت فيها بدايات أبناء جيلي، ولا يزال الأسف على أفولها السريع قويا وممضا.

"اليوم السابع" و"الكرمل"

من المجلات العربية التي كانت تصدر في باريس، ومنها مجلة "اليوم السابع"، تعرفنا في البداية الى اسمك. حينها كانت المجلات الثقافية والسياسية العربية التي تصدر في باريس، تتميز بغناها المعرفي وسجالاتها الفكرية. كيف تقرأ هذا الانتشار الكثيف لهذه المجلات في باريس، ثم اختفاءها فجأة؟

بالرغم من تقدمي السريع في اكتساب اللغة الفرنسية، التي وضعت فيها بعد دخولي في السلك الجامعي الفرنسي مؤلفات نقدية وأبحاثا عديدة وترجمت إليها أخيرا مختارات من أشعاري لقيت استقبالا نقديا شديد الإيجابية بالفرنسية، ظللت مرتبطا باللغة العربية ارتباطا إبداعيا وعاطفيا في الوقت نفسه. وبعد فتره قليلة من وصولنا أنا وعدد من أبناء جيلي إلى أوروبا، قامت فيها مجلات عديدة تنطق بألسنة أنظمة عربية عديدة. لم أكن مستعدا للاشتغال في هذه الصحف، وشكلت لي الصحف والمجلات الأدبية الفلسطينية المهاجرة فسحة للتنفس وجسرا حقيقيا وضروريا مع اللغة العربية وثقافتها. سعيت إلى أن أنقل من خلالها أصوات الإبداع الأوروبي، ومتابعة جديده الأدبي والفكري. كانت "اليوم السابع" مجلة أسبوعية لا تسمح بأكثر من محاورات بسيطة وعروض نقدية وجيزة. العمل الحقيقي هو هذا الذي احتضنته مجلة "الكرمل" بفضل ذائقة الشاعر الفقيد محمود درويش وثقافته الواسعة ومراهنته على الإبداع الحقيقي. بدعم منه ومن سكرتير تحرير "اليوم السابع" الشاعر اللبناني المبدع الياس حنا الياس، الذي توفي يا للأسف مبكرا عن داء عضال، استطعت أيضا أن أنشر في كلتا المجلتين نصوصا لأدباء شبان كان يصعب عليهم النشر في الأقطار العربية التي ينتمون اليها وكانوا لا يزالون يقيمون فيها. كما عاودني في تلك الفترة شغف المحاورات، فأجريت، خصوصا في "الكرمل"، العديد من المقابلات الأدبية الطويلة أو المعمقة التي تستحق أن أجمعها في كتاب، وقد أقوم بذلك يوما. ثلاثة من الكتاب الفائزين بجائزة نوبل حاورتهم قبل فوزهم بها بسنوات عديدة: المكسيكي أوكتافيو باث والبيروفي ماريو فارغاس يوسا والبرتغالي خوسيه ساراماغو. أما الشاعر الروسي-الأميركي جوزيف برودسكي فقد حاورته أثناء زيارة قام بها لفرنسا بعد فوزه بالجائزة بسنوات.

وفرت هاتان المجلتان عموما مساحة لظهور أصوات أدبية حقيقية وقناتين لرفد القارئ العربي بزاد ثقافي منعش. الصحف والمجلات الأخرى، كانت تمثل واجهات سياسية أكثر منها منابر ثقافية. اضطر إلى الاشتغال فيها مثقفون جادون، لكنها شكلت أيضا فرصة للتعيش والإثراء انتهزها بعض أشباه المثقفين والأدباء المتعيشين.

شكلت لي الصحف والمجلات الأدبية الفلسطينية المهاجرة فسحة للتنفس وجسرا حقيقيا وضروريا مع اللغة العربية وثقافتها

