بداية، أستأذن القارئ في أن أنقل إليه تجربة رسخت عندي سؤالا لم أنفك أطرحه على نفسي يتعلق بما يمكن أن نطلق عليه "فلسفة أفريقية".
دعيت إلى المشاركة في ندوة فكرية أقيمت بهولندا تحت عنوان "الآخر وفكر الاختلاف". وكانت الندوة بالفعل فضاء للاختلاف بأكثر من معنى: اختلاف وجهات النظر المعروضة في طبيعة الحال، لكن، أساسا، اختلاف المدعوين، وتنوع مشاربهم وأوطانهم وجنسياتهم ولغاتهم، وإن كانت العروض ألقيت باللغة الفرنسية، إلا أن كلا من المتدخلين كان، في طبيعة الحال، يغذي فرنسيته بلغته الأم.
غير أن الأمر لم يقف، بالنسبة إليّ، عند هذا الحد، فقد كانت الندوة تجربة اختلاف عميقة، أو على الأصح "صدمة" اختلاف لا تخلو من مرارة.
ترددت كثيرا في اختيار موضوع بحثي. ما خطر في بالي أول الأمر، هو أن استدعائي كان، ولا شك، بقصد تنويع التجارب المعروضة في الندوة، والحديث عن تجربة الآخر من خلال منظور أفريقي -عربي إسلامي-ثالثي عاش تجربة الاستعمار والاحتكاك بالأجنبي، ويعيش تجربة مخلفات ذلك الاستعمار، ومحاولات التحديث... إلا أنني فضلت تناول موضوع نظري صرف كان يشغلني وقتئذ يتعلق بما آل إليه "مفهوم التناقض والجدل عند مفكري الاختلاف". ترددت كثيرا قبل الحسم في المسألة. وقلت في نفسي: إنهم ليسوا في حاجة إلى مثلي ليحدثهم عن قضايا الفلسفة المعاصرة، فهم معلمونا في هذا المجال. لكنني بررت المسألة بكوني سأتناول الموضوع بشكل تركيبي أربط فيه بين أسماء مفكرين ما عهدنا الربط بينهم، فضلا عن أن طبيعة موضوع الندوة نفسه كانت تستدعي إعمال الفكر في مفهوم "الاختلاف" نفسه، خصوصا أن كثيرا من الدول الأوروبية تروج، عمليا، لما يسميه الخطيبي "الاختلاف المتوحش".
خالجني بعض الاطمئنان عند بداية الندوة عندما تبينت أن الجميع تقريبا، يتحدث عن الفكر الفرنسي المعاصر. صحيح أن المساهمين الألمان كانوا يوظفون تراثهم الفلسفي الذي يعتبر مصدر الإشكالية المطروحة، إلا أنهم، حتى هم أنفسهم، كانوا يعرجون على مفكريهم عبر فكر "آخر"، عبر فوكو ولاكان ودريدا الذي تكرر اسمه كثيرا خلال الندوة.
والغريب أن فرنسا نفسها لم تكن ممثلة في الندوة إلا من طرف فلاسفة ذوي أصل غير فرنسي، وإن كانوا يدرسون في فرنسا ويكتبون بلغتها، أحدهم إغريقي والآخران من أوروبا الشرقية.
فكر آخر
كنا إذن في السلة سواء، وكان لكل منا آخره. الجميع، حتى أهل الدار من المشاركين الهولنديين، كان يتحدث عن "فكر آخر"، وبالتحديد الفكر الفرنسي. ولم يكن يشذ عن هذه القاعدة إلا أحد المساهمين الأفارقة الذي كان يدرس في إحدى الجامعات الألمانية، والذي فضل أن يتحدث عما دعاه "تاريخ الفلسفة في أفريقيا". ما أثار انتباهي، وربما قليلا من الغبطة، هو الاهتمام الشديد الذي لقيه العرض الذي قدمه، والنقاش المهم الذي أعقب تدخله، خصوصا في النقطة التي تحدث فيها عن فعل الكون وغيابه عند بعض اللهجات الأفريقية.




