بوتين يمسك مصير الحرب في أوكرانيا

في ظل غياب روسيا عن طاولة المفاوضات، لا توجد أي ضمانات على أن بوتين سيوافق على الاتفاق

بوتين يمسك مصير الحرب في أوكرانيا

استمع إلى المقال دقيقة

يعتمد مصير المبادرة الدبلوماسية الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب في أوكرانيا بالكامل على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي بات عليه الآن أن يقرر ما إذا كان يرغب في التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع.

فالزعيم الروسي لم يبد، منذ أن أطلق ما وصفه بـ"العملية العسكرية الخاصة" لإخضاع أوكرانيا لإرادة موسكو، اهتماما يُذكر بالسعي نحو حل سلمي للصراع.

وظهر ذلك بوضوح بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني، وتعهده الشهير بإنهاء الحرب خلال أربع وعشرين ساعة من بدء ولايته الرئاسية الثانية.

ورغم أن تعهده الأولي بإنهاء النزاع بدا ضربا من التفاؤل المفرط، فإن ذلك لم يثنِ الرئيس الأميركي عن توظيف قدر كبير من رصيده السياسي في مسعى لإنهاء الحرب.

فعلى الجانب الأوكراني، مارس ترمب ضغوطا هائلة على الرئيس فولوديمير زيلينسكي، بدءا من إذلاله علنا في المكتب البيضاوي وصولا إلى تهديده بوقف الإمدادات الحيوية من المعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية. أما على الجانب الروسي، فقد سعى ترمب إلى تكثيف الضغط على بوتين لدفعه نحو الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وذلك عبر تشديد العقوبات الدولية الهادفة إلى شل الاقتصاد الروسي.

الآن، وبعد إعلان إدارة ترمب عن إعداد خطة جديدة من ثمانٍ وعشرين نقطة لإنهاء النزاع، يجد بوتين نفسه مجددا تحت ضغط متزايد لإثبات أنه يبدي اهتماما حقيقيا بإنهاء الحرب في أوكرانيا، بدلا من الاكتفاء بالمماطلة وكسب الوقت، وهو الأسلوب الذي اتبعه في تعامله مع مبادرات السلام السابقة.

ويبدو التركيز على بوتين شديدا على نحو خاص، لأن اتفاق السلام الأخير الذي طرحه ترمب بدا، في بدايته على الأقل ومن منظور أوروبي، منحازا بشكل كبير لصالح موسكو. فرغم أن التفاصيل الدقيقة للمقترح لم تُنشر بعد، تشير المؤشرات الأولية إلى أنه سيُتيح لروسيا الاحتفاظ بجميع الأراضي التي سيطرت عليها في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم منذ هجومها الأول في عام 2014.

إضافة إلى ذلك، سيَحول الاتفاق دون انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وهو أحد المبررات الأساسية التي استخدمها بوتين لتبرير عمليته العسكرية، كما سيفرض قيودا صارمة على حجم الجيش الأوكراني مستقبلا. وباختصار، كانت خطة ترمب ستُحيّد أوكرانيا فعليا، وتهدي بوتين نصرا يعتبر كثير من الناس، خاصة في أوروبا، أنه لا يستحقه.

وقد أثار الانحياز الواضح لروسيا في خطة السلام الأصلية، المؤلفة من ثمانٍ وعشرين نقطة، موجة انتقادات حادة في أوكرانيا وأوروبا، ما دفع إلى تعديلها بعد سلسلة من المحادثات المكثفة التي جرت هذا الأسبوع بين مسؤولين أوكرانيين وأميركيين في جنيف.

وقد أسفر ذلك عن خطة سلام جديدة مكونة من تسع عشرة نقطة، حظيت على ما يبدو بترحيب من كييف، في حين أثارت استياء موسكو، التي تقول إن كثيرا من البنود المنحازة لها، والتي كانت مدرجة في المسودة الأصلية، قد حُذفت أو جرى تقليصها بشكل كبير.

وفي تعليقه على نتائج محادثات جنيف، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه "يمكن تطوير المبادئ الواردة في النسخة الجديدة من خطة ترمب للسلام إلى اتفاقات أعمق"، مؤكدا أن كييف مستعدة للانخراط في مفاوضات إضافية.

وفي بيان صادر عنها، امتنعت الرئاسة الأوكرانية عن الكشف عن تفاصيل المحادثات، لكنها وصفتها بـ"البنّاءة"، مشيرة إلى أن اتخاذ القرار النهائي بشأن الصيغة المعدّلة للاتفاق سيعود إلى رئيسي أوكرانيا والولايات المتحدة.

