ما الذي علمتنا إياه الانتخابات الأخيرة بخصوص العراق؟

من المهم فهم الفوز الانتخابي في سياقه الصحيح والمباشر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أنصار السوداني الحالي يلوحون بالأعلام الوطنية أثناء احتفالهم بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الأولية في بغداد في 12 نوفمبر 2025.

ما الذي علمتنا إياه الانتخابات الأخيرة بخصوص العراق؟

كانت نتيجة الانتخابات العراقية لافتة وحاسمة هذه المرة بخلاف معظم الانتخابات البرلمانية السابقة، إذ أنتجت فائزا واضحا هو "الإطار التنسيقي" بقوائمه الانتخابية المختلفة. فحسب النتائج التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة، المسؤولة عن إدارة الانتخابات، حصلت القوائم الانتخابية المختلفة لـ"الإطار"، بضمنها القائمة التي تصدّرها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، على أكثر من 180 مقعدا.

كانت إحدى علامات قوة الأداء الانتخابي لـ"الإطار" الانضواء السريع لقائمة السوداني، "ائتلاف الإعمار والتنمية" الحائز على 46 مقعدا، في "الإطار التنسيقي" والتخلي عن فكرة منافسته، خصوصا أن الائتلاف تشكل بالضد من رغبة "الإطار" الذي يصر على التزام رؤساء الوزراء الذين يرشحهم ويدعمهم بتعهد يمنعهم من تشكيل تحالفات سياسية لخوض الانتخابات، منعا لتشكيل قوة سياسية خاصة بهم وتشتيت الصوت الشيعي على متنافسين كثيرين.

فوز انتخابي فقط وليس تأييدا شعبيا

لكن من المهم فهم هذا الفوز الانتخابي في سياقه الصحيح والمباشر، وليس السياق المفتعل الذي تحاول جماعات إطارية الترويج له: جاء هذا الفوز تتويجا لعدة عوامل قانونية وتقنية ومالية منحازة لا علاقة لها بالأداء الجيد في الحكم أو التحسن الواضح في الحوكمة التي شعر المجتمع بنتائجها الإيجابية وكافأ الإطار التنسيقي انتخابيا بسببها.

مرّرَ "الإطار التنسيقي"، في 2023، قانونا انتخابيا جائرا يخدم مصالح الأحزاب الكبيرة والقادرة على الإنفاق المالي السخي، خصوصا التي في السلطة، ويُهمِّش الأحزاب الصغيرة والفقيرة ماليا.

ثم كان هناك الشراء الواسع لأصوات الناخبين، حتى أمام مراكز الاقتراع، من جانب هذه الأحزاب المتنفذة كما أشار إلى هذا كثير من المتابعين. شراء الأصوات الانتخابية رغم مخالفتها للقانون ظاهرة شائعة ومعروفة في الانتخابات العراقية، لكنها بلغت مستوى غير مسبوق في هذه الانتخابات الأخيرة. فضلا عن هذا، تمتلك الأحزاب المتنفذة ماكينات انتخابية ضخمة وباهظة الثمن وخبيرة بالترويج وكسب الأصوات تستطيع أن تدير حملات انتخابية ناجحة على مستوى البلد كله.

شراء الأصوات الانتخابية رغم مخالفتها للقانون ظاهرة شائعة ومعروفة في الانتخابات العراقية، لكنها بلغت مستوى غير مسبوق في هذه الانتخابات الأخيرة

تفتقر القوى المعارضة، التي يُطلق عليها في العراق تسمية "القوى المدنية" كل هذه المَيّزات  ما يجعلها في وضع بنيوي ضعيف في كل انتخابات تقريبا. يزيد ضعف هذه القوى عجزُها المستمر عن الاتحاد تحت مظلة واحدة وعن صياغة خطاب انتخابي واضح ومعارض يصل للعراقيين العاديين، وليس خطاب المعارضة الحالي الذي يتعاطف معه جمهور نخبوي محدود الأثر انتخابيا.

