هناك أفلام تبدأ قبل أن ننتبه لبدايتها، وتستمر بعد أن يظن المشاهد أن الستار أسدل. فيلم "مرايا رقم 3" Mirrors No. 3 الذي عرض ضمن فعاليات الدورة 46 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ينتمي إلى هذا النوع من السينما، فهو فيلم يبحث عن ذلك الفراغ الذي يخلفه الحدث، ولا يسعى إلى الوضوح بقدر ما يلتقط ما يتبقى من المعنى حين يتراجع السرد إلى الخلف ويترك الصورة تفكر وحدها.
فمنذ اللقطة الأولى، حين تقف لورا على الجسر وتنظر إلى الماء كمن ينتظر انعكاسا لا يأتي، ندرك أن المخرج والكاتب الألماني كريستيان بيتزولد يكتب من جديد أسطورته المفضلة عن الوجوه التي تعود بلا ذاكرة، والأجساد التي تسكن حياة لا تخصها، والهوية التي تستعاد من خلال نظرة خاطفة لامرأة غريبة. نظرة واحدة بين لورا وبيتي، امرأة تكاد تتجمد حين تلمح هذا "الظل" الذي يشبه ابنتها الغائبة، والتي تصبح المحرك الذي يبنى عليه كل ما يأتي لاحقا، وكأن الفيلم كله قائم على ثانية واحدة من الاعتراف الصامت بين روحين لا تعرفان إحداهما الأخرى، أو ربما تعرفان أكثر مما يجب.
حادث السيارة الذي يتعمد بيتزولد ألا يرينا إياه، يتحول إلى فضاء آخر. فالموت يحدث خارج الكادر، والحياة تستعاد داخل الكادر، وباولا بير - كما في معظم أفلام بيتزولد- ليست ناجية بقدر ما هي "عائدة". تعود من مكان لا نعرفه، وكأن القدر أعاد تشكيلها في لحظة، تاركا لها دورا غير مكتوب في حياة امرأة تبحث عن وهم تستعيد به الغياب القديم.
انعكاس الذات
تتكرر في أفلام بيتزولد تلك اللقاءات التي تشبه التعرف دون معرفة، لروح تسبق الجسد في التعرف الى الآخر. في "ترانزيت" (2018) و"أوندينه" 2020" و"فينيكس" (2014)، كانت العلاقة بين الرجل والمرأة مجالا لاستكشاف ذلك، أما هنا فإنها بين امرأتين تصبح حقل لتجربة الانعكاس ذاته. من تكون لورا بالنسبة إلى بيتي؟ ومن تكون بيتي بالنسبة إلى لورا؟ هل هما شخصان منفصلان، أم وجهان لصورة واحدة يبحث كل منهما عن اكتماله في الآخر؟