صارت شتيمة العراقي الخارج عن السرب او المتمرد على السلطة، ممارسة مربحة لكتاب يدعون اليسارية والانتماء إلى طليعة الأدب العربي، والقراء العرب يعرفون بالطبع ركاكتهم ويسخرون منهم. الغريب، وكما تشير إليه في سؤالك، أن هذه المجلات اختفت في بدايات العقد التسعيني، وخصوصا بعد حرب تحرير الكويت وتفاقم أزمات الأنظمة الديكتاتورية وظهور النظام العالمي الجديد بفوضاه المعروفة وطبيعته الاستعمارية الجديدة التي أعادت توزيع الأوراق في المنطقة بشكل غير مسبوق. وهنا ينبغي التذكير بأن الشاعر محمود درويش حرص على مواصلة إصدار مجلة "الكرمل" رغم كل الصعوبات، وقام بذلك حتى وفاته. ومن المؤسف أن القيادة الفلسطينية لم تفعل شيئا لمواصلة إصدار هذه المجلة، بالرغم من محاولات المفكر حسن خضر وأدباء فلسطينيين آخرين الساعية إلى تمكين الشعلة التي أطلقتها "الكرمل" من مواصلة عملها التنويري والإبداعي.

ماذا عن علاقتك بمحمود درويش الشاعر ورئيس تحرير مجلة "الكرمل". خاصة أنك نشرت ثلاثة كتب عنه بالفرنسية؟

منذ أقام محمود درويش في باريس، أي من خروجه من بيروت على أثر الاجتياح الإسرائيلي لها في 1982 حتى عودته إلى رام الله وعمان في بداية التسعينات، دأبت على ملاقاته للكلام في شؤون الأدب وما يمكن أن أقدمه لمجلة "الكرمل" من إسهامات. كنت أعرف شعره وقيمته الإبداعية طبعا، لكنني كنت معنيا خصوصا بالاشتغال على الأدب الغربي. بعد فاجعة رحيله المبكر، أعدت قراءة أعماله، وحررت عنها بالفرنسية كتابين جماعيين أسهم فيهما لفيف واسع من النقاد والكتاب العرب والأجانب، ووضعت بمفردي، بالفرنسية أيضا، دراسة في تجربته الإبداعية صدرت بعنوان "محمود درويش– تطويع المنفى".

لا أضيف جديدا إن قلت إن صوته الإبداعي كان فريدا، وكذلك حرصه المتفاني على تجديد لغته الشعرية وموضوعات نصوصه وأشكالها الفنية دون انقطاع. ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الدراسات الموضوعة عنه بالفرنسية أو المترجمة إليها، أسدت وتسدي خدمة كبيرة لقراء آثاره من خلال هذه اللغة وجميع التواقين إلى دراستها. يسعدني أنه نال بذلك، ولو بعد رحيله، ما لم ينله أي شاعر عربي آخر من عناية نقدية ومواكبة تحليلية.

مكتبة "رامبوية"

ارتبط اسمك منذ سنوات بترجمة الأعمال الشعرية الكاملة لآرثر رامبو. هل يمكن أن نقول إن رامبو وصل إلى العرب، أو إلى لغتهم، على أكمل وجه بعد عقود من الترجمات العديدة؟

بالرغم من أهمية رامبو وفرادته الإبداعية، لا أود ذكره من دون الذكر الشاعرين العظيمين الآخرين اللذين اشتغلت على آثارهما الشعرية، ألا وهما دانتي وريلكه، يضاف إليهما العديد من الشعراء الذين اشتغلت على نصوص لهم أقل امتدادا أو حجما. السؤال عن مدى وصول ترجماتي إلى القارئ العربي يجيب عنه بالطبع القراء والنقاد، وما أقوله في هذا الصدد يمكن أن يدخل في باب الادعاء.

صوت محمود درويش الإبداعي كان فريدا، وكذلك حرصه المتفاني على تجديد لغته الشعرية وموضوعات نصوصه وأشكالها الفنية دون انقطاع

وكما يلاحظ قارئ هذه الكتب، فقد حرصت على أن أردف عمل الترجمة بجهد شرحي ونقدي، متبعا فيه أساليب قدامى الشراح العرب والنقاد الغربيين المعاصرين، فأكثرت من الحواشي التفسيرية التي لا تقوم مقام النص بل تضيء عليه وتعمق قراءته. وقد نبه إلى ذلك الشاعر اللبناني عباس بيضون إذ كتب أن ما قدمته ليس آثار رامبو الشعرية فحسب بل مكتبة رامبوية كاملة. وقد نوه نقاد عرب محترمون آخرون بهذا الجهد المزدوج في الترجمة والتأويل.

