إيران ومحاربة الوعي: سجن المبدعين نموذجاً

تاريخ حافل بسياسات القمع والاعتقال ونشر الجهل

تاريخ طهران يطول في قمع الحريات والمبدعين وزجهم في السجون

إيران ومحاربة الوعي: سجن المبدعين نموذجاً

باكو: الابداع طريق الوعي، والسينما واحدة من أبرز صور الإبداع الإنساني وأكثرها تعبيرًا عن المنجز الفكري في المجال الثقافي، إذ تمثل الصورة المرئية أقصر الطرق وأكثرها تأثيرا في  توضيح الواقع الراهن، وشرح تحدياته وتشريح حقائقه وتحليل أبعاده، الأمر الذي من شأنه أن يُسهم في نشر الوعي على نطاق واسع جغرافيًا، وبين بشر كثر عددا، وفى إطار واسع زمنيًا، شريطة أن يتوافر لها الحرية المطلوبة فكرا وممارسة، وهو ما ترفضه طهران، إذ تعتبر أن السينما هي السلاح الأكثر خطورة في مواجهة مساعيها لإتمام مشروعها الهادف إلى الهيمنة على المنطقة ومقدراتها، ذلك المشروع الذي يعتمد في نجاحه على نشر الجهل وتغييب الرؤية ومحاربة النقد والتحليل لكل ما تنتهجه من سياسات وما تتبعه من إجراءات.

النظرة المزدوجة إلى السينما
وتنظر طهران إلى السينما من زاويتين: الأولى: السينما أداة للتوظيف السياسي، حيث تستخدمها كأداة من أدوات نشر أفكارها ورؤاها، ليس فقط على مستوى الداخل الإيراني، وإنما في محاولات مستمرة للهيمنة على عقول الأتباع والمؤيدين، فنجد عديد الأفلام السينمائية الإيرانية التي تمجد شخصيات تنشر التشدد والتطرف وتحض على الإرهاب والقتل، في محاولة لخلق عدو وهمي للدولة الإيرانية تشحذ من خلاله أذهان هؤلاء الأتباع وتجعل منهم دمى تحركهم كيفما وحينما تشاء. الثانية، السينما أداة لهدم مشروعها للهيمنة والتمدد، ولذا تناصبها العداء إذا ما كشفت الأفلام السينمائية الإيرانية حقائق الواقع بأزماته ومشكلاته، إذ تخشى طهران أن تتمكن مثل هذه النوعية من الأفلام من لعب دورها التوعوي في تنبيه العقول وتصحيح المفاهيم وكشف المغالطات، وهو ما يجعلها في صدام دائم ومستمر ضد أصحاب الإبداع السينمائي الذين يحاولون أن يقدموا في أعمالهم الفنية صورة معبرة عن واقع مؤلم يعيشه الشعب الإيراني تحت نظام حكم هؤلاء الملالي.

التعذيب النفسي أحد أكثر أساليب التعذيب تأثيراً على المعتقلين السياسيين لأن آثاره تبقى لفترة طويلة وربما للأبد (غيتي)

سجن المبدعين... ديدن حكم الملالي
تعتمد طهران في معركتها ضد السينما ودورها على سجن واعتقال المبدعين على غرار ما جرى مؤخرا حينما اعتقلت طهران كلا من المخرجين الإيرانيين محمد رسولوف ومصطفى الأحمد في 8 يوليو (تموز) الماضي، وسجنهما في مكان مجهول بعد احتجاجهما على العنف ضد المدنيين في إيران، لتستكمل خطواتها بعد ثلاثة أيام باعتقال المخرج جعفر بناهي.


