عن حيثيات الدرس العراقي للسوريين مثلا

لا يوجد في التجربة العراقية ما يغري السوريين لاستخلاص العبر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
علم سوري كبير يرفرف فوق حديقة تشرين بدمشق في 4 يونيو 2025

عن حيثيات الدرس العراقي للسوريين مثلا

لا تتمتّع التجربة العراقية، أي تجربة إعادة بناء النظام السياسي في العراق، بالجاذبية لدى السوريين، بحيث تحثّهم على التمثّل أو الاقتداء بها في إعادة بناء بلدهم، رغم حسابات الجوار الجغرافي والعلاقات والروابط التاريخية والاجتماعية والتأثيرات المتبادلة، وأيضا بالنظر لتشابه النظامين الساقطين من الجهة الأيديولوجية ومن جهة الطابع السلطوي.

أيضا، لعل ما يعزّز المقاربة السورية مع التجربة العراقية أن ثمة أوجه شبه متعددة في التجربتين، لجهة حلّ أو انهيار كل أجهزة الدولة الأمنية والخدمية والإدارية، واستئصال حزب "البعث" وأتباعه من المكونات السياسية الأخرى، وواقع التعددية الهوياتية، الدينية والطائفية والإثنية والعشائرية، ووجود جماعات ميلشياوية مع تبعيات ومداخلات إقليمية ودولية، وحال الانهيار الاقتصادي في البلدين والانطلاق من الصفر تقريبا في بناء الجمهوريتين الجديدتين في العراق وسوريا.

هكذا، ورغم كل ذلك، لا يوجد في التجربة العراقية ما يغري السوريين لاستخلاص العبر من تجربتهم، واختصار الوقت والجهد، باعتبار أن العراق تخلّص من نظام صدام حسين قبل أكثر من عقدين.

ينطبق ذلك على التجربة المصرية أيضا، بحكم وجود فوارق كبيرة بينها وبين التجربة السورية، على خلاف العراق، بإبقائها على جهاز الدولة، لا سيما الجيش والقوى الأمنية، وبذهابها للانتخابات التشريعية والرئاسية مباشرة، في حين حصل ذلك في العراق بعد عامين من إسقاط النظام، بخاصة أن تلك التجربة لم تنجح أساسا بسبب استئثار حزب واحد بالسلطة، وعدم مراعاة الشرطين الداخلي والخارجي، ما مكّن الفاعلين الآخرين من الإطاحة به.

الانتخابات في العراق تجري على أساس الدوائر/المحافظات، وعلى قاعدة التمثيل النسبي للكيانات السياسية أو القوائم الانتخابية، ما يضفي عليها طابعا مناطقيا

ومع أخذ دروس التجربة المصرية بالاعتبار، فإن دروس التجربة العراقية ربما هي الأهم والأغنى، في المقاربة مع التجربة السورية، بحكم أوجه التشابه المتنوعة الموضوعية والذاتية.

مخاتلة الانتخابات

مثلا، تأخذ أوساط المعارضة السورية على القيادة السورية الانتقالية عدم اعتمادها خيار الانتخابات، والتحول إلى الديمقراطية، رغم أنها لا ترى في الانتخابات العراقية شكلا يمكن الاقتداء به، مع التحفظ على التوصيف بـ"المعارضة"، إذ لا توجد كيانات سياسية سورية، بمعنى الكلمة، أي وازنة وفاعلة ومؤثرة، سواء كانت معارضة أو حتى موالية، رغم وجود عديد من التشكيلات، ربما باستثناء حزب "الاخوان المسلمين" الذي ضعف كثيرا.

معلوم أن الانتخابات في العراق تجري على أساس الدوائر/المحافظات، وعلى قاعدة التمثيل النسبي للكيانات السياسية أو القوائم الانتخابية، ما يضفي عليها طابعا مناطقيا، معطوفا على الطابع الطائفي والإثني والعشائري لكل منطقة، وليس على أساس وطني-سياسي، أو على حساب ذلك، في حين أن المجتمع السوري يفتقد لكيانات سياسية تعبر عن كتل اجتماعية.

