اختطاف معمر إبراهيم... حين يتحوّل الصحافي السوداني إلى ضحية

التسامح الدولي يمنح "الدعم السريع" حصانة مؤسسية وشعورا بأنها يمكن أن تفعل ما تشاء

أ ف ب
أ ف ب
سودانيون اثناء تجمع مؤيد للجيش في القضارف شرقي العاصمة الخرطوم في 13 ديسمبر

اختطاف معمر إبراهيم... حين يتحوّل الصحافي السوداني إلى ضحية

لثمانية عشر شهرا، ظل صوت معمر إبراهيم هو الوحيد الذي يخترق حصار الفاشر الممتد، لينقل للعالم ما تعجز الكلمات عن وصفه. مدينة ظلت تحتضر ببطء تحت وطأة الحرب والحصار. كان هذا الصحافي السوداني الشاب واحدا من قلة اختارت البقاء، يوثق أفرادها بكاميراتهم وأقلامهم ما يحدث في عاصمة شمال دارفور، آخر معاقل سيطرة الحكومة في الإقليم، بينما فر آخرون بحثا عن الأمان.

عدد سكان المدينة تناقص تدريجيا خلال أشهر الحصار الثمانية عشر من حوالي مليونين إلى ثلاثمئة ألف بحلول أكتوبر/تشرين الأول. وفي السادس والعشرين من أكتوبر 2025، اجتاحت ميليشيا "الدعم السريع" المدينة، وتحول معمر من شاهد على الجريمة إلى ضحية لها.

ظهرت مقاطع فيديو مروعة، صورها أفراد الميليشيا أنفسهم بفخر مقيت، لتُظهر معمر وهو يتعرض للإهانة والمعاملة المذلة بعد اختطافه من قبلهم وهو يحاول الخروج من المدينة التي فُتحت فيها أبواب الجحيم بعد سقوطها في يد الميليشيا. تلك الصور لم تكن مجرد انتهاك لكرامة إنسان، بل كانت رسالة واضحة من إعلام الميليشيا: من يوثق جرائمنا سيصبح عبرة لغيره. وبينما تتسرب أنباء عن تدهور حالته الصحية وتعرضه لسوء المعاملة المستمر، يبقى السؤال الأكبر معلقا: كم من الانتهاكات يجب أن ترتكبها الميليشيا قبل أن يتحرك المجتمع الدولي؟

 أ ف ب
متظاهرون سودانيون مؤيدون للجيش في ام درمان في 13 ديسمبر

اختطاف معمر إبراهيم يمثل انتهاكا فاضحا لاتفاقيات جنيف الأربع، لا سيما المادة الثالثة المشتركة التي تحظر "الاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطّة بالكرامة". كما ينتهك بشكل مباشر قرار مجلس الأمن رقم 2222 (لعام 2015) الذي يدين استهداف الصحافيين في مناطق النزاع المسلح.

قضية معمر ليست استثناء، بل هي قطرة في بحر من المعاناة. فوفقا لتقرير لجنة الخبراء المعنية بالسودان الصادر عن الأمم المتحدة في يناير/كانون الثاني 2025، فإن ميليشيا "الدعم السريع" مسؤولة عن "نمط منهجي من الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري"، مع توثيق مئات الحالات في دارفور وحدها. "منظمة العفو الدولية" وثقت في تقريرها لعام 2024 أكثر من 450 حالة اختفاء قسري في ولاية شمال دارفور خلال الأشهر الستة الأولى من العام، مع احتمال أن يكون العدد الفعلي أكبر بكثير نظرا لصعوبة التوثيق في مناطق النزاع.

تشير تقديرات "شبكة محامي دارفور" إلى أن ما لا يقل عن 3200 شخص محتجزون حاليا لدى "الدعم السريع" في مراكز احتجاز غير رسمية منتشرة في مناطق دارفور

