غراهام غرين يستعيد شبابه في باريس

روايتان تدشنان مشروع إعادة نقل جميع أعماله إلى الفرنسية

Raph GATTI / AFP
Raph GATTI / AFP
غراهام غرين يكتب في منزله في أنتيب، 1 شباط 1982. صحفي وروائي من أبرز كُتّاب القرن العشرين

غراهام غرين يستعيد شبابه في باريس

"ما يحفز بقوة على إعادة ترجمة هذا العمل الأدبي أو ذاك، هو تلك الرغبة في إعادة طرحه، مثلما نرمي نردا مجنونا في ملعب إهمالنا. لمقاومة الزمن، تحتاج بعض النصوص إلى لعب دور الفينيق. كأنها، منذ فجر التاريخ الخاص بها، تستدعي تأويلات أخرى بغية التقدم إلى دائرة الضوء...".

بهذه الفقرة، افتتح الشاعر والروائي الفرنسي كريستوف كلارو مداخلة طويلة من سبعة فصول على مدونته الإلكترونية، تناول فيها مشروع إعادة ترجمة كل أعمال غراهام غرين (1904 – 1991) إلى الفرنسية، الذي أوكل به حديثا، وأنجز منه روايتين: "الرجل الداخلي" (1929) و"وزارة الخوف" (1943). مشروع "خيالي" في ضخامته، يدين بأهميته لغرين نفسه، الذي ترك خلفه أعمالا عظيمة تلامس في تشعباتها كل الأنواع الأدبية، بقدر ما يدين لكلارو، الذي ينفرد داخل المشهد الأدبي الفرنسي بموهبته كشاعر وروائي، وأيضا كمترجم نقل من الإنكليزية إلى لغته الأم أكثر من ثمانين عملا أدبيا، من بينها نصوص أصعب الكتاب الأميركيين، مثل توماس بينشون وويليام فولمان ومارك دانييليفسكي، كي لا نذكر غيرهم.

"الرجل الداخلي"

"الرجل الداخلي" هي رواية غرين الأولى، وقد كتبها في سن الرابعة والعشرين "بأسلوب مكثف للغاية جهد باستمرار في تصفيته لاحقا"، وفقا إلى كلارو. رواية تدور أحداثها في مطلع القرن التاسع عشر، وتتركز قصتها على شاب (فرنسيس أندروز) ينضم، بعد معاناة طويلة من سلوك والده العدائي تجاهه، إلى عصابة مهربين، لكنه لا يلبث أن يخونهم، مما يضع حياته وحياة الشابة التي سيختبئ في منزلها في خطر.

اللافت في هذه الرواية، بحسب مترجمها الفرنسي الجديد، إضافة إلى النفسية الهستيرية لبطلها، هو الحضور الطاغي لشعورين داخله: الخوف والجبن. بالتالي، أندروز جبان لا يخفي جبنه، وإن نسي صفته هذه، فإن شخصا آخر داخله يؤنبه فورا ويذكره بمدى ضعفه. شخصية بغيضة إذن، لكن غرين "يُغرِق اشمئزازنا المرجح منها داخل دوامتها الذهنية، ويمنحنا في نهاية المطاف بورتريها مبلبلا بقدر ما هو متحرك لرجل يسكنه الخوف، ويتعذر على أي قيمة أخلاقية انتزاعه من جبنه المعلن"، يكتب كلارو في مدونته، واصفا هذه الرواية بـ"سردية شبه مسرحية، شخصياتها الرئيسة هي المشاعر المتناقضة التي تمزق بطلها".

