ليمي بونيفاسيو لـ"المجلة": الفنان ليس محايدا فهو دائما في صف الجمال والعدالة والحقيقة

يدافع عن ثقافات الشعوب الأصلية ويرى الشعر مساحة أبدية للحرية

AFP / Jacques Demarthon
AFP / Jacques Demarthon
مصمّم الرقص الساموي ليمي بونيفاسيو في باريس، 31 مارس 2014، قبل تقديم أعماله في "تياتر دو لا فيل" في أبريل، ومهرجان أفينيون في يوليو

ليمي بونيفاسيو لـ"المجلة": الفنان ليس محايدا فهو دائما في صف الجمال والعدالة والحقيقة

من جزيرة صغيرة في المحيط الهادئ، أتى المخرج المسرحي ومدرب ومصمم الرقص، ليمي بونيفاسيو، حاملا اسم بلاده ساموا التي تسكنها مجتمعات الماوري المرتبطة ارتباطا وثيقا بالطبيعة والتواصل مع الأسلاف، ليستكشف على مدى ما يقارب عقدين من الزمن، في عروضه الأدائية الضخمة، أشكالا معقدة من المعرفة، مثل الخطابة والملاحة والعمارة والرقص والأداء والموسيقى والاحتفالات والفلسفات والأنساب، كقوة دافعة في ترسيخ الفنون المحلية، والتعافي الثقافي، واللغة والمعرفة، والفكر والروايات التي أسكتت أو أقصيت.

يعتقد بونيفاسيو أن أعماله تملي على النظرية المركزية الغربية في التفكير الفني والإبداعي شروطا غير معتادة للتأمل. عرضت إنتاجاته الرئيسة في المصانع والقرى النائية ودور الأوبرا والمدارس والقلاع والمعارض والملاعب في أكثر من 60 دولة.

ينفتح على التجريب في طرح قضايا شعوب عدة بعيدة من مسقط رأسه، تبدأ من تشيلي ولا تنتهي عند اللجوء السوري في ألمانيا. جالت عروضه في نيوزيلندا ودول عدة في أوروبا، كما وصلت العام المنصرم الى تونس، في "أيام قرطاج المسرحية"، حيث جرى هذا اللقاء.

تحمل أعمالك رسائل بيئية واضحة وتحرض على عدم إهمال معارف الثقافات القديمة بوصفها خزان حلول لمعضلات نعاني منها اليوم. ما الذي كسبته شعوب ساموا في رأيك من تلك العزلة النسبية التي عاشت فيها لقرون؟

أنا شديد الارتباط بالنظام البيئي. أفكر دوما بأنني جزء من الأرض، أقف وأمشي عليها، وسأعود لأستلقي في داخلها. ستمتصني الأرض من جديد، وسأكون ممتنا لكوني جزءا من هذه المعجزة التي تسمى الحياة. وجهة نظري تنبع من منظور كوني محدد، وتقليد روحي محدد، وموقف بيئي محدد. تكونت آرائي، وطريقة عيشي، وتفاعلي مع العالم، من جزر ساموا، ومن المحيط حولها، الذي نسميه موانا، الذي يلون حياتنا. مكنت هذه الرؤية الكونية والحكمة السامويين من العيش ضمن قواعد واضحة وإيقاع مؤثر.

جروح الحياة

هل ترى أن الفن قادر على ترويج ايقاع أكثر حكمة لمقاربة الحياة؟

مهمتنا كفنانين وقادة رأي، هي إيجاد طريقة لتحسين شعور الناس وذائقتهم ونظرتهم الى العالم. كيف نلمس العالم؟ ما دورنا على الأرض؟ فنحن لسنا سادة الأرض، ولا يفترض أن نخربها ولا أن نديرها. نحن جزء من عملياتها الموجودة قبلنا بكثير، وستبقى بعد رحيلنا. معاملتنا المدمرة للبيئة تعكس تعامل بعضنا مع بعض.