أ.ف.ب
نائب وزير الخارجية العراقي محمد بحر العلوم يلتقي وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني قبل القمة العربية الرابعة والثلاثين في بغداد في 16 مايو 2025

أيضا، فإن الانتخابات العراقية تجري وفق نظام المحاصصة الطائفية، لذا فإن الحديث يدور عن ديمقراطية طوائفية (على غرار لبنان)، وليس عن ديمقراطية ليبرالية، تمكّن العراقي، كمواطن فرد وحر ومتساو مع غيره ومستقل عن الانتماءات الأولية من التعبير عن خياراته، ما يسلبه حقه، باحتسابه على جماعة وتنميطه بها، وبمنح أرباب الطوائف، أي المشكّلين للطبقة السياسية السلطوية، حق التقرير في نتائج الانتخابات، وهو ما يثير شبهة على عملية الانتخابات ذاتها.

ولعل هذا الأمر يطرح مجددا عقدة، أو مشكلة اختزال الديمقراطية بمجرد عملية انتخابات مسيطر عليها، أو تجري هندستها تبعا لإرادات الطبقة السياسية/الطائفية أو الإثنية المسيطرة، والتي تتحكم فيها عوامل النفوذ العسكرية والمالية والسياسية.

عدا ذلك، ثمة ملاحظة تتعلق بلا مبالاة أغلبية المجتمع بالانتخابات، في هذه الحال، بسبب ضعف الثقافة السياسية، والشعور بعدم الجدوى، وتدني الثقة بالطبقة السياسية المتحكمة، وغياب كيانات سياسية فاعلة، أو ذات قاعدة اجتماعية تمثيلية.

رغم عدة عمليات انتخابية في العراق، والتداول على السلطة، مرارا، فإن الديمقراطية كانت أهم ضحايا التجربة العراقية، بسبب هيمنة الكيانات والعصبيات الطائفية، والقوى العسكرية الميليشياوية

ففي الانتخابات التي جرت مؤخّرا في العراق، والتي قيل إنها شهدت أكثر نسبة مشاركة، بالقياس بالانتخابات السابقة، إذ بلغت نسبة المشاركة 56 في المئة (حوالي 12 مليون شخص من أصل 21,400 مليون شخص)، في حين أن أصحاب حق الاقتراع الحقيقيين في العراق يبلغ 30 مليون عراقي، أي إن نسبة المشاركة الفعلية بلغت حوالي 41 في المئة فقط، والفارق أن عددا كبيرا من أصحاب حق الاقتراع لم يهتموا بالحصول على بطاقة انتخابية، لذا أسقطوا من حساب أصحاب حق الاقتراع، مع ملاحظة أن التيار الصدري، صاحب الثقل، قاطع الانتخابات، وهو يمثل جماعة طائفية، بين جماعات أخرى، ضمن طائفته.

وكان العراق قد شهد، بعد إسقاط نظام صدام (2003)، ست عمليات انتخابية للبرلمان في 2005، 2010، 2014، 2018، 2021، 2025. وفي الغضون تعاقب على رئاسة حكوماته، في العقدين الماضيين سبعة رؤساء، هم: إياد علاوي، ثم إبراهيم الجعفري، ثم نوري المالكي، ثم حيدر العبادي، ثم عادل عبد المهدي، ثم مصطفى الكاظمي، ثم محمد شياع السوداني، في حين حكم صدام حسين ربع قرن (نظام الأسدين حكم أكثر من نصف قرن).

أ.ف.ب
قوات أميركية تجوب الصحراء الجنوبية العراقية في 22 مارس 2003

هكذا، فرغم عدة عمليات انتخابية في العراق، والتداول على السلطة، مرارا، فإن الديمقراطية كانت أهم ضحايا التجربة العراقية، بسبب هيمنة الكيانات والعصبيات الطائفية، والقوى العسكرية الميليشياوية، في النظام السياسي وفي المجتمع، والافتقاد لمكانة المواطن، والمحاصصة والتعصّب الطائفيين، بخاصة مع وجود جماعات مسلحة منفلشة خارج سلطة الدولة.