كما هو الحال في العديد من روايات غرين، يسود في "الرجل الداخلي" جو حلمي، أو بالأحرى كابوسي، مثل ذلك الذي يسود في حكايات الأخوين غريم

ضمن الجهد الوصفي هذا، نقرأ أيضا: "يتعارك أندروز مع رجلين: والده الذي كان يعنفه ويحتقره، والقرصان كارليون، الذي كان أندروز يحبه، لكن بعدما خانه، بات هذا الأخير يريد قتله. أما كل امرأة، في نظره، فهي إما عاهرة أو قديسة، أو حتى الاثنتان معا أو بالتناوب، وفقا إلى الربح، الأخلاقي أو الجسدي، الذي يأمل في كسبه منها. لكن على الرغم من طابعه البغيض في كل شيء، يفتننا أندروز بعكسه وجها فجا وواقعيا للشخصية الذكورية. فأكثر من مجرد بطل مضاد، يبدو كناطق باسم رجولة مجروحة، ويلوذ بموقف الضحية. وهو ما ينبغي أن يحدث داخلنا اليوم أكثر من مجرد صدى".

AFP
غراهام غرين في منزله بمدينة نيس الفرنسية، 3 آذار 1982

عن هذه الرواية، يكتب كلارو أيضا في مدونته: "كما هو الحال في العديد من روايات غرين، يسود في "الرجل الداخلي" جو حلمي، أو بالأحرى كابوسي، مثل ذلك الذي يسود في حكايات الأخوين غريم، وهو ما يؤكده فيض الرؤى والإشارات العديدة إلى حكاية "هانسيل وغريتيل". وكما هو الحال غالبا مع غرين، تبدو الشخصية الرئيسة عالقة في طفولة تجهل أنها نجت منها. ويضفي الضباب الكلي الحضور في مطلع الرواية غبشا يحول دون بلوغ الواقع. بالتالي، إن توجب التخمين بدلا من الرؤية، الحدس بدلا من الإحساس، التقدير بدلا من التمييز، فإن ذلك يؤسس لهامش من المناورة مشكوك في أمره، يفضي إلى أفعال جائرة وردود فعل غير مبررة، ويعللها. إلا إذا كان هذا الضباب هو الواقع نفسه الذي بات يتعذر تمييزه بفعل الخوف من الحياة.

عن ضرورة إعادة ترجمة هذه الرواية، يكتب كلارو: "الترجمة الأولى ليست إطلاقا عرجاء أو معيبة (...) لكنها شاخت. (...) ليست عملية الترجمة نفسها التي تشيخ، علما أن منهجها يمكن أن يستجيب لمتطلبات عفا عليها الزمن أو صارت عرضة للشك، بل المفردات، الصياغات، الإيقاع، كل ما له علاقة بالحقبة النحوية". وبعد منحنا أمثلة على ذلك، يختم ملاحظته بقوله: "سيكون من المثير للاهتمام بالتأكيد استخلاص داخل ترجمتي العناصر التي لن تصمد أمام اختبار الزمن. لكن كيف يستطيع المترجم أن يعرف مسبقا ما سيصاب بالعتق في لغته؟ وإن استطاع تحديد ذلك، كيف سيعالجه؟ لأن اللغة حية، تستطيع أن تترك خلفها بقايا انسلاخاتها الجلدية المتكررة. إن لم تكن الترجمة فشلا بشكل أفضل، فلا أعرف ما هي...".

في الملحق (postface) الذي وضعه لترجمة "الرجل الداخلي" الجديدة، يبرر الكاتب البريطاني ويليام بويد ضرورة إعادة ترجمة هذه الرواية، على الرغم من "العناصر الميلودرامية والمعقدة" في قصتها، و"نثرها الوصفي وحواراتها التي تبدو كأنها تنتمي أكثر إلى قصة تاريخية ذات سخونة مفرطة"، بالحجة التالية: "يمكن الرواية الأولى أن تكشف، من دون قصد، الموضوعات التي تحفز الكاتب، ونص غرين هذا ليس استثناء. رجل مطارد، هروب، خيانة، ندم، انتحار، خطيئة مميتة...، كل هذه الموضوعات حاضرة في "الرجل الداخلي"، وهي جميعا موضوعات استعادها غرين مرارا وتكرارا في أعماله".

