يستعد العراق لإجراء انتخابات برلمانية جديدة، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، هي السادسة منذ سقوط نظام صدام حسين قبل عقدين. ورغم ما يحيط بهذه الدورة من تحديات تتصل بموقع العراق ودوره ضمن التوازنات الإقليمية الراهنة، تشير التوقعات الأولية إلى احتمال تدني نسبة المشاركة الشعبية، إذ لم يعد العراقيون بغالبيتهم، يرون في الانتخابات البرلمانية سوى استعراض يعيد إنتاج المشهد السياسي نفسه...
على صعيد خارجي، يتخطى الحدث العراقي حدوده الوطنية، ليغدو ساحة اختبار للتوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة، ويستأثر باهتمام واسع إقليميا ودوليا. على رأس المهتمين إيران، التي تتابع الاستعدادت الجارية، وترصد طبيعة التحالفات، وتراجع الأسماء المشاركة من قلب الحدث. ذلك أن هذه الدورة الانتخابية تشكل بالنسبة إليها خشبة الخلاص للبقاء على قيد سيطرتها على "طريق الإمداد" الممتد من طهران وصولا إلى بيروت، كذلك استمرار هيمنتها على القرار السياسي العراقي، بعد خسارتها مواقع قرار متقدمة في أعقاب "طوفان الأقصى".
منيت إيران خلال العامين الماضيين بهزائم استراتيجية ساحقة في المنطقة، من اغتيال إسرائيل حلفاءها الكبار في غزة ولبنان وصنعاء، إلى الخسائر المادية والبشرية التي أصابت ميليشياتها المسلحة مثل "حماس" و"حزب الله" اللبناني و"أنصار الله" في اليمن، مرورا بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، انتهاء بالضربات الإسرائيلية والأميركية التي خلخلت هيكلها القيادي العسكري ومشروعها النووي. وبالتالي، صارت بغداد الحصن الأخير لها للمحافظة على آخر ما تبقى لها من معاقل النفوذ.
وإيران، من دون تجميل للواقع، تحتل العراق بطريقة غير مباشرة، منذ سقوط النظام السابق، وتتحكم بفضائه السياسي والاجتماعي والديني من خلال الأحزاب السياسية التي أنشأتها، ودعمها الشخصيات الدينية الشيعية البارزة، وبالاعتماد على سلطة الجماعات المسلحة المتحالفة معها، وقد مكنتها هذه الخريطة المتشابكة من الهيمنة، لعب دور مؤثر إن لم يكن أساسيا، في تسمية رئيس الوزراء العراقي (الشيعي)، والتحكم بحجم الكتل النيابية في البرلمان العراقي.
لكن على أثر "هزائم 7 أكتوبر"، يبدو أن قدرتها على التحكم بمفاصل السياسة في العراق قد تراجعت كثيرا، رغم أن هذا لا يعني أن نفوذها قد تلاشى تماما، فما دامت تحتفظ بحلفاء لها في السلطة، فإن تأثيرها يظل فاعلا.
مع قرع أجراس الانتخابات البرلمانية السادسة، يتحول الاهتمام الإقليمي والدولي للتركيز على العراق، ولكن على ما يبدو ليس العراق هو المستهدف في المقام الأول، بل إيران
ثاني المهتمين بالانتخابات العراقية هي الولايات المتحدة الأميركية، فقد حذر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في اتصال هاتفي مع نظيره العراقي ثابت العباسي بغداد وطهران معا، تزامنا مع بدء التحضيرات وتشكيل التحالفات الانتخابية، من "مغبة التعرض للقوات الأميركية خلال قيامها بمهامها في العراق، من جانب الفصائل المسلحة المدعومة من إيران"، وتوعدهما برد حاسم.
كانت الولايات المتحدة، قبل هذه المكالمة، قد قررت أن تمارس أقصى ضغطها السياسي والاقتصادي على بغداد، بهدف سحبها خارج دائرة النفوذ الإيراني، فمن جهة بدأت العمل فعليا على تعزيز حضورها الاقتصادي في العراق، من خلال إبرام عقود جديدة في قطاعي النفط والتكنولوجيا وقطاعات أخرى، وأكدت على لسان مبعوثها الخاص إلى العراق مارك صوايا (الكلداني العراقي الأصل) أنه يجب أن يكون العراق "دولة مستقلة تماما، خالية من التدخلات الخارجية المدمرة، بما في ذلك تدخلات إيران ووكلائها"، وأنه لا ينبغي أن يكون هناك "مكان للجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الحكومة"، ومن جهة أخرى، فرضت عقوبات على عدد من المصارف والشركات العراقية بذريعة أن العراق يكاد يتحول إلى قناة للالتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على إيران، وأكملت هذه الخطوة في سبتمبر/أيلول الماضي، حين أعلنت وزارة الخزانة الأميركية إدارج شركة الشحن البحري التي يقودها رجل الأعمال العراقي وليد السامرائي، على قائمة العقوبات، بعدما اتهمته بتهريب النفط الإيراني تحت غطاء بيع النفط العراقي.
من جهتها، أعلنت إسرائيل أيضا- التي دخل العراق ضمن دائرة حساباتها الاستراتيجية بقوة، بعدما أنهت ملفات أكثر حساسية على حدودها أو أوشكت- أنها وضعت جيشها في حالة تأهب قصوى، تحسبا لهجمات محتملة من الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، بزعم استعداد مواقع عسكرية تابعة لـ"فيلق القدس" موجودة على الأراضي العراقية، لإطلاق صواريخ ومسيرات باتجاه إسرائيل.
مع قرع أجراس الانتخابات البرلمانية السادسة، يتحول الاهتمام الإقليمي والدولي للتركيز على العراق، ولكن على ما يبدو ليس العراق هو المستهدف في المقام الأول، بل إيران كما هو واضح، والغاية من ذلك تحجيم نفوذها في المنطقة تحت ضغط التغييرات الكبيرة، وكأن واقع الحال يقول: "مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد".