"أرض الصومال".. من الهامش إلى قلب صراع النفوذ الدولي

انقلاب على أبواب القرن الأفريقي والبحر الأحمر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مدينة هرجيسا، عاصمة وأكبر مدن أرض الصومال المعلنة من جانب واحد، في 7 نوفمبر 2024

"أرض الصومال".. من الهامش إلى قلب صراع النفوذ الدولي

تحول في الجغرافيا السياسية شهدته منطقة "القرن الأفريقي"، يعيد هندسة التحالفات الأمنية والسياسية في حوض البحر الأحمر. ففي خطوة غير مسبوقة كسرت حاجزاً دبلوماسياً استمر لأكثر من ثلاثة عقود، أعلنت إسرائيل اعترافها رسمياً بإقليم أرض الصومال (Somaliland) كدولة مستقلة وذات سيادة، عاصمتها "هرغيسا"، لتصبح بذلك أول دولة عضوا في الأمم المتحدة تتخذ هذا القرار.

وجاء الإعلان عبر "إعلان القدس" المشترك الذي وقعه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعن إقليم أرض الصومال عبد الرحمن محمد عبد الله (عيرو)، مؤسساً لعلاقات دبلوماسية كاملة وتبادل للسفراء، في خطوة وصفت بأنها تأتي "بروح اتفاقيات إبراهيم".

لكن هذا التحول لم يكن ليحصل لولا التغيرات الداخلية في إقليم "أرض الصومال" في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حيث أُجريت انتخابات أدت إلى تغيير في هرم السلطة، ومهدت الطريق لسياسات خارجية مختلفة عما كان سائداً. فقد أفرزت الانتخابات الرئاسية فوز مرشح المعارضة عبد الرحمن محمد عبد الله، المعروف بلقب "عيرو"، زعيم حزب "وطني"، الذي يمتلك خلفية دبلوماسية، إذ عمل سابقاً في السلك الدبلوماسي الصومالي قبل الانهيار.

وتبنّى "عيرو" مقاربة تهدف إلى كسر العزلة الدولية المفروضة على الإقليم بأي ثمن، بعد ثلاثة عقود من عدم الاعتراف الدولي به، وشكلت هذه المقاربة أرضية خصبة لمفاوضات سرية مع إسرائيل.

القناة السرية... زيارة أكتوبر 2025

لم يكن إعلان ديسمبر/كانون الأول خطوة مستعجلة بالنسبة للإقليم، بل سبقه حراك استخباراتي ودبلوماسي مكثف، وكشفت تقارير إسرائيلية أن الرئيس "عيرو" قام بزيارة سرية إلى إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2025، قبل شهرين من الإعلان الرسمي، حيث التقى بمسؤولين في جهاز الموساد ووزارة الخارجية.

هذه الزيارة، التي رُتبت بعناية بعيداً عن الأضواء، وضعت الأسس الأمنية والسياسية للاعتراف، وركزت على تبادل المصالح الأمنية عبر معادلة "الاعتراف مقابل الموقع الاستراتيجي". وقد وجّه نتنياهو في خطابه الرسمي شكراً خاصاً لرئيس الموساد ديفيد برنياع، ما يؤكد أن الملف أُدير عبر القنوات الأمنية كملف "أمن قومي" إسرائيلي بالدرجة الأولى.

يمثل الاعتراف بأرض الصومال إحياءً وتحديثاً لـ"عقيدة الأطراف" الإسرائيلية، التي تقوم على الوصول إلى مواقع في المحيط الإقليمي بهدف تأمين ممرات رئيسة ومنها الطوق الجنوبي عبر البحر الأحمر. وبالنسبة لنتنياهو، فالاتفاق يمثل تقدماً دبلوماسياً في المنطقة، يحمله معه إلى واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

كشفت تقارير إسرائيلية أن الرئيس "عيرو" قام بزيارة سرية إلى إسرائيل في أكتوبر 2025، قبل شهرين من الإعلان الرسمي

والأهم أن أرض الصومال توفر لإسرائيل مزايا جغرافية عدة، إذ تسيطر على شريط ساحلي يمتد لنحو 850 كيلومتراً على خليج عدن، وتتحكم فعلياً بالمداخل المؤدية إلى مضيق باب المندب. ويرى معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) أن التحالف مع الإقليم يمنح إسرائيل منصة لثلاث مهام رئيسة: أولها، الإنذار المبكر عبر نشر رادارات وأجهزة تنصت لرصد إطلاق الصواريخ والمسيّرات من اليمن باتجاه إيلات. وثانيها، استخدام الأراضي أو المياه الإقليمية كنقطة انطلاق لعمليات خاصة ضد أهداف معادية، وخصوصاً ضد الحوثيين. وثالثها، منع تحول البحر الأحمر إلى "بحيرة إيرانية" عبر قطع خطوط الإمداد التي قد تصل إلى الحوثيين بحراً.