ليست عملية الترجمة نفسها التي تشيخ، بل المفردات، الصياغات، الإيقاع، كل ما له علاقة بالحقبة النحوية

ثمة حجة أخرى يطرحها بويد وكلارو على حد السواء، وهي البعد السيرذاتي للرواية. فبطلها، "التلميذ العاقل الذي يصبح، رغما عنه، قرصانا مغامرا، يحاكي غرين نفسه الذي، من تلميذ مكبوح أسيئت معاملته، يصير يوما إنسانا آخر تماما يجول في بلدان خطيرة وينخرط في لعبة الجاسوسية"، وفقا إلى مترجمه الجديد. كذلك الأمر بالنسبة إلى علاقة كل منهما الخاصة بالنساء، فـ"الروابط بين أندروز ولوسي (المومس) وإليزابيت (القديسة) تحاكي بوضوح الروابط بين الشاب غراهام، الذي كان يرتاد بيوت الدعارة، وفيفيان التي عشقها بقوة، والتي قبلت بالزواج منه في البداية بشرط احترامهما عفة معينة".

PHILIPPE BOUCHON / AFP
الكاتب البريطاني غراهام غرين يتسلّم وسام الفنون والآداب من وزير الثقافة الفرنسي، 11 كانون الأول 1984

"وزارة الخوف"

بخلاف "الرجل الداخلي"، لا تعاني "وزارة الخوف" من أي هشاشة. وإذ تصنف غالبا ضمن روايات التجسس لأنها تجمع جميع عناصر هذا النوع الأدبي، لكن "لا شيء بديهيا في هذه الرواية الغريبة الى درجة أنها يمكن أن تكون سردية معذبة لحلم نرفالي (نسبة إلى الشاعر نرفال) طويل"، يكتب كلارو في ملحق ترجمته لها، بدءا من "المشهد الافتتاحي الذي يفرض قالبه الحلمي: في شفق لندن، يتقدم رجل، منجذبا بشكل لا يقاوم إلى أضواء وأصوات حفلة خيرية شعبية، حفلة تمثل في نظره الطفولة".

"وزارة الخوف" ليست إذن فقط سردية رجل، أرثر رو، يطارده نازيون أشرار، "بل إنها أيضا قصة رجل ارتكب خطيئة مميتة – قتل زوجته لتجنيبها العذاب – ولم يتبق أمامه سوى حل واحد: البدء مجددا من الصفر"، وفقا إلى مترجمها. ولا عجب في ذلك، فـ"الخطيئة عند غرين غالبا ما تكون شرطا أساسيا لإعادة تقييم الحياة: هل أنا مذنب منذ الأزل؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يمكنني عكس مسار هذا الأزل؟". بالتالي، "الخلاص هو القضية الكبرى، (...) و"الجريمة" التي ارتكبها رو سرعان ما تصبح نسبية في ظل الإجرام الجماعي الملازم للحرب العالمية الثانية".

بغوصه في المياه العكرة للحفلة الخيرية، يتحول رو على الفور إلى أورفيوس، يلاحظ كلارو، لكن يوريديس التي يبحث عنها "ليست زوجته، بل فقط طفولته، زمن البراءة". وحين يفوز بكعكة في الحفلة، لن يعرف أنها ملوثة بـ"عنصر من عالم البالغين" إلى حين محاولة قتله. لكن القنبلة التي ستقع على منزله وتُفشِل هذه المحاولة، تُفقِده أيضا ذاكرته، فـ"لا يتبقى له سوى نتف من طفولته، التي بات أقرب إليها منه إلى واقع الحرب، التي طمس عقله مأساتها".

