ساحة المرجة... أرشيف حي لتحولات دمشق

صورة شعاعية تكشف قاع المدينة

Shutterstock
Shutterstock
ساحة المرجة في دمشق، سوريا، مايو 2023

ساحة المرجة... أرشيف حي لتحولات دمشق

إذا ما رغبت في اكتشاف الفضاء الشعبي لمدينة دمشق، وفحص طبقات القاع عن كثب، فما عليك إلا بزيارة ساحة المرجة. فهنا لا تحتاج إلى مجاز أو استعارات لتوصيف جماليات المكان، ذلك أن شرايين الحياة تصنع يومياتها باللحم الحي، من دون مراوغة، كأنك حيال صورة شعاعية للمدينة تشير إلى أعطاب الجسد المريض. حشود بشرية تتزاحم في الساحة وتفريعاتها صعودا ونزولا، من سوق الحميدية وشارع النصر إلى "سوق الحرامية"، ومبنى سجل النفوس. غرباء، ومرضى، وجنود في إجازة، وسماسرة وقوادون، يتوزعون الفنادق الشعبية والمقاهي والأرصفة وعربات الشواء.

تكمن أهمية هذه الساحة التي كانت في العصر العثماني أول مركز للعاصمة، خارج سور المدينة القديمة، في قيمتها التاريخية، وفي الوقائع المفصلية التي شهدتها، وإذا بها تتحول إلى أرشيف حي لتبدلات المدينة. أرتال طويلة تحتشد أمام مبنى السجل المدني للحصول على قيد نفوس أو بيان عائلي للتحقق من مصير آلاف المغيبين، على أمل أن يكونوا على قيد الحياة، فيما ضمت قوائم منع السفر أسماء ملايين الأشخاص بذرائع أمنية تتعلق بالمشاركة في تظاهرة ضد السلطة البائدة أو إيصال مساعدات طبية وغذائية للمدن المحاصرة أو الانفكاك عن العمل الوظيفي من دون إذن رسمي، أو بتهمة الإرهاب، أو الاتجار بالدولار، لكن هذه التهم العشوائية كما يفيد أحد ضحاياها تقع في باب الإتاوة لضباط وعناصر الفروع الأمنية (تدفع بالدولار أو الليرة الذهبية). ما أن نعبر كتف الساحة نحو شارع الثورة حتى نرتطم بحشود أخرى أمام السجل العقاري "الطابو" لتصحيح وثائق الملكية التي جرى تزويرها في فوضى الحرب بغياب أصحابها الحقيقيين.

غرباء من دون بوصلة

اليوم، لا مرج أخضر للنزهات كما وصفه المؤرخون والرحالة، ولا مجرى لنهر بردى، ولا طمأنينة في العبور بين أزقة المدينة، هناك خشية حقيقية من أن تكون ضحية عملية احتيال أو نشل أو مشاجرة مفتعلة. يصل الغريب إلى دمشق، من دون بوصلة تهديه بدقة إلى فندق في الساحة، يجول في أطرافها تائها، فينتشله سائق تاكسي من حيرته بأن يعيده إلى المكان نفسه بعد دورة التفافية أو دورتين في محيط الساحة معلنا وصوله بالسلامة.

اليوم، لا مرج أخضر للنزهات كما وصفه المؤرخون والرحالة، ولا مجرى لنهر بردى، ولا طمأنينة في العبور بين أزقة المدينة

في المقاهي المحيطة بالساحة ستلتقي تجار عملة وسماسرة تأشيرات مزورة إلى الخليج أو أوروبا، ومرضى يتكومون أمام عيادات أطباء مشهورين، وبائعات هوى، ومتسولي متعة عابرة. جولة بسيطة في المكان ستقنعك بأن دمشق كلها مختزلة في هذا الدائرة: هنا عيادات أطباء، ومكاتب محاماة، ومعقبو معاملات رسمية ومترجمون محلفون ومحال للتحف الشرقية وباعة حلوى دمشقية، وسوق السمك، والخضروات والفاكهة، وسلال القش وسوق الطيور، وباعة العطور المركبة، والكحول المهربة، والأقراص المدمجة والكاسيتات، ومحال بيع الحقائب والأحذية بماركات عالمية زائفة.