القاعدة العسكرية... بربرة أم زيلاع؟

يبدو أن "الاعتراف الدبلوماسي" الإسرائيلي هو الغطاء السياسي لصفقة أمنية أعمق، تتضمن إنشاء قاعدة عسكرية إسرائيلية يمكن اعتبارها الأكبر خارج إسرائيل، وتدور المفاضلة بين موقعين رئيسين في أرض الصومال، لكل منهما ميزاته وتحدياته.

رويترز
رئيس أرض الصومال عبد الرحمن محمد عبد الله خلال حفل افتتاح مقر بعثة أرض الصومال في نيروبي، كينيا، في 29 مايو 2025

الأول هو ميناء بربرة، ويُعد الخيار الأكثر منطقية من الناحية اللوجستية، إذ استُثمرت مئات ملايين الدولارات في تطويره وتوسعته ليصل إلى طاقة استيعابية تبلغ 500 ألف حاوية، مع خطط للوصول إلى مليوني حاوية. كما يضم بنية تحتية عسكرية، ومدرج طائرات عسكرياً ضخماً، ومنشآت دعم وبنى تحتية متقدمة، وينطلق منه طريق رئيس حديث يصل إلى إثيوبيا.

أما الموقع الثاني فهو مدينة زيلاع التاريخية، القريبة من الحدود مع جيبوتي، وهي أقرب نقطة في أرض الصومال إلى مضيق باب المندب. تاريخياً، كانت زيلاع عاصمة لـ"سلطنة عدل" ومركزاً تجارياً مهماً. ويوفر الوجود الإسرائيلي فيها قدرات رصد إلكتروني فائقة الفاعلية، نظراً لقربها من مسرح العمليات اليمني والإريتري، وبعيداً عن الازدحام التجاري في بربرة.

لم يقتصر الاتفاق على الجانب الأمني، بل تضمن حوافز اقتصادية ضرورية لبقاء حكومة أرض الصومال، التي تعاني من ضائقة مالية

لم يقتصر الاتفاق على الجانب الأمني، بل تضمن حوافز اقتصادية ضرورية لبقاء حكومة أرض الصومال، التي تعاني من الضائقة المالية. فقد صرح نتنياهو بأن التعاون سيشمل "مجالات الزراعة، والصحة، والتكنولوجيا، والاقتصاد".

وتمثل الزراعة التحدي الأكبر لأرض الصومال ذات المناخ شبه الصحراوي، حيث بدأت الشركات الإسرائيلية الرائدة في تكنولوجيا الزراعة الصحراوية، وعلى رأسها شركة "نطافيم" (Netafim) باستشراف فرص تطبيق تقنيات الري بالتنقيط وتحلية المياه الجوفية، ويهدف هذا التعاون إلى خلق نموذج تنموي مشابه لما قامت به إسرائيل في مناطق قاحلة أخرى، ما يمنح حكومة أرض الصومال شرعية "الإنجاز" أمام شعبها، ويعزز الأمن الغذائي في مواجهة الجفاف المتكرر.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واشنطن في 29 سبتمبر 2025

كما تسعى إسرائيل إلى ربط اقتصادها بالأسواق الأفريقية عبر "ممر بربرة"، الذي يربط الميناء بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا. ويمنح تطوير هذا الممر طريقاً تجارياً برياً يتجاوز الاعتماد الكلي على جيبوتي، ويوفر لشركات التكنولوجيا الإسرائيلية نفاذاً مباشراً إلى السوق الإثيوبية الضخمة، إضافة إلى العبور نحو دول أفريقيا جنوب الصحراء عبر كينيا وأوغندا.

ردود الفعل الإقليمية والدولية... الرفض

اعتبرت الحكومة الصومالية في مقديشو الخطوة "اعتداء متعمداً على السيادة الصومالية" وانتهاكاً للقانون الدولي، ولم يقتصر الرد الصومالي على البيانات، بل بدأ حراكاً لتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر، الموقعة في أغسطس/آب 2024. وترى حكومة الصومال أن هذا الاعتراف يهدد بتمزيق ما تبقى من وحدة البلاد، ويشجع النزعات الانفصالية في ولايات أخرى، مثل "إقليم بونتلاند" أو "أرض البنط"، الذي يتمتع بالحكم الذاتي أيضاً.