إنجاز غرين في هذه الرواية يكمن إذن، بحسب مترجمها الجديد، في جعلنا نظن أنها رواية تجسس، بينما هي سردية سرنمة بامتياز. فـ"بطلها قتل زوجته، لكن المجتمع لا يعتبره قاتلا حقيقيا. بعد ذلك، يُتهم بجريمة قتل لم يرتكبها، ليتبين لاحقا إنها مجرد إخراج. وبين إقامتين في مصح عقلي، يتسكع في لندن مدمرة بفعل الغارات الجوية، قبل أن يضطر إلى العيش في عالم سفلي، أي في الملاجئ والسرية".

إذا كانت الحرب قد حولت العالم إلى مكان ملتبَس خطير، فإن سكانه هم موتى أحياء محكوم عليهم بالتيه في متاهة من المظاهر الخادعة

بالتالي، حياة أرثر رو هي عبارة عن "حلم يتعذر الاستيقاظ منه"، وفقا إلى كلارو، فـ"طوال الرواية، ينتقل هذا الرجل من مكان مغلق إلى آخر: سجن لا مكان له فيه، شقة تتحول إلى أنقاض، ملجأ تراوده فيه كوابيس، غرفة تعقد فيها جلسة استحضار أرواح، غرفة فندق يحاصَر فيها، مصح غريب يُحتجَز فيه..."، وهو ما يجعل المترجم يخلص إلى الاستنتاج البصير التالي: "إذا كانت الحرب قد حولت العالم إلى مكان ملتبَس خطير، فإن سكانه هم موتى أحياء محكوم عليهم بالتيه في متاهة من المظاهر الخادعة".

AFP
صورة غير مؤرخة تُظهر الكاتب البريطاني غراهام غرين يوقّع أحد كتبه في مكتبة

أما لماذا كان من المهم إنجاز ترجمة فرنسية جديدة لـ"وزارة الخوف"، بحسب كلارو، فلأسباب عديدة، أبرزها: عتق بعض العبارات في ترجمتها الأولى، الإضافات غير المبررة فيها، مما جعلها تقع في 365 صفحة، بينما يقتصر النص الأصلي على 220 صفحة، إقدام ناشر هذه الترجمة على حذف بعض المقاطع منها بسبب "فحشها"، وهو ما اقترفه أيضا في الترجمة الأولى من رواية "الرجل الداخلي"، بعض الأخطاء الجسيمة فيها، كتحول "Bromides" من حبوب منومة إلى "صور فوتوغرافية". النسخة الجديدة من الرواية التي اقترحها غرين نفسه، وتتضمن استهلالات لفصولها غير موجودة في ترجمتها الأولى.

في نهاية ملحقه، يطرح كلارو السؤال الملح التالي: "هل تشيخ الترجمات؟"، ويجيب: "إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا؟ لماذا تشيخ، بينما يبدو النص الأصلي، مثل بورتريه دوريان غراي، صامدا أمام الزمن؟ الحقيقة هي أن نظام التكافؤ بين اللغات ضرب من الوهم. المعجم يتغير، كما تتغير بعض السمات النحوية، ناهيك عن التعبيرات والصور والالتواءات اللغوية التي تسمح للمعنى بإجراء انحرافات دقيقة حاذقة. لكن الأهم من كل ذلك هو أن الترجمة، في كل مرة، هي عمل فرد معين، هو عبد وسيد لغة خاصة بمجتمعه وعصره، وخاصة به، حميمة إلى حد ما، شكلتها العادات والميول".

يتابع كلارو: "هذه المعايير المتعددة والمتنوعة، بمجرد اجتماعها، تجعل نص الترجمة أحيانا عرضة لخطر الوقوع في حالة تقادم معقدة، حيث يخضع زمن إنجازه لعبء العادات اللغوية المستهجنة – العادات الخاصة بالحقبة وأيضا تلك الخاصة بالمترجم. يضاف إلى ذلك مفهوم كل عصر للترجمة، ولفترة طويلة، كان الحفاظ على المعنى، في كثير من النواحي، يتقدم على ترجمة المبنى".

font change

مقالات ذات صلة