موسوعة الشعر

تشرف على مشروع آخر عن "مشروع كلمة للترجمة" في الإمارات، وهو إصدار موسوعة شعرية، في مائة كتاب، للشعر الفرنسي في مختلف المراحل التاريخية. ألا تظن أن هذا المشروع تأخر كثيرا عند العرب، وكان من المهم أن ينجز في وقت مبكر؛ وهل يمكن أن تعرف به؟

تقدم هذه السلسلة منتخبات موسوعية من الشعر المكتوب بالفرنسية من قبل شعراء فرنسيين وشعراء آخرين كتبوا بالفرنسية في أصقاع أخرى، كأفريقيا السوداء وأفريقيا الشمالية ولبنان ومصر وسوريا وسويسرا وبلجيكا وكيبيك وجزر الأنتيل وأماكن أخرى، من يسمون بالشعراء الفرنكفونيين. أنفقت سنتين على اختيار القصائد بالرغم من اختصاصي بالأدب المقارن ومعرفتي للشعر الفرنسي في كل عصوره. أقوم بمراجعة الترجمات وتدقيقها على الأصول بيتا بيتا، أو سطرا سطرا، وبتنقيحها والتقديم لها نقديا، وأترجم بنفسي بعض الأجزاء. وبعد الاشتغال عليها ما يقرب من سبع سنوات، استطعنا أنا ولفيف من المترجمات والمترجمين أن نترجم ما يقرب من نصفها إذا ما احتسبنا الأجزاء التي هي الآن قيد الطبع. هذا النصف الأول من الموسوعة مخصص لشعراء القرون السابقة، من انبثاق الفرنسية لغة للتعبير الأدبي بعد تحررها من هيمنة اللاتينية واللهجات المحلية في نهايات القرن الرابع عشر، حتى نهايات القرن التاسع عشر. حرصت على اختيار الأشعار الباقية الأثر، والإقلال من قصائد الشعراء الذين يتمتعون بأهمية تاريخية محضة، ولكن لا يمكن التعريف بتطور الشعر الفرنسي من دون ترجمتهم ولو في صفحات معدودة. الآن ينبغي أن نتفرغ لترجمة شعراء القرن العشرين والعقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. وهنا نصطدم بمسألة حقوق الترجمة والنشر، فالدور الفرنسية الكبرى بطيئة جدا في الرد وقليلة التعاون. ما ساعدنا في إصدار النصف الأول من الموسوعة هو أنه يشمل شعراء وقعت أعمالهم في المشاع الأدبي أو الحق العام. لكن المشكلة الكبرى، لا بل العقبة الكأداء تتمثل في ندرة المترجمين الجيدين للشعر الأجنبي. دون أن أطعن بمن اشتغلت معهم من المترجمين، أشير إلى أنني اضطررت إلى إعادة ترجمة الكثير من الأجزاء، وقليلة هي الترجمات التي لم تتطلب سوى تنقيحات قليلة. لدى الاشتغال عما قريب على النصف الثاني من الموسوعة، سأعمد إلى الاكتفاء بالمترجمين من ذوي الثقافة الشعرية الحقيقية والمهارة المشهودة في الترجمة والحرص الكافي على تجويد العمل الأدبي. 

تقدم هذه السلسلة منتخبات موسوعية من الشعر المكتوب بالفرنسية من قبل شعراء فرنسيين وشعراء آخرين كتبوا بالفرنسية في أصقاع أخرى، من يسمون بالشعراء الفرنكفونيين

في قتامة الأفق الثقافي والسياسي السائد في العالم العربي حاليا لم تنل أجزاء النصف الأول من هذه الموسوعة الشعرية ما يكفي من الاهتمام النقدي بالرغم من كثرة الإعلانات الصحافية عنها، والإعلانات لا تكفي كما تعلم. لكنني متحمس لإكمال هذه المغامرة إذا ما سمحت الظروف بذلك.