سياسة التسلط والإفساد

تبعا للمعطيات السابقة فإن تسلط طبقة سياسية يسهم بالميل نحو التواطؤ المتبادل، بين مكوناتها، ويدفع بتقاسم الامتيازات فيما بينها، وتغييب المساءلة والمحاسبة، وتشريع شيوع حال الفساد (العراق في أعلى سلم مؤشر الفساد وفق المقياس العالمي)، ما يضعف القوى المدنية اللاطائفية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات التي جرت مؤخرا، والذي يفاقم من حال التدهور الاقتصادي والمعيشي ويبدد الموارد، علما أن العراق (مع الجزائر) يفترض أن يكون بين أغنى دول العالم، وليس في العالم العربي فقط، بالقياس لمساحته، وعدد سكانه، وبحكم غنى وتنوع الموارد الطبيعية فيه، مع موقعه الجغرافي المتميز.

لا يوجد في المثال العراقي ما يمكن استنساخه سورياً، وحتى في مسألة الانتخابات، وهي أمر ضروري ولازم، لإعادة بناء الإجماعات الوطنية، وبناء الدولة والمجتمع السوريين

لا يفترض الاستنتاج مما تقدم التقليل من أهمية الانتخابات، أو تعدد الكيانات السياسية، أو التداول على السلطة، إذ هي بمثابة الشرط الذاتي اللازم للديمقراطية، لكن الديمقراطية تحتاج إلى تكامل الشرطين الذاتي والموضوعي، لتوفير الشرط الكافي، أي الأرضية المناسبة التي تمكن من الديمقراطية، وهذا لا يتأتّى إلا ببناء دولة المؤسسات والقانون، وإعادة الاعتبار للمكانة الحقوقية والسياسية للمواطن، على نحو ما قدمنا. وتاليا، الفصل بين السلطات، وضمن ذلك وضع حد للجماعات العسكرية اللاشرعية.

الآن، وبالنظر إلى حال سوريا، حيث التصحّر السياسي والاقتصادي، والتفكّك الاجتماعي، وواقع التدهور المعيشي، والتمحور حول عصبيات هوياتية، وقوى ميليشياوية، ومع انعدام الثقة بين السوريين، على خلفيات إثنية ومذهبية ومناطقية وعشائرية، ثمة محددات وقيودات داخلية تسهم في إعاقة، أو تأخير، أو عدم تمكين، التحول الديمقراطي.

أيضا، ثمة ما يفاقم مما تقدم متمثلا بما تتعرّض له سوريا من تحديات خارجية، بخاصة من إسرائيل، التي تحتل جزءا من أراضيها، والتي تحاول فرض رؤيتها لمستقبل هذا البلد، بمحاولاتها طبعه بطابعها، كدولة طائفية/يهودية، بدفعه للتحول إلى دولة مكونات إثنية ودينية، كما حصل في العراق، ما يضعف سوريا، كدولة وكشعب، إذ يحول ذلك دون وجودها كدولة ذات سيادة على أراضيها، مع وجود جماعات عسكرية خارج سلطتها، كما يحول ذلك دون تحول السوريين إلى شعب، من مواطنين أحرار ومتساوين.

أ.ف.ب
ملصق لرجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر، يدعو فيه إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة في مدينة الصدر، شرق بغداد، في 29 أكتوبر 2025.

