القاهرة السينمائي في دورته الـ 46... أفلام أقل صخبا في عالم أكثر هشاشة

150 عرضا من 50 بلدا

AFP
AFP
الممثل المصري ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي حسين فهمي خلال حفل الختام للدورة الـ46 في القاهرة، 21 نوفمبر 2025

القاهرة السينمائي في دورته الـ 46... أفلام أقل صخبا في عالم أكثر هشاشة

عاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته السادسة والأربعين ببرنامج عروض واسع ومتباين، اعتمد على مزيج من العروض العربية الأولى، والاختيارات العالمية التي سبق أن جابت مهرجانات كبرى، إلى جانب حضور لافت لأفلام تنشغل بأسئلة إنسانية راهنة، من صدمات الحروب إلى قضايا الهوية والهجرة والتغيرات المجتمعية، وقد انعكس هذا التنوع بوضوح على خريطة الجوائز.

وشهدت الدورة الأخيرة التي امتدت بين 21 و21 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، مشاركة تجاوزت 150 فيلما (أقل بنحو من 40 فيلما عن العام الماضي)، تمثل أكثر من خمسين دولة عربية وأجنبية، وتوزعت العروض بين مسارح دار الأوبرا وقاعة "إيوارت" بالجامعة الأميركية والسينمات المشاركة.

دارت فعاليات النسخة الجديدة، في رحلة انطلقت من واقعية سحرية أشبه بالديستوبيا، من خلال فيلم الافتتاح "المسار الأزرق" للمخرج البرازيلي غابرييل ماسكارو، وصولا إلي واقع مؤلم يتجاوز الخيال نفسه عبرت عنه المخرجة التونسية كوثر بن هنية في فيلمها الأخير "صوت هند رجب"، فيلم حفل الختام.

كما جمعت التكريمات هذا العام ستة أسماء، ضعف العدد للدورة السابقة، ثلاثة منهم من مصر، حيث نال خالد النبوي جائزة فاتن حمامة للتميز، بينما حصل المخرج الكبير محمد عبد العزيز على الهرم الذهبي لإنجاز العمر، وهو نفسه من منح النبوي أول أدواره السينمائية من خلال الفيلم التلفزيوني "ليلة عسل" (1990)، إلى جانب تكريم مدير التصوير محمود عبد السميع بالجائزة نفسها. أما التكريمات الدولية فذهبت إلى الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيام عباس، والمخرجة المجرية إلديكو إينييدي، كذلك المخرج التركي نوري بيلغي جيلان، رئيس لجنة تحكيم المسابقة الدولية.

البانوراما الدولية

عادة ما تتجه الأنظار إلى المسابقة الدولية أو الرئيسة في المهرجانات، إذ تمثل بوصلة أولية تقاس بها قدرة فريق المهرجان على اقتناص فيلم لفت الانتباه هنا أو نال التقدير هناك. تمثل هذا العام تحديدا حجر الزاوية، بحسب وصف الناقد محمد طارق، المدير الفني للمهرجان، ربما لأنها دورته الأولى في المنصب خلفا للناقد عصام زكريا. تقدم المسابقة سبع جوائز تشمل الإخراج والتمثيل والسيناريو، تنافس عليها 14 فيلما من أربع قارات. خمسة من هذه الأفلام شهدت عروضها العالمية الأولى من القاهرة، أما التسعة المتبقية فتعرض للمرة الأولى حصريا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

معظم الأفلام اشترك في مقاربة حالات هشة، أفراد أو مجتمعات تعيش اضطرابا وجوديا أو سياسيا أو وجدانيا، كأن اختيارها جاء ليعكس عالما يتصدع في بطء

كان من اللافت أن تذهب جائزة أفضل اسهام فني في التصوير إلى دولة بنغلادش عن فيلم "مدينة الرمال"، الذي صور في مدة لم تتجاوز 17 يوما فحسب من قلب العاصمة البنغلاديشية دكا، فيما ذهبت جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو في المسابقة للفيلم التركي "الأشياء التي تقتلها" للمخرج الإيراني الأميركي علي رضا خاتمي. أما جائزة الهرم الذهبي فذهبت إلى فيلم "اليعسوب" إنتاج المملكة المتحدة وإخراج بول ويليامز، كذلك حصدت كل من أندريا رايزبورو وبريندا أندرو ويليامز جائزة أفضل ممثلة، مناصفة.

