الحرية أولا في "حكاية جدار" لناصر أبو سرور

نشيد أبدي لفلسطين يقول كل شيء

AFP / Abbas Momani
AFP / Abbas Momani
متظاهر فلسطيني يحمل لافتة عليها صورة الأسير ناصر أبو سرور خلال إحياء يوم الأسير الفلسطيني في بلعين قرب رام الله، 17 أبريل 2015

الحرية أولا في "حكاية جدار" لناصر أبو سرور

ربما يتساءل قارئ رواية "حكاية جدار" للأسير الفلسطيني المحرَّر من سجون الاحتلال الإسرائيلي ناصر أبو سرور، بعد أن سمع وقرأ خبر إطلاق سراح الكاتب في الفترة الأخيرة، عن شعور نَنّا، حبيبته في الرواية، وهي تراه حرّا بعد أن كانت يئست من حدوث ذلك فغادرت حياته.

الرواية التي صدرت عن "در الآداب" (2022)، حازت أخيرا، بنسختها الفرنسية الصادرة عن "دار غاليمار" بعنوان مختلف، "أنا حرّيتي"، جائزة "معهد العالم العربي" و"مؤسسة جان لوك لاغاردير" في باريس، ويتوقع صدورها بلغات أخرى قريبا.

ننّا، في الرواية، محامية، عائدة إلى أرض جدها وأبيها، تزور ناصر في السجن، وتثمر مقابلاتها له عن علاقة حب متأججة بلهيب الأشواق للحرية بعيدا من الجدار الذي يفصلهما.

ربة خيمة

لا تظهر حكاية حب ناصر لننا في الرواية سوى في الجزء الثاني منها، أما الجزء الأول فيكتب فيه ناصر عن علاقته بالجدار والعائلة والوطن والأصدقاء والحب والانتفاضة، علاقته بكل شيء، وذلك من خلال أسئلة وجودية عن الحياة والأبوة والعائلة والمجتمع وأنواع السلطة والتسلط والقمع: "جئت في عصر العجز والتواطؤ لأسرة هامشية سكنت مكانا هامشيا تملؤه شخوص هامشية، تصدرت أخبارها حناجر من فقدوا القدرة على الصراخ ولا صوت لهم".

يستعيد الكاتب/السارد، في ما يشبه السيرة، ولادته في مخيم للاجئين في بيت لحم التي لا تزال "يُطلق عليها مدينة السلام على الرغم من أنها لم تعرف من السلام إلا غيابه". كان الأب يجهل تاريخ المدينة ويظن أن قصصها خيالية، أما الأم فسرعان ما تتحول من طفلة في قرية إلى ربة خيمة في المخيم. ومع أحوال متغيرة تتبدل الأدوار والمصائر ما بين الأب والأم، وهنا يسرد ناصر بمشاكسة أيديولوجية، معاينته للمحيط: "خالفت أمي ما قرره ماركس بأن الحريات وهم برجوازي، وقامت بتوسيع مساحة الحريات على أنواعها معلنة بدء عهد جديد". فيما ظل الأب يمارس صغير أعماله كبائع ملابس، يذهب معه ابنه ناصر للبيع على "من قصُرت أيديهم، وامتلأت جيوبهم بهواء".

يتماهى الراوي مع الجدار ويصير صوته، بلغة شعرية مليئة بكل ما له علاقة بانزياح السرد وإيقاعه وتنظيم أزمنته وقصصه

هناك اقتراب من "جيل النكبة الثانية" الذي أراد بانتفاضاته وحجاراته أن "يسقط عن كاهله موروث هزائم ليست له وإن كبلته"، وهي انتفاضات "جعلت منا أصحاب قضايا"، و"جعلناها تشبهنا في رومانسيتها وتسامحها وغفرانها ما صغر من خطايا وما كَبُر".

REUTERS/Amir Cohen
مشهد للجزء الجنوبي من الضفة الغربية المحتلة والجدار الفاصل كما يظهر قرب كيبوتس لهاف جنوب إسرائيل، 23 يناير 2025

مع كل التفاصيل الاستذكارية، هناك وصف شعري للمخيم وناسه، بجمل مكثفة وعبارات تحيل دائما إلى المجاز. في كل فقرة نستذكر دائما أننا نقرأ عملا شعريا، قصيدة طويلة على الأرجح. تؤكد هذه القراءة وجود ثلاث قصائد متداخلة مع النص السردي، شكّلها الكاتب في الرواية بتقاطيع وزنية واضحة، تكشف عن شاعر صدرت له مجموعة شعرية من قبل، وأنه في هذا العمل النصي المفتوح يواصل ما كان بدأه.  بل إنه يواصل النشيد الغنائي الأبدي للفلسطينيين جميعا، والممتد من الكنعانيين إلى محمود درويش:

"كنا أقدم من تاريخنا، من كنعان وعدنان ومن لسان العرب.

 كنا أبلغ من شعرائنا، من طرفة من كُثير ومن الملك أمرئي القيس.

كنا وكنا وكنا...".

التخلي عن الحب

 يقرر الراوي، وهو المؤلف نفسه، منذ البداية أنه اتبع فلسفة التخلي عند كيركيغارد الذي رأى أن "أفضل الطرق للحفاظ على الحب، هي التخلي عن الحبيب والتنكر لغرائز التملك: التعلق والأنانية". من هنا يجيء سؤال اليقين والشك "كيف يكون الرضا والتسليم والقبول تخليا؟ وكيف يصبح الالتصاق بالجدار أقصر الطرق لاجتيازه؟" .