كما نظمت الخارجية المصرية اتصالات مع نظيراتها في تركيا وجيبوتي والصومال لتشكيل جبهة موحدة، وتبدو المخاوف المصرية متعددة، إذ يظهر ما حصل كأنه تطويق من الجهة الجنوبية عبر تحالف إسرائيل وإثيوبيا مع أرض الصومال، ما يشكل تهديداً لأمن قناة السويس من خلال عسكرة باب المندب، والمخاطر التي قد يفرضها الصراع الإيراني الإسرائيلي هناك. كما أن الوجود الإسرائيلي على حدود إثيوبيا قد يعزز موقف أديس أبابا في مفاوضات سد النهضة، خصوصاً إذا ارتبط المنفذ البحري في بربرة بضمانات أمنية إسرائيلية للسد.

يبدو أن "الاعتراف الدبلوماسي" الإسرائيلي هو الغطاء السياسي لصفقة أمنية أعمق، تتضمن إنشاء قاعدة عسكرية إسرائيلية يمكن اعتبارها الأكبر خارج إسرائيل

وأصدر الاتحاد الأفريقي بياناً يرفض الاعتراف، مستنداً إلى "قرار القاهرة لعام 1964"، الذي ينص على احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار كركيزة للاستقرار في القارة. ويخشى الاتحاد من "تأثير الدومينو"، إذ قد يؤدي نجاح انفصال أرض الصومال إلى إشعال عشرات الحركات الانفصالية في نيجيريا والكاميرون، وحتى في إثيوبيا نفسها، التي تعاني أقاليمها من حروب مستمرة.

كما اتخذت السعودية موقفاً مبدئياً رافضاً، مؤكدة دعمها لوحدة الصومال ورفضها الإجراءات الأحادية. وينبع الموقف السعودي من رغبة في الحفاظ على النظام الإقليمي العربي ومنع تفتيت الدول المطلة على البحر الأحمر، الذي تعتبره المملكة عمقاً استراتيجياً وأمنياً لها.

أما موقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب فجاء ملتبساً، إذ قال في تصريحات لصحيفة "نيويورك بوست"، ساخراً: "هل يعرف أحد ما هي أرض الصومال حقاً؟"، مضيفاً أنه لن يعترف بها فوراً، لكنه أشار إلى أن عرض "أرض الصومال" استضافة قاعدة أميركية هو "أمر كبير"، وأن كل شيء "قيد الدراسة". وفي العادة، تخشى الخارجية الأميركية من تداعيات الاعتراف على استقرار الصومال والحرب ضد حركة الشباب المتطرفة، واحتمال دفع مقديشو نحو المعسكر الصيني أو التركي بالكامل.

اعتراف إسرائيل بجمهورية أرض الصومال هو حدث يتجاوز العلاقات الثنائية، ويمس صلب التوازنات الأمنية في الشرق الأوسط وأفريقيا. فمن خلال هذا الاختراق، نجحت إسرائيل في قضم جزء من "الجدار العربي" المحيط بالبحر الأحمر، وحصلت على منصة متقدمة لمواجهة إيران ووكلائها. أما بالنسبة لأرض الصومال، فإن الاعتراف يمثل طوق نجاة سياسي واقتصادي طال انتظاره.

ومع ذلك، تبقى المخاطر عديدة. فهذا التحالف الجديد قد يدفع منطقة القرن الأفريقي نحو استقطاب حاد وعسكرة غير مسبوقة، حيث تتشكل ملامح محورين: محور إسرائيل وأرض الصومال وإثيوبيا، ومحور مصر والصومال وتركيا وجيبوتي الرافض للتغيير.

لا يقتصر الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال على خطوة دبلوماسية رمزية، بل يعكس إعادة تموضع عند بوابة البحر الأحمر. وبين مرفأ بربرة وطريق إثيوبيا وقاعدة عسكرية محتملة على باب المندب، يتقدّم ملف "أرض الصومال" من الهامش إلى قلب صراع النفوذ الدولي، في اختبار مفتوح لموازين القوى الإقليمية، ولقدرة النظام الدولي على احتواء تداعياته.

font change