وقال سيرغي كيسليتسيا، النائب الأول لوزير الخارجية الأوكراني، الذي شارك في محادثات جنيف، لصحيفة "فايننشيال تايمز"، إن الاجتماع كان "مكثفا" لكنه كاد أن ينهار قبل أن يبدأ. ومع ذلك، أشار إلى أن المسودة الناتجة تركت "انطباعا إيجابيا" لدى الجانبين، مضيفا أن أكثر القضايا حساسية، لا سيما تلك المتعلقة بالأراضي ومستقبل أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، تُركت ليُحسم أمرها من قبل ترمب وزيلينسكي.

وقال كيسليتسيا للصحيفة: "توصلنا إلى مجموعة متينة من نقاط التوافق، فضلا عن عدد من القضايا التي يمكن التوصل إلى تسويات بشأنها"، مضيفا أن "عددا محدودا للغاية فقط من البنود الواردة في النسخة الأصلية بقي دون تعديل". من جانبه، أعرب مستشار الأمن القومي الأوكراني رستم عمروف عن تفاؤله بإمكانية سفر زيلينسكي إلى الولايات المتحدة قبل نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من أجل إتمام الاتفاق.

وبعد نجاح المحادثات بين الوفدين الأميركي والأوكراني، يعتزم ترمب إرسال مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف إلى موسكو الأسبوع المقبل، بينما يُتوقع أن يلتقي وزير الجيش الأميركي دانيال دريسكول بمسؤولين أوكرانيين خلال الأيام المقبلة.

رغم امتلاك ترمب أسبابا واقعية تدعوه للتفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق لإنهاء النزاع في أوكرانيا، فإن تحقق هذا الاتفاق سيظل، في نهاية المطاف، مرهونا بإمكانية إقناع بوتين

وفي تصريح للصحافيين على متن طائرة الرئاسة "إير فورس وان"، قال ترمب: "إننا نُحرز تقدما" بشأن خطة السلام المعدّلة، التي يبدو أنها تلبي المزيد من مطالب أوكرانيا، مضيفا أن كييف باتت بالفعل "راضية".
ومع ما يبدو أنه قبول من الجانب الأوكراني، يبقى السؤال الرئيس الآن هو: كيف سيرد بوتين على مسودة اتفاق السلام المعدّلة، في ظل تقارير تشير إلى وجود قدر كبير من التردد داخل الكرملين؟ إذ يُقال إن الروس غير راضين عن التعديلات التي أُدخلت على خطة السلام بسبب التنازلات المحتملة التي قد يُطلب منهم تقديمها.
أقر وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الذي ترأس الوفد الأميركي في محادثات جنيف، بصعوبة إقناع الروس بقبول اتفاق السلام، مشيرا إلى أنه، في ظل غياب روسيا عن طاولة المفاوضات، لا توجد أي ضمانات على أن بوتين سيوافق على الاتفاق. وقال روبيو في ختام محادثات جنيف: "من المؤكد أن للروس كلمتهم في هذا الشأن أيضا".
وتُعد مسألة التخلي عن الأراضي التي استولت عليها روسيا خلال النزاع من أبرز النقاط الخلافية بالنسبة للكرملين، إذ كانت موسكو قد أعلنت من طرف واحد ضم مقاطعات دونيتسك وخيرسون ولوغانسك، بعد أن ضمّت شبه جزيرة القرم بالقوة في عام 2014.
وفي مناقشات سابقة، أصر بوتين على بقاء جميع هذه المناطق الخمس تحت السيطرة الروسية، وهو موقف بقي ثابتا رغم محاولات ترمب، بما في ذلك خلال لقائه المباشر مع بوتين في ألاسكا في أغسطس/آب.
وقال يوري أوشاكوف، مستشار بوتين للسياسة الخارجية، إن المسؤولين الروس لم يتناولوا خطة السلام المزعومة خلال المحادثات التي جرت مع مسؤولين أميركيين في أبوظبي يوم الثلاثاء.
وأضاف أوشاكوف أن روسيا لم تتلقَ بعد رسميا خطة السلام المعدّلة بشأن أوكرانيا. وقال في تصريحات نقلتها وكالة "تاس" الرسمية: "من جانبنا، نحن لم نناقش حتى الآن أي وثائق مع أي جهة كانت... لقد اتفقنا على لقاء مع السيد ويتكوف، وآمل أن لا يأتي بمفرده، بل أن يرافقه ممثلون آخرون من الفريق الأميركي المعني بالملف الأوكراني".
وبالتالي، ورغم امتلاك ترمب أسبابا واقعية تدعوه للتفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق لإنهاء النزاع في أوكرانيا، فإن تحقق هذا الاتفاق سيظل، في نهاية المطاف، مرهونا بإمكانية إقناع بوتين بقبول اتفاق سلام دائم.

font change