ويمثل هؤلاء المبدعون الثلاثة رموزا سينمائية وفنية ليست إيرانية وإنما دولية، إذ سبق أن فازت أعمالهم بجوائز عالمية، فقد فاز محمد رسولوف عن فيلمه «رجل شريف» في المسابقة الثانية بمهرجان كان، وهي مسابقة «نظرة ما»، بالجائزة الأولى كأفضل فيلم وذلك عام 2017، وقامت السلطات الإيرانية آنذاك على أثر هذا الفوز بمنعه من السفر وفرضت عليه الإقامة الجبرية ومنعته من الحركة والعمل منذ ذلك الوقت، بل وحكمت عليه بالسجن سنة مع النفاذ، وذلك على غرار ما سبق وأن واجهه من الحكم بالسجن عام 2009 لخمس سنوات مع منعه من إنتاج أفلامه لمدة 20 عاما، وتم تخفيف الحكم الصادر في وقت لاحق.

السينمائي الايراني محمد روسولوف


كما فازت أفلام المخرج جعفر بناهي، بعديد الجوائز الدولية، ومن أهمها فيلم «تاكسي» الذي فاز بالدب الذهبي في مهرجان برلين، كما فاز فيلمه «ثلاثة وجوه» بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان عام 2018، وكانت قد منعته السلطات الإيرانية من حضور هذا المهرجان. ويذكر أن البرلمان الأوروبي كان قد منحه والناشطة الحقوقية نسرين ستوده جائزة ساخاروف لحرية الفكر غيابيًا في 12 ديسمبر (كانون الأول) 2012، وأشار رئيس البرلمان الأوروبي حينذاك مارتن شولتس، إلى أن الجائزة «تمثل اعترافاً بـالجهود غير العادية التي قامت بها السيدة ستوده والسيد بناهي في الحرب من أجل كرامة الإنسان والحقوق الأساسية ومن أجل التغيير السياسي في إيران»، حيث كان قد حُكم عليه بالسجن ست سنوات ومنعه من العمل لمدة 20 عامًا، نظراً لأن القضاة الإيرانيين يعتبرون أفلامه وسيناريوهاته ومقابلاته تهديداً أمنياً وطنياً.

المخرج جعفر بناهي


ومن الجدير بالإشارة إلى أن موجة الاعتقالات بحق المبدعين الإيرانيين لم تمر دون إدانة دولية على غرار ما يحدث في كل مرة يُعتقل فيها مبدع إيراني، إذ سارعت كل من إدارة مهرجان كان ومهرجان برلين، بإصدار بيانين لكل منهما، نددا فيهما بإلقاء القبض مجددا على هؤلاء السينمائيين، كما أدان مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل التابع للخارجية الأميركية استمرار إيران في محاولات تقييد حرية التعبير، وجاء في تغريدة على «تويتر» بأن «الاعتقالات الأخيرة في إيران التي شملت سياسيين ومخرجين ونساء شجاعات تظاهرن ضد قوانين الحجاب الإجباري؛ تعتبر قمعا مخزيا لمعارضين سلميين».


ومن نافل القول إن ما جرى لم يكن المرة الأولى التي يتعرض فيها هؤلاء إلى الاعتقال والسجن، بل كان هؤلاء من أبرز الأسماء السينمائية التي تعرضت لمثل هذه الممارسات غير القانونية التي تمثل هدرا للطاقات الإبداعية وحجبا للأفكار التصحيحية ومنعا للرؤى التنويرية التي يجب أن تسود في المجتمع الإيراني الذي يشهد حراكا حقيقيا بين شبابه الرافضين لحكم تجاوزه الزمان ولم يعد قادرا على قراءة أفكارهم والتعبير عن طموحاتهم، فكثرت المظاهرات وتنوعت الاضطرابات وتعددت الاحتجاجات في مختلف انحاء الجمهورية الإيرانية مؤذنةً برفض الاستمرار على هذا النحو من السياسات التقييدية والإخفاقات الاقتصادية والأزمات المعيشية.