تاريخ النصب التذكاري

من مقهى "علي باشا" المفتوح ليلا ونهارا، سيطالعك النصب التذكاري وسط الساحة تماما. النصب الذي دشنه الوالي العثماني حسين ناظم باشا عام 1907، تخليدا لبدء العمل في الاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنورة، وصممه المعماري الإيطالي ريموندو دارونكو، ويتكون من قاعدة بازلتية وعمود من البرونز ينتهي بمجسم مصغر لجامع يلدز في إسطنبول. تحت هذا النصب بنيت أعواد المشانق لإعدام الوطنيين الأحرار في 6 مايو/ أيار 1916، على يد جمال باشا السفاح، فسميت "ساحة الشهداء"، كما كان الفرنسيون يعدمون الفلاحين المتمردين، ويلقون جثثهم وسط الساحة لإثارة رعب الأهالي. ومن هذه الساحة انطلقت أول رحلة للترامواي بين أحياء دمشق عام 1907، كأول وسيلة نقل حديثة، قبل أن تلغى في أوائل ستينات القرن المنصرم. قبل استعمال الترام كوسيلة نقل عمومية، كان أهالي دمشق يتنقلون بواسطة عربات تجرها الخيول، أو باستئجار الحمير، ثم انتشرت الدراجة الهوائية، أما أول سيارة شهدتها المدينة فقد اقتناها مفتش الجيش العثماني عام 1913، ثم انتشرت مكاتب النقليات في الساحة لنقل الركاب بين دمشق والصحراء، أو إلى بيروت وعمان وحيفا. جاء في إعلان منشور في صحيفة دمشقية من تلك الفترة، "شركة سيارات العون بالله... سيارات ضخمة من آخر طراز بأسرع وأكبر صالونات سفرية في العالم تشتغل بين حيفا - بيروت - دمشق - بغداد".
يخترق ساحة المرجة نهر بردى الذي كان يفيض على جانبيه لغزارة مياهه، لكنه جف اليوم، ولم يبق من ذكراه سوى قصيدة أحمد شوقي الشهيرة "سلام من صبا بردى أرق/ ودمع لا يكفكف يا دمشق"، وأهزوجة "زينوا المرجة" في تمجيد الشهداء.
في نهاية القرن التاسع عشر، أقيم مبنى مقهى ومسرح زهرة دمشق عند زاوية الساحة من جهة الشمال. كان صاحب هذا المسرح رجلا يدعى حبيب الشماس، وفي عام 1912 شهد هذا المسرح أول عرض سينمائي صامت، ثم تحول المكان إلى صالة "سينما زهرة دمشق"، وفيها عرض فيلم "الوردة البيضاء" لمحمد عبد الوهاب، وكان حدثا استثنائيا في حياة المدينة. تعرضت الصالة إلى حريق في أواخر العشرينات فهدم البناء، وأقيم مكانه فندق.

Wikipedia

فندق عمر الخيام للانشراح


بانتهاء عهد الخانات، شيد أول فندق في المدينة، يطل على ساحة المرجة قرب ضفة نهر بردى في حي جوزة الحدباء. إنه "فندق ديمتري" نسبة إلى صاحبه اليوناني ديمتري كاراه، ويعتقد أنه بني عام 1850، وهو نزل يتألف من دارين متصلتين، مفروش على الطراز الشرقي، تتوسطه بحرة وأشجار ليمون. ثمن المنامة في الليلة الواحدة خمسون قرشا. أما الفندق الأشهر في تلك الفترة فكان "دامسكوس بالاس أوتيل"، وقد أقام فيه جمال باشا السفاح، قائد الجيش العثماني. في الإعلان الدعائي للفندق، نقرأ: "دامسكوس بالاس أوتيل... فندق العيال الاريستقراطية والشخصيات المحترمة - أقدم وأحدث نزلات العاصمة الشامية - مفروش على الطراز الحديث والأثاث الفاخر".

Shutterstock
ساحة المرجة في دمشق، سوريا، مايو 2023

في نهاية الساحة في اتجاه جسر فكتوريا، سنصادف "فندق عمر الخيام"، وقد صمم طراز هذا الفندق المهندس اللبناني فريد طراد عام 1927، وكان اسمه "فندق أمية"، وهو حسب إعلان آخر، "أفخم فندق عصري في البقعة الزاهرة، على ضفاف نهر بردى الخالد: مناظر جميلة. مصعد كهربائي. وسائل الراحة والرفاهية والانشراح مؤمنة بأسعار معتدلة".

لم يبق من ساحة المرجة سوى بضعة أبنية أثرية مثل بناء السرايا، وبناء أحمد علي العابد، وقد أزيلت معظم الأسواق القديمة المحيطة بالساحة

لم يبق من ساحة المرجة اليوم سوى بضعة أبنية أثرية مثل بناء السرايا، وبناء أحمد علي العابد، وقد أزيلت معظم الأسواق القديمة المحيطة بالساحة مثل سوق التبن، وسوق العتيق، وسوق الخيل، واستبدلت بكتل إسمنتية وأبراج تجارية لا تمثل روح المكان عمرانيا وتاريخيا، كما أغلقت معظم دور السينما التي كانت تغص بها الساحة: "سينما الإصلاح خانة"، "سينما الكوزموغراف"، "سينما غازي"، "سينما سنترال"، "سينما فاروق"، و"سينما النصر". أما ساعة المرجة فقد تعطلت منذ زمن طويل، ولم تعد تشير إلى الوقت الصحيح.