الفن عملية روحية نعيد فيها تصور أنفسنا وعالمنا، ونعيد فيها كتابة قصتنا، وهو يمنحنا فرصة ثانية

الفن معركة لإعادة هيكلة النظام، وتجديد ما دُمّر، وخلق تواصل جديد، وقرابة مع كل الوجود. الفنان ليس محايدا، فهو دائما في صف الجمال والعدالة والحقيقة. في الفن، نجبر على النظر إلى جروح الحياة وآلامها، ونبدأ بتخيل كيفية تجاوزها إلى الشفاء وإلى حالة أجمل وأكثر صدقا. تماما كسيارة قديمة صدئة في مكب نفايات، يأخذها الفنان، ويعمل عليها، ويحولها، ليقدم رؤية جديدة لهذه السيارة القديمة المتهالكة كعمل فني، شيء من الجمال والصدق. هذه السيارة المهملة تصنع حياة جديدة. لذا، الفن عملية روحية نعيد فيها تصور أنفسنا وعالمنا، ونعيد فيها كتابة قصتنا، وهو يمنحنا فرصة ثانية.

AFP / Patrick Hertzog
راقص ماوري خلال البروفات العامة لمسرحية "العاصفة: بلا جسد" للمصمّم الساموي ليمي بونيفاسيو في مسرح دو مايويون بستراسبورغ، 15 يناير 2010

قدت في عرضك "طيور ومرايا السماء" فريقا من المؤدين الراقصين جسدوا بانسياب ومهارة حركة الطيور في أطوار مختلفة. من أين تأتّى لك هذا؟

لطالما أحببت مراقبة الطيور. في طفولتي، كنت أنظر إليها تهبط وتقلع. في جزيرتنا، لم يكن ممكنا الذهاب إلى الماء، لأن بيننا وبينها جبلا من البلاستيك، ودبابات محطمة من الحرب العالمية الثانية. لذلك كنت أجلس على صخرة وأكتفي بالمراقبة. هناك ستفكر حكما في معنى الهجرة، والعلاقة مع الاسلاف، والرحلة الملحمية للأسراب، وستفكر على وجه الخصوص في الدمار الذي لحق بكوكب الأرض. في العرض الذي أشرت إليه، أردت أن أخلق طقسا، صلاة، اعتذارا، احتفالا طقوسيا واستعدادا للتضحية. أردت أن أتحدث مع الكون. وأشعر بالنور وبجسد الوجود.

AFP / Anne-Christine Poujoulat
راقصون يؤدون عرضا خلال بروفات مسرحية "الثبات في الزمن" للمخرج الساموي ليمي بونيفاسيو في "ساحة ليسيه سان جوزيف" في أفينيون

أغنية الأرض

يجول عرضك "أغنية الأرض" منذ سنوات في نيوزيلندا ومناطق أوروبية عدة، وهو من أربعة أجزاء. ما دافعك للاستمرار في هذا العرض لمدة طويلة؟

لأنني أعتقد أن هذا العمل ليس مجرد حفل موسيقي ولا هو مسرحية ولا هو عرض راقص، بل لقاء بين رؤى عالمية لكل تلك الفنون. وهو في الأساس مبني على لحن "أغنية الأرض" للنمساوي غوستاف مالر، مدمج مع أغان تقليدية من ثقافات المحيط الهادئ.

لا يمكن أي عرض أن يحدث التغيير. لا يمكنك تغيير العالم غدا، لكن في وسعك أن تساهم في الوعي الجماعي وتقشير بعض الطبقات التي نبنيها كحضارة والتي تمنعنا من رؤية ما هو موجود في الحقيقة.

عندما يتحدث الناس عن المسرح، فإنهم يتحدثون مباشرة عن الشكل الأوروبي، هذه هي المشكلة، لأن هذا الشكل يقصي بقية العالم

عندما يتحدث الناس عن المسرح، فإنهم يتحدثون مباشرة عن الشكل الأوروبي، هذه هي المشكلة، لأن هذا الشكل يقصي بقية العالم. عند استخدام كلمات مثل "أوركسترا سمفونية" أو "رقص" أو "مسرح". إنني أجد اليوم هذه الكلمات عنيفة للغاية، وتمنع المرء من التعبير عن هويته، ومن هنا، فإن عملنا كفنانين ليس دعم الثقافة، بل تفكيكها.