AFP
الكاتب والمخرج البريطاني بول أندرو ويليامز بعد تسلمه جائزة الهرم الذهبي عن فيلمه "اليعسوب" في حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي الـ46، 21 نوفمبر 2025

يلاحظ أن معظم الأفلام اشترك في مقاربة حالات هشة، أفراد أو مجتمعات تعيش اضطرابا وجوديا أو سياسيا أو وجدانيا، كأن اختيارها جاء ليعكس عالما يتصدع في بطء. يتناول الفيلم التركي "بينما نتنفس" الحائز  جائزة الهرم البرونزي، أزمة بيئية نشأت باندلاع حريق ضخم بأحد المصانع في قرية صغيرة بالأناضول، مما تسبب في تلوث شكل خطرا على حياة الأهالي. رغم اختلاف حبكة الفيلم عن السيناريو المعيش مع ظهور كوفيد19، إلا أن مساحات من الأجواء مع الظهور المتكرر للكمامات، كانت كفيلة باستحضار مشاعر الخوف والخطر التي سيطرت على العالم آنذاك. في كلمته، توجه مخرج الفيلم سيموس ألتون بالشكر إلى المخرج نوري بيلجي جيلان، مؤكدا أنه كان السبب الرئيس في اتجاهه إلى السينما.

احتوى برنامج البانوراما الدولية على ثلاثة عشر فيلما، تنوعت بين الروائي والتسجيلي والعابر للأنواع أيضا، لعل أبرزها الفيلم الكرواتي "فيومي أو الموت" للمخرج إيغور بيزينوفيتش. رغم أن الفيلم لم يكن له نصيب من الجوائز، إلا أنه يستعيد واحدة من أكثر الحكايات غرابة في تاريخ مدينة فيومي، امتدت أحداثها على مدار ستة عشر شهرا بدءا من عام 1919، حين قرر الشاعر الإيطالي غابرييل دانونزي احتلال المدينة.

مشهد لا يخلو من غرابة، لا سيما حين يصدر عن شاعر يُفترض أن أدواته في العالم هي اللغة والخيال، لا يكلف شيئا كما يشير الكاتب البرتغالي أفونسو كروش في روايته "هيا نشتر شاعرا"، فهو لا يحتاج سوى الى قلم وبضع أوراق لخلق عالمه، إلا أن الوقائع أحيانا تأتي بما يناقض هذه الصورة تماما. أما جائزة أفضل فيلم وثائقي، فكانت من نصيب الفيلم اللبناني "ثريا حبي" للمخرج نيكولا خوري، ويتناول قصة الحب التي جمعت بين المخرج مارون بغدادي وزوجته ثريا بغدادي، التي تؤكد في إحدى الجمل الحوارية في الفيلم أن "العالم أصبح في حاجة الآن إلى بعض الرقة".

لم يكن مفاجئا أن يتصدر الأخوان الفلسطينيان عرب وطرزان ناصر المشهد، بعد أن نال فيلمهما الأحدث "كان يا ما كان في غزة" النصيب الأكبر من جوائز هذه الدورة

في مسابقة أسبوع النقاد التي شهدت تنافس ثمانية أفلام على جوائزها، نجح الفيلم الصيني "عالم النبات" للمخرج جين يي في نيل جائزة أفضل فيلم آسيوي طويل، فيما حصل الفيلم الألماني "في منزل أهلي" على جائزة لجنة التحكيم الخاصة. تدور أحداث الفيلم في إطار أبيض وأسود حول عائلة المخرج تيم إلريش الذي أهدى الجائزة إلى أمه وأهله.