تبعا لكل تلك الوقائع لا يوجد في المثال العراقي ما يمكن استنساخه سورياً، وحتى في مسألة الانتخابات، وهي أمر ضروري ولازم، لإعادة بناء الإجماعات الوطنية، وبناء الدولة والمجتمع السوريين، إذ إن الأمر يتطلب توفير السكّة الضرورية التي تؤدي إلى سلامة تلك العملية، وتجنّب الوقوع في فخّ التجربة العراقية، بتركيز الجهود، قبلا، على بناء الدولة، كدولة مؤسسات وقانون، وليس كدولة جماعات عسكرية، ولا كدولة أيديولوجيا (دينية أو مدنية)، ولا كدولة سلطة، سواء كانت لجماعة أو لفرد.

خصوصية الطريق إلى الديمقراطية سورياً

هكذا، يصبح بناء الدولة بمثابة الشرط السابق، واللازم، لتمهيد الأرض للحياة الديمقراطية، كدولة حاضنة، ومحايدة، تقونن وتحتكر العنف، وتتيح الحياة السياسية، بحرية تشكيل الأحزاب، وضمان حرية الرأي والتعبير، والنشاط السياسي. لكن ذلك يبنى على أساس مركزية الفرد، المواطن، إذ الشعب يتألف من مجموعة مواطنين، وليس من مجرد مكونات، تصادر الأفراد، وأيضا باعتبار الحرية معطى فرديا، ولا تتمظهر بمعطى جمعي، كشعب حر، من دون أفراد أحرار، وما يقال على خلاف ذلك، يخدم أغراض التورية والمخاتلة والتلاعب.

من دون الأمن والأمان في دولة، وتأمين لقمة العيش، وتعزيز الثقة في العيش المشترك، وتمكين المواطن، الحر والمتساوي مع غيره، ستبقى سوريا في مرحلة إعاقة

في سوريا، غالبا ما تتحدث خطابات المعارضة عن المجتمع المدني، مثلا، وهو أمر ضروري وبديهي بالطبع، لكن ما يفوت كثيرا من المتحدثين أن قيام هكذا مجتمع يتطلّب، أيضا، عملية تاريخية، وليس انقلابية أو "ثورية"، ينجم في سياقها قيام الدولة، وترسيخ مكانة المواطنة، إذ من دون هذين يتعذّر وجود مجتمع مدني على أرض الواقع، رغم حضوره في الخطابات والشعارات، كما يتعذّر توليد حياة سياسية فعلية، ورأي عام حقيقي، وتاليا يتعذر الولوج في عملية انتخابات، تؤسّس لديمقراطية حقيقية فعلية، وليست شكلية.

ليس القصد من هذا الكلام التخفيف من أهمية الحضّ على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في سوريا، ولا تأجيل الطلب على الديمقراطية، وإنما القصد الإشارة إلى ضرورة ترميم الفجوات، وحل المشكلات، بما يؤدي إلى سلامة الوصول فعليا إلى هذين المسارين، أو الهدفين، وتلافي المشكلات التي حصلت في التجارب الأخرى، وخاصة المصرية والعراقية.

هذا ما يفترض الاشتغال عليه، أي الانتخابات والديمقراطية، بالتوازي، مع إدراك تعقيدات ومشكلات الحالة السورية، وليس بمعزل عنها، بالنظر لحال التصحر والفراغ السياسيين، لنصف قرن، وحاجة السوريين لأولويات الأمن، وتأمين متطلبات العيش، وتأهيل البني التحتية، والأجهزة الخدمية، ولتنمية الثقة فيما بينهم.

وفي الواقع فمن دون الأمن والأمان في دولة، وتأمين لقمة العيش، وتعزيز الثقة في العيش المشترك، وتمكين المواطن، الحر والمتساوي مع غيره، ستبقى سوريا في مرحلة إعاقة، لذا المهم أولا، الخروج من هذا الوضع، الموروث، مع المشاكل المولودة.

على ذلك لا يكفي وضع "روشتة" نظرية للحالة السورية المليئة بالعقد والمشكلات والمداخلات الخارجية، إذ إن الأمر يتطلب أساسا إدراك خصوصية هذه الحالة والتعامل مع تضاريسها وفك طلاسمها، بعيدا عن النظريات المسبقة، والقوالب الجاهزة والرغبات الذاتية.

font change