AFP / Anne-Christine Poujoulat
راقصون خلال بروفات مسرحية "الثبات في الزمن" للمخرج الساموي ليمي بونيفاسيو في "ساحة ليسيه سان جوزيف" في أفينيون

هل واجهت هذا الأمر في بداية عملك؟

عندما انتقلت إلى نيوزيلندا في الخامسة عشرة، لاحظت إضفاء الطابع "الإكزوتيكي" الحسي على العروض التي تبرز فولكلور ثقافات جزر المحيط الهادئ. فهي تصور "جنة زائفة" متخيلة، حيث الراقصون من ذوي الأجساد المنحوتة الكاملة. شعرت بأن هناك محاولة لتشويه هويتي، كشخص ينتمي الى واحدة من تلك الجزر ذات الثقافة المتجذرة العريقة، بل شعرت بمحاولة لتفكيك هذه الهوية. من تلك اللحظة عرفت أن الفن ليس غايتي النهائية، بل كيفية استخدام الفن لإعادة كتابة الثقافة والتاريخ.

المكان والانتماء

أنت تسافر طوال الوقت عبر عروضك الدولية. هل في وسعك عبر هذا الإيقاع أن تخدم فعلا قضايا بلدك؟

أنا ساموي، وهذا يعني أنني لست مضطرا للعيش هناك. ثقافتي تعيش في داخلي. لا أحتاج حتى للتفكير كثيرا في ساموا، بل أفكر في ما أفعله. وما أفعله، أفعله بفضل ثقافتي، بفضل ما انطبع في جسدي الآتي من المحيط الهادئ. لا أشعر ببعد أو انفصال. أن تكون سامويا لا يعني أن تكون من سكان الجزيرة، بل الأمر يتعلق بالشخصية. أعيش على خشبة مسرح، مع مؤثرات ضوئية، لكن ما أفعله هناك هو انعكاس لثقافتي. لم ألتحق بمدرسة مسرح غربية. في عروضي أعتني ببلدي وباحتياجات الناس المادية والثقافية وبخيالهم وبصحتهم النفسية. الأمر أشبه بكونك أبا، عليك أن توفر لهم بعض الأمور. وما أفعله في الفنون مهم لهم أيضا. لذا، عملي في المسرح ليس من أجل المسرح، بل من أجلهم. أينما ذهبت، يرافقونني.

نضالك الفني حول الانتصار للشعوب الأصيلة، تجاوز حدود الجزيرة والمحيط الهادئ وصولا الى تشيلي. في "حب حتى الموت" دافعت عن "شعب المابوتشي" وتاريخه الطويل للازدهار والبقاء على أرضه. هل كان هناك دافع شخصي دفعك للاهتمام بهذا الأمر؟

انطلقت فكرة مشروع "حب حتى الموت" من حادثة مقتل كاميلو كاتريلانكا، البالغ من العمر 24 عاما، عام 2018. قُتل كاتريلانكا، وهو أحد أفراد شعب المابوتشي الأصليين في تشيلي، ظلما على يد ضابط في وحدة مكافحة الإرهاب الوطنية، وقام الضباط المرافقون له بمحو تسجيلات كاميرات المراقبة لإخفاء الجريمة.

ما يحفزنا على ممارسة حياتنا هو روحنا. إذا كانت روحنا مريضة، فسيكون سلوكنا مريضا بالطبع

 عاش كاتريلانكا في منطقة أراوكانيا الجنوبية التي أعلنت استقلالها عن الدولة التشيليانية عام 2003، وكانت خاضعة لوجود عسكري مكثف منذ 1882. أثار مقتله، وهو رابع شخص من شعب المابوتشي يقتل على يد الشرطة منذ عام 2002، احتجاجات في جميع أنحاء تشيلي، حركت مياه البركة السوداء، وقصة نهب أراضي المابوتشي، والاستيلاء عليها، وبيعها، بعد أن قتل الآلاف، وتشتت العديد من الناجين إلى المراكز الحضرية بحثا عن عمل، خاصة مع حظر الديكتاتور العسكري أوغستو بينوشيه (1973-1990) الأراضي الجماعية وخصخص جميع الأراضي، وكذلك قيامه بتشجيع قطع الأشجار للاستخدام الصناعي في أراضي المابوتشي بسياسات وحوافز لا تزال تهجر السكان وتعوقهم. ولا يزال قانونه لمكافحة الإرهاب، المصمم لقمع المعارضة، يستخدم لمقاضاة منشقي المابوتشي.