فريق فيلم "كان يا ما كان في غزة"

آفاق السينما العربية وأزمة العرض المصري

لم يكن مفاجئا أن يتصدر الأخوان الفلسطينيان عرب وطرزان ناصر المشهد، بعد أن نال فيلمهما الأحدث "كان يا ما كان في غزة" النصيب الأكبر من جوائز هذه الدورة، والحاصل على جائزة الإخراج أخيرا من مهرجان "كان"، ضمن مشاركته في قسم "نظرة". للمرة الثانية يسجل الأخوان ناصر حضورا لافتا في مهرجان القاهرة، فقبل خمسة أعوام، حصل فيلمهما "غزة مونامور" على جائزة أفضل فيلم عربي مناصفة، ونال تنويها خاصا من لجنة التحكيم. هذا العام يضيفان انتصارا جديدا بثلاثة تتويجات مستحقة: جائزة أفضل فيلم عربي طويل حيث أشادت لجنة التحكيمه بما وصفته بـ"الوعي البصري الحاد"، ثم جائزة الهرم الفضي لأفضل إخراج، وأخيرا جائزة أفضل ممثل نالها عن جدارة مجد عيد لتجسيده شخصية أسامة، بكل ما تحمله من هشاشة وقوة في الوقت ذاته.

وجاءت مشاركة السعودية هذا العام بفيلم "ضد السينما"، وثائقي من إخراج علي سعيد، يتتبع من خلاله بأسلوب تسجيلي مختلف مراحل تطور السينما في المملكة، استحق عنه جائزة لجنة التحكيم الخاصة، التي أهداها بدوره إلى المخرج الكبير عبد الله المحيسن، أحد رواد صناعة السينما السعودية. رغم هذا، امتد الحضور السعودي إلى مناطق أخرى في البرنامج، تمثل ذلك في مشاركة المخرج وائل أبو منصور، عضوا في لجنة تحكيم جائزة أفضل فيلم عربي، أو كشريك إنتاجي، كما هو الحال مع ثلاثة أفلام من جنوب أفريقيا وتونس وفلسطين، هي "القلب عضلة" لعمران حمدلاي، "اغتراب" لمهدي هميلي، و"حبيبي حسين" لأليكس بكري، ونال عنه جائزة شادي عبد السلام لأفضل فيلم عربي في مسابقة أسبوع النقاد.

شاركت السعودية بفيلم "ضد السينما" الذي يتتبع بأسلوب تسجيلي مختلف مراحل تطور السينما في المملكة، واستحق جائزة لجنة التحكيم الخاصة

تنافست على مسابقة "آفاق السينما العربية" تسعة أفلام، ثلاثة منها وثائقية، استطاع الفيلم اللبناني "كلب ساكن" للمخرجة سارة فرنسيس اقتناص جائزة أفضل فيلم. تدور أحداثه في إطار إنساني حول وليد وعايدة، زوجين يلتقيان بعد سنوات طويلة من الغربة. فيما حصل الفيلم العراقي "فلانه" للمخرجة زهراء غندور، على تنويه خاص من لجنة التحكيم، لنجاحه في تناول موضوع العنف الذي تتعرض له النساء "بعين واعدة وسرد جريء ومعاصر". أما جائزة الجمهور فكانت من نصيب الفيلم الوثائقي "ضايل عنا عرض"، إنتاج مشترك بين مصر وفلسطين من إخراج مي سعد وأحمد الدنف. كذلك حصلت التونسية عفاف بن محمود على جائزة أفضل ممثلة عن تجسيدها الرهيف لدور الأم في فيلم "الجولة 13"، إخراج محمد علي النهدي.

المخرج السعودي علي سعيد ووزير الثقافة المصري لحظة استلام جائزة لجنة التحكيم الخاصة

وكما هي العادة في ما يخص الفيلم المصري، واجه رواد المهرجان الصعوبات السنوية في الحجز، خصوصا مع اشتراك فيلمين هذا العام، أولهما "بنات الباشا" إخراج محمد العدل، حيث لم يتح للعديد مشاهدته. أما الثاني فهو "شكوى رقم 713317" تأليف وإخراج ياسر شفيعي، باكورة أفلامه الروائية الطويلة، وحصد جائزة أفضل سيناريو. الفيلم بطولة محمود حميدة وشيرين وهنا شيحا ومحمد رضوان، بظهور خاص للفنانة أنعام سالوسة، انتزع موجة من التصفيق ضجت بها قاعة المسرح الكبير بمجرد ظهورها على الشاشة في آخر الفيلم. يتناول السيناريو لحظة كاشفة لزوجين في نهاية العمر، ويحسب للمخرج إدارة طاقم التمثيل بمن فيهم حميدة الذي برع في تقديم حالة استثنائية في الأداء، ربما لم يخضها من قبل رغم مشواره الفني المديد.

