الرياض وواشنطن... تجديد الشراكة

أصبحت السعودية إحدى الدول الصانعة للسياسات في المنطقة

الرياض وواشنطن... تجديد الشراكة

استمع إلى المقال دقيقة

الزيارة المرتقبة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى العاصمة الأميركية محطة ليست عادية في مسيرة العلاقات بين البلدين، وربما الأكثر أهمية منذ سنوات. فالعلاقة بين الرياض وواشنطن تدخل مرحلة تجديد بين شريكين، يعرف كلّ منهما الآخر جيدا، ويختبران كيف تساهم المصالح العميقة في قيادة التحولات التي عصفت بالشرق الأوسط والعالم، وما يرافق ذلك من فرص وتحديات.

تأتي الزيارة في لحظة تتزاحم فيها ملفات الشرق الأوسط: هدنة غزة وما بعدها، جهود إحياء "حل الدولتين" والاعتراف بالدولة الفلسطينية، النفوذ الإيراني، الحضور الروسي والصيني، أمن الملاحة في البحر الأحمر، أسواق الطاقة، التعافي الاقتصادي وصعود الذكاء الاصطناعي كلاعب جديد في معادلات القوة وحسابات المستقبل. ويبرز الملف السوري ضمن هذه الحزمة، مع موافقة الرئيس دونالد ترمب على الطلب السعودي برفع العقوبات عن دمشق، والزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس أحمد الشرع إلى البيت الأبيض لـ"إعطاء فرصة" إلى سوريا.

لا يمكن مقاربة هذه الزيارة من دون العودة إلى تاريخ العلاقات السعودية-الأميركية، الذي بدأ بلقاء الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945، وتأسس على معادلة "النفط مقابل الأمن". لكن هذه المعادلة لم تعد تكفي لفهم الواقع الراهن. المنطقة تغيّرت، والسعودية تعززت، والولايات المتحدة تغيّرت، ومصادر القوة تبدّلت. مرّت الشراكة باختبارات، بينها، الرياح العربية بعد 2011، والانفتاح الأميركي على إيران في عهد باراك أوباما، والاتفاق النووي، والانسحابات العسكرية من العراق، والتموضع في سوريا، واستئناف العلاقات بين الرياض وطهران في 2023، و"الزلزال السوري" وتغيرات الإقليم و"محور الممانعة". ومع ذلك، بقي خيط المصالح متينا. أبقت الرياض الخطوط والخيارات مفتوحة، ولم تتجاوز واشنطن ثقل السعودية الإقليمي، وموقعها في الاقتصاد العالمي.

ركن أساسي في هذا الثبات يعود إلى العلاقة بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس دونالد ترمب. فاختيار الرئيس الأميركي للسعودية أول محطة خارجية عام 2017 كان إشارة واضحة إلى مركزية المملكة في حساباته. ثم عاد إلى الرياض منتصف مايو/أيار الماضي مع بداية ولايته الثانية، استعدادا لاستقبال ولي العهد في واشنطن منتصف نوفمبر/تشرين الثاني. بين البلدين لغة مصالح متبادلة وتفاهم عميق: الولايات المتحدة دولة محورية في النظام الدولي المتغير، والسعودية تحمل مشروعا يحتاج إلى شركاء قادرين على تحويل الرؤية إلى أرقام وقوة واستقرار. وعندما احتاج الطرفان إلى إعادة ضبط الإيقاع، حدث ذلك بسرعة، لأن خسارة أحدهما للآخر ليست سيناريو منطقيا.

لم تعد الرياض حليفا يقتصر وزنه على الطاقة، بل دولة توسّع خياراتها في الاقتصاد والسياسة والدفاع والتكنولوجيا

السعودية التي تتجه إلى واشنطن اليوم ليست السعودية قبل عقد، فهي لم تعد حليفا يقتصر وزنه على الطاقة، بل دولة توسّع خياراتها في الاقتصاد والسياسة والدفاع والتكنولوجيا. خلال السنوات الماضية، بنت الرياض شراكات آسيوية متقدمة: استثمارات مهمة مع الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، تعاون صناعي وتقني مع بكين وموسكو، واتفاقات دفاعية ردعية مع باكستان. وفي قطاع الطاقة، قادت مقاربة داخل "أوبك+" تحرص على استقرار الأسواق، وحماية مصالح المنتجين والمستهلكين معا، في عالم يسرّع التحول الطاقي. دولة محورية تحمل "رؤية" في منطقة مضطربة وعالم متغير.

هذه التحولات تمنح الرياض موقعا تفاوضيا مختلفا داخل واشنطن. الهدف ليس إدارة علاقة اعتيادية، بل تجديد شراكة طويلة الأمد: تنسيق سياسي، تعاون دفاعي، شراكات في الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة، وتموضع سعودي قوي في اقتصاد التكنولوجيا والخوارزميات، الذي سيحدد شكل النفوذ العالمي خلال العقود المقبلة. وتشمل الأولويات أيضا ترتيبات إقليمية تخص ملفات الإقليم، لأن المنطقة لم تعد قادرة على تحمل فراغات جديدة ولا انهيارات إضافية.

 

أصبحت السعودية إحدى الدول الصانعة للسياسات في المنطقة، وتذهب إلى واشنطن بثقة دولة بنت شبكة علاقات قادرة على تعزيز الشراكة وتجديدها

ويبرز الملف السوري كاختبار أولي لقدرة الجانبين على إنتاج تفاهم قابل للحياة. فإذا مضت واشنطن في رفع عقوبات "قانون قيصر" قبل نهاية العام، فسيكون ذلك تحوّلا في مقاربة امتدت سنوات في "سوريا الأسد" ولم تحقق انتقالاً سياسيا ولا تقلّصا في نفوذ إيران، بل فسحت المجال لاقتصاد الحرب والميليشيات المسلحة وشبكات المخدرات والفوضى والجوع الجماعي. السعودية تريد نقل العودة العربية إلى دمشق من خانة الرمزية إلى مسار عملي: إعادة إعمار، إعادة لاجئين، وتفكيك اقتصاد الحرب وتعزيز الاستقرار ومحاربة التطرف. ورفع العقوبات يجعل واشنطن شريكا في هذا المسار، بدلا من أن تكون عائقا أمامه أو مراقبا له.

اليوم، أمام الرياض وواشنطن فرصة لصياغة معادلات جديدة تجمع الأمن بالتكنولوجيا والاستثمار بالاستقرار. المنطقة تغيّرت، لاعبون تغيّروا، ولاعبون تجددوا. الولايات المتحدة تمسك بالكثير من مفاتيح الشرق الأوسط، لكنها ليست الوحيدة. في المقابل، أصبحت السعودية إحدى الدول الرئيسية الصانعة للسياسات في المنطقة وماوراءها، وتذهب إلى واشنطن بثقة دولة بنت شبكة علاقات قادرة على تعزيز الشراكة... وتجديدها.

font change