AFP / Anne-Christine Poujoulat
خلال بروفات مسرحية "أنا" لمدير الرقص الساموي ليمي بونيفاسيو في "كور دونور دو باليه دي باب" خلال مهرجان أفينيون، 18 يوليو 2014

الوعي الروحي

يبدو الوعي الروحي جوهرا رئيسا في كل أعمالك، هل توافقني الرأي؟

بالطبع، مشكلة الحياة دائما ما تكون مشكلة ثقافية، أي كيفية ممارسة الحياة. ما يحفزنا على ممارسة حياتنا هو روحنا. إذا كانت روحنا مريضة، فسيكون سلوكنا مريضا بالطبع. لا أريد أن يذهب الناس إلى المسرح لتسليتهم لساعة أو ساعتين، بل للبحث حقا عن تحول روحي. أعتقد أننا في حاجة إلى أن نجد في الفنون وفي العالم الآن ما يوحدنا. يمكنني أن أتناول فنجان قهوة وأتحدث عن الثقافة، ولكن بعد ذلك، علينا أن نفكر في كيفية التعايش مع العالم معا. الثقافة لا تهم. إذا أردت التعرف الى ثقافة المابوتشي، فاذهب إلى عالم المابوتشي. لا تأت إلي. أنا هنا لأمر مختلف. حين قدمت هذا العرض، لم أكن أعرف شيئا عن ثقافة المابوتشي، ولا عن الفلامنكو، الذي ضمنته العرض أيضا. بدأت اذن بعدم المعرفة، لأن هذا هو مغزى الفنون: أن تأخذنا إلى مكان لا نعرفه. هكذا تقوم بتبني إيقاعين يساعدانك بطريقة ما في إيقاظ الأسلاف.

AFP / Jacques Demarthon
مصمّم الرقص الساموي ليمي بونيفاسيو في باريس، 31 مارس 2014، قبيل عرض أعماله في "تياتر دو لا فيل" في أبريل، ومهرجان أفينيون في يوليو

كالكلام على الشعر...

الإبداع يكمن في كيفية توجيه الناس نحو مظاهر وأحاسيس الشعر في الحياة. ليس نحو تفسيرات لها، أو لمعانيها، أو لثقافتها السياسية، بل للشعر، فقط، كبعد أبدي تكون فيه حرا لا تحتاج إلى أي شيء أو أحد ليثبت لك أي شيء. لكننا للأسف لا نملك هذه اللحظات كثيرا في حياتنا.

خلق المساحة الشعرية في الأعمال يسمح للناس بالوصول إلى نوع من إدراك الذات لما ينبغي أن يكونوا عليه في العالم

خلق المساحة الشعرية في الأعمال، يسمح للناس بالوصول إلى نوع من إدراك الذات لما ينبغي أن يكونوا عليه في العالم. مهما بلغ صراخي، لن يغير شيئا. لن يحل أي عمل مسرحي مشاكل العالم. لكن هذه مجرد لحظات تساعدنا، وتمنح وعينا لياقة ما. بالنسبة لي، يتمحور الإبداع حول "التعري"، بمعنى التخلي عن الأشياء التي تغطي عقولنا ومشاعرنا للحظة، ثم مجرد الانوجاد في الكون. هنا، حيث نرتبط جميعا. إنه أشبه بطقوس الشفاء لأناس يحاولون التعلق بطقوس حياتهم وبالعالم الذي يعيشون فيه.

AFP / Patrick Hertzog
مصمّم الرقص الساموي ليمي بونيفاسيو خلال البروفات العامة لمسرحيته "العاصفة: بلا جسد " في مسرح دو مايويون بستراسبورغ، 15 يناير 2010

في عرضك "اعادة تأليف" أثرت قضية اللجوء السوري في ألمانيا من خلال قصص نساء. ما الذي جعلك تقتحم هذا الموضوع؟

يشهد عالمنا حاليا أزمة إنسانية حقيقية تتمحور حول اللاجئين. وسألت نفسي كيف يمكنني الجمع بين طرفي نقيض من السلطة، أي بين نساء يعملن في مراكز مؤثرة في هانوفر وبين  كاتبات سوريات لاجئات. اردت لهن في هذا اللقاء ان يتمتعن بحرية مطلقة. أن أربط بعضهن ببعض، وبعدها يكون عليهن التعبير عن أنفسهن. لا تتبنى المرأة السورية النهج نفسه في التعامل مع الحياة والثقافة، الذي تتبناه المرأة الألمانية، وهذا مهم. لكن الأمر يتعلق أيضا بمحاولة تحديد ما قد يجمعهن.

font change