طيف فرناندو دي أراندا

 كأن الزمن قد غادر هذه الساحة إلى أمكنة أخرى أكثر جاذبية وحداثة، تبعا لخطوات فرناندو دي أراندا، المعمار الإسباني الذي ترك توقيعه على أبرز عمائر دمشق الحديثة، من محطة الحجاز، إلى مبنى عين الفيجة، وجامعة دمشق القديمة، مرورا بمبنى السرايا الحكومية، إلى بناية أحمد باشا العابد ، البناية التي تحتل جزءا من الساحة مصممة على الطراز الأوروبي، كأول فندق حديث، قبل أن تتحول إلى ثكنة عسكرية للجيوش العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى، ثم صارت مقرا للبرلمان السوري الأول في العام 1919، ومن شرفتها لوح الأمير فيصل الأول لحشود مستقبليه، ثم مقرا للجنرال الفرنسي هنري غورو في العام 1920، ثم مجمعا لمكاتب محاماة، وعيادات طبية، ومراكز تجارية.

AFP / Joseph Eid
سوري يطعم الحمام في ساحة المرجة وسط دمشق، 24 أغسطس 2011

لا تشبه دمشق اليوم صورتها القديمة المشرقة، فعدا النكبات المتلاحقة التي أصابتها، قرنا إثر قرن، على أيدي الغزاة، وضع عسكريو الانقلابات المتلاحقة بصماتهم الثقيلة على عمارتها، في إنشاء بيوت ضيقة ومتلاصقة تشبه الثكن العسكرية، وكأن هذه المدينة لم تشهد ولادة أبو لودور الدمشقي، أعظم معمار في العالم القديم، شاعر العمارة الشرقية الذي غادر دمشق في نهاية القرن الأول الميلادي إلى روما، حاملا روح العمارة المحلية إلى عاصمة الإمبراطورية، والتي لا تزال حتى اليوم تشهد لعبقريته المعمارية الفذة.

مشهديات متنافرة

الطواف في الساحة يحيل على مشهديات متنافرة تنطوي على حيرة في تأريخ تحولات الوجدان الشعبي، فمنها كان ينطلق محمل الحج الشامي إلى الديار المقدسة، وتحت نصب الساحة شنق الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين عام 1965، وفي بناية الجابري في شارع السنجقدار، أصدر عبد الغني العطري مجلة "الدنيا"، وهي أسبوعية مصورة، وفي شارع النصر سنستعيد صوت المذيع يحيى الشهابي أول من قال عبارة "هنا دمشق"، معلنا بدء البث في الإذاعة السورية عام 1947، وإلى يمين الساحة ستواجهنا قلعة دمشق كنموذج للقلاع العسكرية في القرون الوسطى (من سور هذه القلعة تدلى ابن خلدون بسلة لمقابلة تيمورلنك في خيمته التي نصبها بالقرب من قبة جامع يلبغا في ساحة المرجة، وفاوضه بعدم غزو المدينة، لكن القائد المغولي لم يف بوعده واستباح المدينة).

إعدام إيلي كوهين علنا في ساحة المرجة في 18 مايو 1965

بعد سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، احتشدت الساحة بالتظاهرات والدبكات وضيافة القهوة المرة احتفالا بالنصر، إذ تدفق أهالي الجزيرة والفرات وأقاليم أخرى -المحرومين من زيارة دمشق خشية الاعتقال عند الحواجز الأمنية- إلى الساحة بوصفها أكثر الأماكن تعبيرا عن مزاجهم الريفي، فيما تحولت قاعدة النصب التذكاري إلى أرشيف فوتوغرافي لصور المفقودين والمغيبين قسريا في السجون طوال سنوات الحرب.

AFP
محتجون خلال تجمع دعا إليه ناشطون سوريون وممثلون عن المجتمع المدني

يجلس شيخ في زي بدوي قرب النصب التذكاري بعد أن ألصق صورة ابنه المفقود منذ سنوات، على أمل أن يتعرف اليه أحد ما، مكتفيا بلف السجائر وتجرع حسرات الغياب، فيما انهمك ناشطون وناشطات بوقفة احتجاجية رفعوا خلالها صور مفقودين أمام ساحة الحجاز المجاورة. بانتهاء مفعول الأمل، نشر بعض أهل الضحايا أوراق نعي على مواقع التواصل الاجتماعي إيذانا بطي أكثر الصفحات هولا في تاريخ البلاد.  

يجلس شيخ في زي بدوي قرب النصب التذكاري بعد أن ألصق صورة ابنه المفقود منذ سنوات، على أمل أن يتعرف اليه أحد ما، مكتفيا بلف السجائر وتجرع حسرات الغياب

صورة شعاعية أخرى للساحة، ستكشف عن ندوب جديدة في الجسد المريض، يحيل بعمق على زخم ثقافة القاع بكل تموجاتها البصرية، كما لن يغيب عنا ذلك المشهد السوريالي لعشرات النزلاء فوق سطح فندق شعبي توفيرا لأجرة السرير في إحدى غرف الفندق. من ذلك السطح، في إمكاننا التقاط صورة بانورامية للساحة بكل ضجيجها، صورة تختزل عنف المدينة وشفافيتها بتوقيت واحد، وكفضاء استعمالي في المقام الأول.     

font change

مقالات ذات صلة