كانت أطروحتك في الدكتوراه عن ترجمة الشعر عند العرب، وقد أشرف عليها وناقشها مفكرون وباحثون متميزون، منهم جاك دريدا وجمال بن شيخ وأندره ميكيل، كما ترجمت وراجعت عشرات الكتب من الفرنسية وغيرها إلى العربية. كيف تنظر إلى واقع الترجمة الآن، إلى العربية أولا؟

الترجمة الإبداعية محفوفة بالأخطار في جميع الثقافات وليس في الثقافة العربية وحدها، ولكنها تتركز في ثقافتنا بنحو مقلق. تظل الترجمة عندنا محكومة بمبادرات فردية، والرعاية الرسمية لها محدودة، ومن هنا أهمية "مشروع كلمة للترجمة" وأهمية رعايته لحقوق الكتاب والمترجمين والمراجعين وحرصه على العمل المنهجي المدروس في هذا المضمار. ويؤسفني القول إن الكثير من المترجمين يساهمون في أزمة الترجمة الإبداعية، فغالبيتهم يندفعون إلى ممارستها بزاد معرفي ضئيل وخبرة لغوية لا تتعدى دراسة هذه اللغة الأجنبية أو تلك في المرحلة الثانوية أو السنوات الأولى من التعليم العالي. الكثير من المترجمين يعربون عن مقدرة جيدة على الصياغة بالعربية ولكنهم يخطئون فهم الكثير من دقائق اللغة الأجنبية. والعكس صحيح أيضا، إذ يفهم بعضهم اللغة الأجنبية لممارسته الطويلة لها، ولكنه يجهل أسرار العربية وأناقتها الخاصة وشغفها بتثبيت الفروق أو ظلال المعاني، ما سماه عبد القاهر الجرجاني "المعاني الثواني". والحال أن ترجمات النصوص الأدبية الكبرى تتطلب شغفا واسعا ومديدا بكلتا اللغتين وخصوصا بما وراءهما من ثقافة وتراكم تاريخي ومعرفي وأدبي في آن واحد. وما أقوله هنا ليس من باب التهوين من قدرات المترجمين العرب، فبينهم مترجمات ومترجمون رائعون بحق، وإن يكونوا معدودين، بل هو دعوة لإعادة النظر في هذه الممارسة بصوره جذرية وايفائها حقها من الجهد اللغوي والأدبي والتربية الذاتية.

على ذكر دراساتك الجامعية، يلاحظ أنك غادرت المكان العربي لكنك لم تغادر الثقافة الغربية حيث كانت موضوع دراساتك الأكاديمية الغزيرة المنشورة بالفرنسية. كيف تنظر، ثانيا، إلى مستوى الدرس الأكاديمي العربي في المؤسسات الجامعية الفرنسية وأنت تعمل فيها منذ قرابة ثلاثين عاما؟

لم تعد دراسة الأدب العربي في الجامعات الفرنسية والأوروبية عموما كما كانت عليه في الماضي القريب. لقد رحل الأساطين الكبار من أمثال الأسماء التي ذكرتها ومن مجايليها، ولم يأت بعد جيل بديل يعمل بالزخم نفسه ويمتلك شروط الثقافة الموسوعية والمهارة اللغوية كالأعلام السابقين. لدينا مؤرخون للفكر العربي والفلسفة العربية قديرون من أمثال بيار لوري وغبريال مارتينيث غرو وفلوريال سانأغستان وعلي بنمخلوف. أما في الأدب العربي ودراسته وترجمته فالتركيز منصب على الرواية العربية. وهي تستحق بطبيعة الحال هذا الاهتمام، ولكن لا يمكن أن ننسى ما وراء هذا الاقتصار شبه الكلي على الروايات من تعفف من الخوض في متطلبات الاشتغال على الشعر العربي القديم والحديث وعلى الكتب التراثية الكبرى التي ما برحت المكتبة الأوروبية مفتقرة إليها ترجمة وتحليلا. ويقف وراء هذا أيضا، وبطبيعة الحال، إحجام الناشر الغربي عن استقبال الأعمال التراثية الكبرى والأصوات الشعرية القديمة والحديثة. وهذا نابع من حرصه على تلبية متطلبات سوق الكتاب وذائقة القارئ المتوسط. وهذه العوامل تتضافر يا للأسف لتعيق سريان الفكر العميق والشعر المتفرد.

ما تراكم في العراق

كيف راقبت التحولات خلال العقود الأخيرة في العراق، وما الأفق الذي تراه في هذا البلد الذي عشت فيه سنوات حياتك الأولى؟

كنت على الدوام واثقا من أن ما تراكم في نفوس العراقيين من هموم وإحباطات آتية من العهد الديكتاتوري الطويل، ومن هيمنة الاستعمار الجديد بشتى صوره، وظهور الطائفية والإرهاب السياسي، هذا كله سيجد طريقه إلى التعبير الأدبي. وبالفعل شهدنا في العقود الأخيرة، داخل العراق وخارجه، ولادة أعمال عراقية رائعة تؤرخ إبداعيا، نثرا وشعرا، لعقود من الظلام والمعاناة الجماعية والفردية.