من منطلق هذا التخلي، يتماهى مع الجدار ويصير صوته، بلغة شعرية مليئة بكل ما له علاقة بانزياح السرد وإيقاعه وتنظيم أزمنته وقصصه، فهي كما تصرح الرواية، "كتابة السجن بكل ما فيها من اضطراب وتوعك وتخبط"، لكن هذا القول لا يأتي من استسهال أو هروب من الاقتراب من تقنيات السرد، وإنما يأتي بقصد مرسوم مسبقا قضته ظروف المكان الذي يُكتب فيه السرد ويخرج منه هذا الشكل من الكتابة: "ولدت من رحم جدار اسمنتي حتى إنها تكاد تخدش، إنها كتابة مطعمة بالحديد الصلب والإسمنت"، وهي ظروف استدعت التضاد مع كل شيء. لكنها أيضا تذكرنا بأن كتابة النص الحر هي الأساس، وكان فلوبير "يحلم بكتابة كتاب عن لا شيء، كتاب ليس له رباط خارجي، بل هو قائم بنفسه وبوساطة قوة أسلوبه الباطنية". وقد صنفت دار النشر الفرنسية الكتاب بأنه recit  وليس roman، وهو مصطلح يشمل كل نص سردي ، مثل قصة قصيرة أو رواية أو حكاية أو سيرة ذاتية. فيما المصطلح الثاني يقتصر على الرواية بأشكالها المتعارف عليها، إذ هي أحد أنواع التصنيف الأول، فكل رواية هي سرد: لكن ليس كل سرد رواية.

 

هكذا، فن

AFP
من مشاهد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

اصر أبو سرور إذ يمضي بهذه القصدية المضادة للأطر الفنية، فإنه يقيم نشيده الخاص، مونولوغه الداخلي الذي بدا أنه حكاية كل فلسطين. لذا، نجده يبدأ من لحظة جلوسه أمام المحقق في زنزانة رقم 24 بسجن الخليل شتاء 1993: "في قسم التحقيق، أنت كل شيء ولا شيء أنت". وفي جدار الزنزانة كتب عبارة "وداعا يا دنيا"، قبل أن يعرف كيركيغارد وتخليه، وقبل أن ينقلوه من معتقل إلى آخر.

رواية شعرية

لا يتخلى الكاتب عن الانزياح الشعري حتى وهو يسرد حكايته مع ننّا، هو يقول إنها حكايته، حكاية ناصر، أما ننا فهي المحبوبة التي تتردد عليه (يهدي إليها الرواية إلى جانب أمه مزيونة وشذا)، ويبدو ناصر وقد استسلم للواعج الحب حتى أقصى مدى. تبدأ العلاقة على نار هادئة من خلال حوارات عن الممكن واللا ممكن في علاقة تفصلها حواجز كثيرة جميعها تشير إلى القسوة.

الترجمة الفرنسية لرواية حكاية جدار

يرى ناصر وجه ننا وكأنه جمع بين تناقضات الشرق والغرب، ولأن الأحاديث كانت تدور عن موجة جديدة من المتوقع الافراج عنهم، انتعش الأمل بالحب ولقاءاته. فباحا به "حين نعشق تعود إلينا أجسادنا، في العشق بعث وقيامة للأجساد". تبادلا الرسائل والجمل الشعرية الخاطفة التي تكاد أن تكون صوتا واحدا، لكنه صوت مبرر حين ندرك باستمرار أننا نقرأ رواية شعرية: "استبدلتُ ننّا بالأسماء كلّها، صارت أنا نحنُ، وأخذت الأفعال الفردية في أبجديتي صفاتها الجمعية".

يتبادل المحبان هواجسهما عن الحب والحياة والخوف، عن الوطن والجوع والتهجير، وكيف يمكن التغلب على حواجز الجدران والزمن

يتبادل المحبان هواجسهما عن الحب والحياة والخوف، عن الوطن والجوع والتهجير، وكيف يمكن التغلب على حواجز الجدران والزمن، لكن هذا التلوع لا يصمد كثيرا إذ تصرح ننا، بعد أن كانت ترى قدرها في ناصر، بأنها تريد أن تكون أما وتخشى أن يمضي الزمن دون أن تحقق رغبتها. ومع إلحاح الأسئلة عن المجهول القادم، لا تتردد عن القول إنها قررت الانسحاب من حياة ناصر، ولأن هذا الأخير أدرك أن الحب هو تجاوز لشهوة الأنانية والامتلاك وأنه "لا يهبنا سلطة على أحد". وبما أنه "خلق وحياة وفرص اندهاش لا تتوقف"، فإنه يتبع فكرة التخلي، فيردد في لازمة ختامية ما قالته ننا: "أنت لا تكفيني".

ما يمكن قوله في الختام، إن ناصر أبو سرور الذي كتب هذه الرواية في سجن "هداريم"، فاز مرات عدة، فقد خرج من السجن المؤبد، بعد أكثر من 32 عاما، وصدرت روايته مترجمة وفازت بجائزة فرنسية، وقبل كل ذلك فاز بإيصال صوته، صوت فلسطين، إلى العالم.

font change