سياسة القمع... فاض الكيل من الجميع
من المضحكات المبكيات أن يأتي انتقاد سجل إيران في مجال حرية التعبير من أحد القادة الإيرانيين الذين يمثلون التيار المتشدد، إذ نشر موقع «دلتا» الإخباري، المقرب من الرئيس الإيراني الأسبق أحمد نجاد مضمون الرسالة التي رفعها إلى المرشد الأعلى علي خامنئي في عام 2018، على أثر ما جاء في خطاب المرشد بمناسبة عيد النيروز فى 21 مارس (آذار) 2018، حيث تضمنت الرسالة أن حرية التعبير الذي تحدث عنها المرشد الأعلى «وإن كانت مضمونة أيضا من قبل الدستور، لكن القضاء لا يلتزم بوجهة نظركم في هذا الخصوص»، وذلك في انتقاد واضح لممارسات القضاء وانتهاكاته لأحكام الدستور، إذ إنها ليست المرة الأولى التي ينتقد فيها القضاء. مع الأخذ في الاعتبار أن المرشد الأعلى هو من يتولى اختيار رئيس القضاء وفق صلاحياته الدستورية، ولهذا اعتبر الكثير من المتابعين أن انتقادات أحمدي نجاد لرئيس القضاء المتكررة ليست إلا انتقادات لسياسات المرشد الأعلى.

فيلم «لا يوجد شر» للمخرج الإيراني محمد رسولوف فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي


ورغم صحة هذا الانتقاد بل وأهميته لأنه جاء من رجل داخل أروقة النظام الإيراني، إلا أنه لم يعبر عن حقيقة الواقع كما هي، بقدر ما حاول أن ينطبق عليه المثل القائل من باب ذر الرماد في العيون، ذلك أن من ينظر إلى فترة حكم الرئيس الأسبق أحمدي نجاد يجدها لم تكن أحسن حالا سواء من فترات حكم من سبقه أو من جاء بعده، وهو ما يؤكد على أن سياسة القمع والاعتقال والسجن من مفردات السياسة الإيرانية في تعاملها مع قضية حرية الرأي والتعبير في مفهومها الواسع بصفة عامة، وفي مفهومها المتعلق بحرية الإبداع السينمائي على وجه الخصوص.


خلاصة القول إنه إذا كان صحيحا أن ما أقدمت عليه طهران من اعتقال مبدعيها وفنانيها وأصحاب الفكر يثير التساؤل حول كيف يمكن لدولة تسعى إلى أن تكون لها مكانة مرموقة في العالم أن تقوم بوأد هؤلاء المبدعين والفنانين؟ فإنه من الصحيح أيضا أن التحليل الدقيق لرؤية طهران إنما يجب أن لا تثير لدينا هذا الاستغراب والدهشة في ضوء نظرة الدولة الإيرانية ومواقفها حيال مختلف دول العالم، إذ ترى طهران شأنها شأن كافة الدول القمعية أن العالم كله يناصبها العداء ويتآمر عليها ويحاول إسقاطها، وهو ما يدفعها إلى تسخير كل طاقاتها وإمكاناتها وقدراتها في سبيل امتلاك السلاح النووي الذي تظن أنه يحمي أمنها ويصون استقرارها في الوقت الذي يعاني فيه شعبها من الجوع والجهل والفقر والعوز ونقض الخدمات الأساسية والحياتية.


في حين أن التاريخ بسجلاته يؤكد على أن هدم الدولة وتفككها وضياعها وإسقاط أنظمتها يظل رهنا بمدى قدرتها على خدمة مواطنيها الذين يمثلون اللحمة الرئيسية في مواجهة أية تدخلات خارجية أو اعتداءات عدوانية، دون أن يعني ذلك قصورا في توفير متطلبات قدرتها العسكرية والأمنية والاقتصادية، تلك هي معادلة بناء الدولة القادرة على الاستمرار والصمود في مواجهة التحديات والتهديدات، فالداخل المتماسك هو الركيزة الرئيسية في بناء الدولة القوية القادرة على تحقيق أمنها القومي ببعديه الداخلي والخارجي، ولن يتحقق ذلك إذا ما دخلت الدولة في معركة مع مبدعيها وفنانيها، فهم خط الدفاع الأول في مواجهة الأجيال المتطورة من الحروب التي تعتمد على المزج بين أدوات القوة الخشنة ووسائل القوة الناعمة وعلى رأس تلك الأخيرة السينما، فهل تدرك طهران ذلك قبل فوات الأوان؟

font change