وقد ظل اختطاف المواطنين واحتجازهم تعسفيا في معتقلات سرية نمطا ثابتا لممارسات ميليشيا "الدعم السريع" في المناطق التي تسيطر عليها منذ اندلاع الحرب. ووفقا لتقارير موثقة من منظمة العفو الدولية، و"هيومان رايتس ووتش" والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، بلغ عدد الضحايا الذين قضوا نحبهم في هذه المعتقلات المئات، حيث سجلت معتقلات مثل سجن سوبا في الخرطوم معدلات وفيات يومية تتراوح بين 4 إلى 10 حالات، بل وصلت إلى 80 حالة في بعض الأيام، بسبب الجوع والأمراض القابلة للعلاج والإهمال الطبي، مع اكتشاف قبور جماعية تحتوي على مئات الجثث قرب مواقع الاحتجاز السابقة الخاضعة لسيطرة الميليشيا. كما تم توثيق ما يقارب 10  آلاف معتقل في 39  موقعا سريا في ولاية الخرطوم وحدها بين أبريل/نيسان 2023 ويونيو/حزيران 2024، بما في ذلك أكثر من 6000 في سجن سوبا و3000 في مجمع الرياض، حيث شملت الضحايا المدنيين والنساء والأطفال دون سن 13 عاما، مع حالات اختفاء قسري بلغت 528 حالة موثقة، منها 27 طفلا، و990 حالة اختفاء قسري عامة في سياق النزاع.
وشملت ممارسات التعذيب المنهجية في هذه المعتقلات الضرب الشديد باستخدام الخراطيم والسياط والعصي المعدنية وقضبان البنادق، والصدمات الكهربائية، والحرق بقضبان معدنية ساخنة، والتعليق لفترات طويلة في أوضاع مؤلمة، بالإضافة إلى الإعدامات الفورية والتهديدات بالقتل. كما تفشى العنف الجنسي كوسيلة للتعذيب، حيث سجلت 164 حادثة عنف جنسي في المعتقلات السرية (228 ضحية، بما في ذلك 113 امرأة وفتاة)، مع توثيق 36 حالة اغتصاب أو اغتصاب جماعي في الخرطوم والجزيرة. 

RSF
الصحافي السوداني معمر ابراهيم

أما أنماط المعاملات غير الإنسانية الأخرى، فتشمل الاكتظاظ الشديد في غرف صُممت لـ90 شخصا لكن جرى وضع ما يصل إلى 190 شخصا فيها، والحرمان الكامل من الطعام والماء لفترات طويلة، ونقص التهوية والمرافق الصحية مما يؤدي إلى تفشي الأمراض والطفيليات، والاحتجاز السري دون إخطار العائلات، والتمييز العرقي الذي يستهدف أفرادا من قبائل محددة من إقليمي دارفور وكردفان بتعذيب إضافي، بالإضافة إلى استخدام الأطفال كحراس أو عمالة قسرية، مما يصنف هذه الممارسات كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وتشير تقديرات "شبكة محامي دارفور" إلى أن ما لا يقل عن 3200 شخص محتجزون حاليا لدى "الدعم السريع" في مراكز احتجاز غير رسمية منتشرة في مناطق دارفور. ووثقت "هيومان رايتس ووتش" في تقرير نوفمبر/تشرين الثاني 2024 شهادات 78 ناجيا من مراكز الاحتجاز هذه، يصفون أوضاعا "غير إنسانية": الاكتظاظ الشديد، والحرمان من الطعام والماء، والتعذيب المنهجي، والحرمان من الرعاية الطبية.
أكثرية المحتجزين من الشباب والناشطين والصحافيين والقيادات المجتمعية. ومعظم هؤلاء يُحتجزون بلا اتهام، وبلا محاكمة، وبلا اتصال بالعالم الخارجي. عائلاتهم تعيش في عذاب يومي، وهي لا تعرف إن كان أحباؤهم أحياء أم أمواتا.

الأمم المتحدة نفسها تبدو عاجزة أو غير راغبة في الضغط الحقيقي. ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية يُصدر تقارير مفصلة عن الانتهاكات، لكن دون أن يتبع ذلك أي إجراءات عملية

وإذا كان الرجال يُختطفون للفدية أو للتصفية، فإن النساء يُختطفن لمصير أشد قسوة. حيث وثق تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بشأن السودان (أكتوبر 2024) أكثر من 2500 حالة خطف للنساء والفتيات في دارفور والخرطوم، معظمهن من المجموعات الإثنية الأفريقية. والشهادات المروعة تتحدث عن استعباد جنسي ممنهج، وزواج قسري، وتجارة بشرية.
منظمة الهجرة الدولية (IOM) أصدرت في ديسمبر/كانون الأول 2024 تقريرا كشفت فيه عن شبكات تجارة بشر تعمل في مناطق سيطرة "الدعم السريع"، حيث تُباع النساء والفتيات إلى شبكات في تشاد وليبيا ومصر. التقرير يشير إلى أن أسعار "بيع" النساء تتراوح بين 1000  إلى 3000  دولار أميركي. وصندوق الأمم المتحدة للسكان(UNFPA)  قدّر أن ما لا يقل عن 15,000 امرأة وفتاة تعرضن للعنف الجنسي المرتبط بالنزاع منذ أبريل 2023، وأن الرقم الحقيقي قد يكون أضعاف ذلك.
في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا "الدعم السريع"، ينشأ ما يمكن تسميته "جمهورية الكدمول"، نظام حكم يقوم على القهر والإذلال والفوضى الممنهجة. حيث يصف تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" في يناير/كانون الثاني 2025 كيف حلّت الميليشيا مؤسسات الدولة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، واستبدلتها بنظام قبلي عشوائي يديره قادة ميدانيون يتمتعون بصلاحيات مطلقة. في الفاشر والجنينة ونيالا، أصبحت المحاكم الشرعية والمدنية معطلة، وحلّت محلها "محاكم" عرفية تديرها الميليشيا، حيث تُصدر أحكام جلد وإعدام ميداني دون أدنى معايير للعدالة. وتم توثيق مئات أحكام الإعدام العشوائية لأكثر من 200 حالة إعدام ميداني في المناطق الخاضعة لسيطرة "الدعم السريع" خلال الأشهر الستة الماضية.