السينما قطار لا يتوقف

في العاشر من يوليو/ تموز الماضي، رحل عن عالمنا المخرج المصري سامح عبد العزيز، الذي لفت الانتباه قبل عشرين عاما بفيلمه الأول، "درس خصوصي". وعبر مسيرته قدم عددا من الأفلام والأعمال الدرامية الشهيرة من بينها "تيته رهيبة" و"أحلام الفتى الطائش"، ونخص بالذكر فيلميه "كباريه" و"الفرح"، عرضا بالتوالي في 2008 و2009، حيث رسم عبد العزيز من خلال الفيلمين صورة مقربة للعوالم الشعبية، ليس من المغالاة اعتبارها واحدة من أميز ما قدم في هذا النطاق.

صعود عدد من الأسماء المغايرة من جيل الشباب، يثبت أن هذه السينما ربما تخبو أحيانا أو يخفت حضورها لسنوات، لكنها لا تموت

للمفارقة، فإن الفيلمين من تأليف السيناريست أحمد عبد الله الذي غيبه الموت مطلع هذا الشهر، وهو الذي شكل مع عبد العزيز ثنائيا فنيا ناجحا في أكثر من عمل، جمع بين الرواج الجماهيري والقبول النقدي، المعادلة التي تميز بها سامح عبد العزيز، على الرغم من تراجع مستوى أعماله الأخيرة، سواء في الدراما مثل مسلسل "شهادة معاملة أطفال" لمحمد هنيدي أو في آخر أفلامه السينمائية "الدشاش" لمحمد سعد، إلا أن تجربته القصيرة كانت شاهدة على صوته المميز وأسلوبه المتصل بشارع يعرفه جيدا، كمخرج لا تزال صورته الفنية مفتوحة على احتمالات لم تستكمل بعد، يبدو أنها انتقلت الى إحدى بناته.

AFP
ممثلات مصريات خلال حفل افتتاح الدورة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي، 12 نوفمبر 2025

جميلة سامح عبد العزيز، طالبة في الصف الثاني الإعدادي لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، في اليوم التالي لرحيل والدها بدأت مشروع فيلمها الأول "وجع الفراق"، تقول: "كان فيه أحاسيس كتير مكتومة، واستعملت الأحاسيس دي إني أعبر عنها بحاجة هو بيحبها"، من هنا سرعان ما تطور المشروع واكتمل النص البصري، إذ أنها اختارت السينما الصامتة للتعبير عن مشاعرها في مدة لا تتجاوز عشر دقائق. الفيلم من بطولة الفنان خالد الصاوي، في دور الأب، وضع له الموسيقى تامر كروان وقام بالتصوير عمر كمال. فريق لم يجتمع سوى على حب السينما وفقيدها الراحل، تأكيدا لمقولة ابنته: "ما كنتش هعرف أعمله من غير مساعدة حبايبه".

الأمر الذي امتد أيضا إلى إدارة المهرجان، حيث خصصت عرضا استثنائيا للفيلم في المسرح المكشوف خلال حفلة الظهيرة، مما أثر سلبا على تجربة مشاهدة الفيلم، خصوصا بما يحمله من لغة بصرية في الأساس. مع ذلك، قدمت تجربة جميلة دليلا مهما بالنسبة للسينما المصرية، لا سيما في سنواتها الأخيرة، وفي ظل صعود عدد من الأسماء المغايرة من جيل الشباب، تثبت أن هذه السينما ربما تخبو أحيانا أو يخفت حضورها لسنوات، لكنها لا تموت، وهو ما قد تشهده السنوات المقبلة.

font change