ترجمات النصوص الأدبية الكبرى تتطلب شغفا واسعا ومديدا بكلتا اللغتين وخصوصا بما وراءهما من ثقافة وتراكم تاريخي ومعرفي وأدبي في آن واحد

هناك متابعة جيدة لهذه الأعمال في النقد الصحافي، ولكن الدراسات النقدية والأكاديمية لم تعن بعد بما فيه الكفاية بالأعمال الحقيقية. ومن المؤسف أنه لا يزال لمن يبرعون في الترويج الذاتي والإفادة من إقامتهم في أوروبا حصة الأسد في هذا المضمار.

هل شعرت يوما بأنك فقدت العراق إلى الأبد، أم أننا قد نجدك يوما في بغداد؟

العراق ككل بلد آخر يتجدد طبعا وترفده طاقات أبنائه ومبدعيه، وإن كان التيار السائد، هنا كما في أماكن أخرى، يحبذ الرداءة والاحتيال. الكثير من أنصار النظام المقبور وخدامه يغيرون في الخارج والداخل لغتهم ويجترحون لأنفسهم تاريخا نضاليا موهوما، لا بل يزعمون أنهم كانوا منفيين. والأصوات الصادقة تلفي نفسها مضطرة إلى ممارسة التهميش الذاتي ومعاقرة الصمت. من ناحيتي لم أعد إلى العراق منذ رحيلي عنه عام 1976، وقد حالفني الحظ برؤية أهلي وأصدقائي مرارا خارج العراق. ولا أجد ما يشجعني على العودة بعد رحيل أبويّ وأختيّ وأخي البكر عن هذا العالم، لأن الأجيال الجديدة من أبناء أسرتي وأصدقائي في البلاد يؤكدون لي أنني قد أموت غما إذا ما عدت ووجدت الخراب الحاصل في الواقع الفعلي كما في النفوس. أظل أحرص على مواكبة البلاد وهمومها العميقة من خلال النصوص والتواصل المستمر. العراق موضوع دائم الحضور في أعمالي لا بسبب ارتباط رومنطيقي بالطفولة، بل لأن من يعرف العراق العميق وثقافته التاريخية كما أعرفهما لا يمكن إلا أن يبقى مبهورا بهذا البلد ومرتبطا به بوشائج حب عميق.

تاريخ النقد

من المقرر أن يصدر لك عام 2027 كتاب بالفرنسية بعنوان "تاريخ نقدي للشعر العربي القديم"، يحتوي على دراسة تاريخية-نقدية. هل يمكن أن تحدثنا عن هذا المشروع؟

لن أطيل الكلام في خصوص هذا الكتاب الذي ما برح قيد الإعداد. في هذا الكتاب أسعى إلى توحيد تهميشاتي وملاحظاتي ودروسي في الشعر العربي القديم الذي علمته في الجامعة الفرنسية طيلة ربع قرن من الزمان، وإلى إكسابها صفة منهجية. وأنا أعمل على دراسته من داخله مهتديا بقدامى النقاد العرب لمعرفة أثر هذا الشعر في معاصريه، وعلى إضاءته من خلال دروس النقد الغربي الحديث للبحث عن إمكانات تلقيه بعين جديدة تغوص فيه بحثا عن أثره الباقي وتأثيره المستمر.

أصدرت ست مجموعات شعرية في كتابين "الماء كله وافد إلي" (1999) و"معمار البراءة" (2008)، هل هناك ما ينتظر نشره؟

لدي مخطوطات كثيرة لا تزال تنتظر الغربلة والتنقيح والتنسيق. بعضها يمثل قصائد حرة غير تفعيلية وقصائد نثر، وبعضها الآخر يشغل مساحات من النثر الشعري أو النثر الفني. فكما هو معروف، لم تعد مسألة الأجناس الأدبية تتمتع بالأهمية نفسها كما في الماضي. المهم هو مواكبة الشرارة الشعرية أيا كان الشكل الذي تتخذه في صيغتها النهائية.

font change

مقالات ذات صلة