أ ف ب
عناصر من "قوات الدعم السريع" في الخرطوم في صورة تعود الى ابريل 2023

لكن الأكثر إيلاما من الجرائم نفسها هو الصمت الدولي الذي يحيط بها. فرغم التقارير المتكررة من المنظمات الدولية، ورغم الصور والفيديوهات المروعة، يبقى الموقف الدولي باهتا وخجولا. حيث فشل مجلس الأمن الدولي حتى الآن في إصدار قرار ملزم بفرض عقوبات حقيقية على قادة "الدعم السريع"، رغم أن الفصل السابع يُجيز التدخل لوقف جرائم ضد الإنسانية.
وأعلنت المحكمة الجنائية الدولية في يونيو/حزيران 2024 أنها تجري "فحصا أوليا" للوضع في السودان، لكن لم تصدر حتى الآن أي مذكرة توقيف بحق قادة الميليشيا. في المقابل، أصدرت المحكمة مذكرات توقيف ضد مسؤولين في صراعات أخرى بوتيرة أسرع بكثير، مما يطرح تساؤلات حول معايير العدالة الدولية.
الأمم المتحدة نفسها تبدو عاجزة أو غير راغبة في الضغط الحقيقي. ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية(OCHA)  يُصدر تقارير مفصلة عن الانتهاكات، لكن دون أن يتبع ذلك أي إجراءات عملية. ورغم تعليق عضوية السودان، لم يتخذ الاتحاد الأفريقي خطوات حقيقية لوقف العنف. بيتر مارتن، المسؤول السابق في بعثة الأمم المتحدة في دارفور، علّق قائلا: "المجتمع الدولي يعامل السودان وكأنه فصل منسي من الصراعات الأفريقية. هناك تعب من دارفور، تعب من السودان، والضحايا يدفعون ثمن هذا التعب".
هذا التسامح الدولي يمنح الميليشيا ما يمكن تسميته "حصانة مؤسسية وشعورا بأنها يمكن أن تفعل ما تشاء دون عواقب حقيقية. عندما تُنشر فيديوهات التعذيب ولا يحدث شيء، عندما تُوثّق المجازر ولا يُحاسب أحد، عندما تُختطف النساء ويُبعن كسلع ولا تُفرض عقوبات، فإن الرسالة التي تصل للجناة واضحة: تابعوا".

كل هذه الإحصائيات ليست مجرد رقم، بل هي مؤشر على منظومة كاملة من اللامبالاة بهذه الفظائع والجرائم التي ترتكبها ميليشيا "الدعم السريع".
الإفلات من العقاب ليس مجرد فراغ قانوني، بل هو اختيار سياسي يدعمه المجتمع الدولي لتفادي الاصطدام مع الدول الداعمة للميليشيا. عندما يمتلك المجتمع الدولي الأدوات القانونية ولا يستخدمها، فهو يختار ضمنيا السماح باستمرار الانتهاكات. كل يوم من التأخير في المحاسبة هو يوم إضافي من المعاناة لآلاف المواطنين.
قضية معمر إبراهيم ليست وحدها إلا بمقدار الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به. هناك آلاف "المعمرين": صحافيون آخرون، نشطاء، أطباء، معلمون، أمهات، أطفال. كل واحد منهم له اسم، له قصة، له أحلام دُفنت تحت ركام هذه الحرب العبثية.
وبينما يبقى معمر إبراهيم محتجزا في مكان مجهول، تتدهور صحته، ربما يتساءل إن كان أحد يتذكره، وإن كانت صوره ستحرك ضميرا عالميا بدا ميتا. قضيته تختزل مأساة بلد بأكمله: شعب يُعاقب على شهادته على الحقيقة، مجتمع دولي يكتفي بالبيانات والتقارير بينما تستمر المأساة، ومجرمون يتمتعون بحرية مطلقة لأن أحدا لا يجرؤ على وقفهم حقا.
السؤال لم يعد عما يحدث في السودان، فالكل أضحى يعرفه بتفاصيل مروعة، موثقة في مئات التقارير. السؤال الحقيقي هو: متى سيتحرك العالم وتتحول هذه المعرفة إلى فعل؟ متى ستتوقف المجازر عن كونها مجرد عناوين عابرة في نشرات الأخبار؟ كم معمرا آخر يجب أن يُختطف، كم امرأة يجب أن تُباع، كم طفلا يجب أن يموت جوعا، قبل أن يقرر العالم أن ما حدث حتى الآن يكفي؟

font change