كما تضررت "القوى المدنية" من المقاطعة الواسعة لهذه الانتخابات، فالذين يقاطعون الانتخابات هم عادة من الساخطين على الأحزاب المتنفذة والقابضة على السلطة، وبالتالي فهم منطقيا أقربُ للتصويت للأحزاب المعارضة في حال مشاركتهم في الانتخابات. من جانبها، تُصر المفوضية العليا حتى الآن على تضخيم عدد المشاركين الانتخابات (56 في المئة) عبر استخدام صيغة  مغلوطة وتناقض المعايير الدولية، إذ تحسب نسبة المشاركة عبر حساب عدد المصوتين الفعليين الذين أدلوا بأصواتهم في صناديق الاقتراع مقارنة بعدد المصوتين المسجلين، بدلا من عدد العراقيين الذين يحق لهم التصويت.  

حسابات ما بعد الفوز الانتخابي

بعيدا عن الشعور بنشوة الانتصار التي يعيشها حاليا الإطار التنسيقي بما تعنيه من خلو الدرب من أي منافس له في احتكاره السلطة، ستبدأ تحدياته الأصعب قريبا بعد تشكيل الحكومة  التي يُفترض أن يمررها سريعا البرلمانُ الجديد الخاضع لهيمنته عبر صفقة المحاصصة المعتادة والمعروفة بـ"السلة الواحدة": الاتفاق والمصادقة على تسمية الرئاسات الثلاث مرة واحدة (رئاسة البرلمان والحكومة والجمهورية). يتضمن هذا أيضا إنتاج "الصفقة السياسية الكبرى" بين الجماعات السياسية الشيعية والسنية والكردية التي تُحَدَّد على أساسها أسماء المرشحين للمناصب الرئاسية الثلاثة وكيفية توزيع المناصب الرفيعة الأخرى على أساس منظومة المحاصصة، فضلا عن البرنامج الحكومي المقبل بناء على الاتفاق السياسي بين هذه المجاميع (وهو الاتفاق الذي نادرا ما يجري الالتزام به بعد تشكيل الحكومة، لكنه مفيد إعلاميا في طمأنة جمهور هذه الجماعات أن حاجاته تؤخذ بنظر الاعتبار). 

في ظل الفوز الانتخابي المريح الذي حققه، يمضي "الإطار" نحو ترسيخ العرف السيئ بوجود رئيس وزراء ضعيف خاضع تماما لسيطرته ولا يمكن أن يشكل تحديا مستقبليا له أو يتصرف على نحو مستقل عنه (بهذا الصدد، يُعتبر رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي الذي أطاح به "احتجاج تشرين" في 2020 النموذج المثالي الذي يتمناه "الإطار" لكن لم يستطع أن يجده في شخصية السوداني). وسواء قرر الإطار التجديد للسوداني بشروط جديدة وصارمة، أو اختيار رئيس وزراء جديد، وهو ما يبدو مرجحا حتى الآن، ستواجه الحكومة الجديدة، ومن ورائها "الإطار" الداعم لها، المشكلة الصعبة التي لا يبدو أن نقاشا جديا قد جرى بخصوص كيفية حلها: الإصرار الأميركي المعلن والمتكرر بضرورة تفكيك الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران ووضع حد للنفوذ المُهيمن للجمهورية الإسلامية في العراق.

المجلة
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يستقبل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال قمة حول غزة في شرم الشيخ، 13 أكتوبر2025

 

ستواجه الحكومة الجديدة المشكلة الصعبة التي لا يبدو أن نقاشا جديا قد جرى بخصوص كيفية حلها: الإصرار الأميركي المعلن والمتكرر بضرورة تفكيك الفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران 

في خلال الأيام المقبلة، سيزور المبعوث الرئاسي الأميركي، مارك سافايا، بغداد وسيثير موضوع تفكيك الفصائل، كما كان الأمر واضحا في تغريدته الأخيرة والتفصيلية التي جاءت بعد لقاء له مع الرئيس دونالد ترمب، وذكر فيها أن العراق يقف اليوم عند مفترق طرق بخصوص حصر السلاح بيد الدولة وأن مستقبل الدولة العراقية نجاحا أو فشلا بضمنها احتمالات الازدهار الاقتصادي سيكون مرهونا بقدرة هذه الدولة على نزع سلاح الميليشيات. كان لافتا للانتباه هنا الرد الغاضب لزعيم أهم فصيل مسلح وداعم لإيران في العراق، حركة النجباء، إذ صَرح أمينها العام، الشيخ أكرم الكعبي، بأنه إذا لم ترفض الدولة هذه التصريحات التي عدها "تدخلات سافرة" من جانب سافايا، فإن "المقاومة الإسلامية ستلقمه حجرا في فمه وترجعه لأسياده".

العلاقة الغامضة مع واشنطن

تكمن أهمية زيارة سافايا المرتقبة للبلد في سدها المحتمل لفجوة لافتة في الموقف الأميركي بخصوص "الضرورة الملحة لنزع سلاح الميليشيات المدعومة من إيران" كما ورد في البيان الأميركي للمكالمة الهاتفية بين وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، والسوداني، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل نحو 20 يوما من إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية. تتمثل هذه الفجوة بالعواقب الأميركية في حال لم ينفذ العراق الإرادة الأميركية بحل هذه الميليشيات. شرح هذه العواقب، إن وجدت، سيصنع الفارق، ويؤثر كثيرا على السلوك الرسمي العراقي وكيفية الرد على الطلب الأميركي.

ولحد الآن، تكتفي الولايات المتحدة في ظل إدارة ترمب بلغة واضحة وصارمة (وعلنية بخلاف الإدارات السابقة) بضرورة إنهاء النفوذ الإيراني في العراق، وتأكيدها على ضرورة تفكيك الفصائل المسلحة بوصفها عمودا أساسيا من أعمدة هذا النفوذ، لكن لا تبدو هذه المطالبات الأميركية المباشرة صلبة رغم وضوحها، إذ يغلب عليها الغموض بخصوص عواقب رفض العراق تلبية هذه المطالب. 

أ.ف.ب
فرز الأصوات في مركز اقتراع بعد إغلاق الصناديق خلال الانتخابات البرلمانية العراقية في منطقة المهندسين شرق بغداد، 11 نوفمبر 2025.

 

لا تبدو هذه المطالبات الأميركية المباشرة صلبة رغم وضوحها إذ يغلب عليها الغموض بخصوص عواقب رفض العراق تلبية هذه المطالب

قد يكون سبب هذا الغموض أنه لا توجد فعلا خطة أميركية للتعاطي مع الرفض العراقي المحتمل، والاكتفاء بالضغط السياسي والإعلامي من دون الذهاب إلى أبعد من هذا كممارسة الضغوط الاقتصادية والمالية. يُعتبر هذا السيناريو هو الخيار الأفضل لـ"الإطار التنسيقي" والفصائل المسلحة المنضوية فيه ولإيران أيضا التي تتابع مشهد هذه المواجهة بالكثير من الترقب.

في خلال الفترة القليلة المقبلة، وصولا التي تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، سيتضح مستقبل العلاقة الأميركية-العراقية الملتبسة، لجهة ذهابها نحو درب المواجهة أو بقائها على التباسها الحالي إذا ظهر أنه ليس لإدارة ترمب خطة بخصوص العراق أبعد من الإعلانات السياسية والمطالبات المفتوحة المشفوعة باللوم العلني، لكن من دون خطوات ملموسة لحسم مستقبل هذه العلاقة إيجابا أو سلبا. يُفضل "الإطار التنسيقي" أن تبقى العلاقة بين الطرفين هكذا على منوالها المعتاد: غامضة ومفتوحة على احتمالات كثيرة وتخلو من الحسم لأن هذا يسمح له باستمرار ارتباطه الخاص وغير المنصف مع الجمهورية الإسلامية، فيما يستفيد في الوقت نفسه من اللامبالاة الأميركية.

font change