خصوصية الضحايا في زمن "التواصل الاجتماعي"

AP
AP
عمال انقاذ يحاولون البحث عن ناجين في مبنى مدمر في مدينة غازي عنتاب، التي تضررت من الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا.

خصوصية الضحايا في زمن "التواصل الاجتماعي"

في أعقاب كارثة الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا، وأمام المشاهد المؤلمة التي تصوّر حجم الفاجعة ومداها، ارتفعت أصوات كثيرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، مطالبة بتجاوز الخلافات والعداوات السياسية، وتوحيد الجهود لإنقاذ من لا يزالون عالقين تحت الأنقاض ومساعدة آلاف الجرحى والمشردين، خصوصاً في الجانب السوري، حيث يكاد يكون حضور الدولة السورية منعدما، وحيث تلقت الفئات الأشدّ فقرا الضربة الأقسى، ومنهم اللاجئون الذين كانوا في الأصل يعانون أوضاعا مأسوية، ما كان الزلزال إلا ليبدو استكمالا لها، كأنّ ما لم تدمره، ومن لم تقتله، براميل النظام المتفجّرة والآلة العسكرية برمتها التي حكمت وتحكم تلك المناطق، جاء الزلزال، ليكمل قتله وتدميره.

هذه الدعوات هي وليدة الصدمة الأولى، والتعاطف الإنساني الفطري، ورد الفعل الطبيعي أمام عشرات مقاطع الفيديو الموجعة والأخبار الواردة من المناطق المنكوبة، بصرف النظر عن التباين في خلفيات مطلقيها ومواقفهم، بل بصرف النظر أيضا عن بعض مساعي التوظيف السياسي للكارثة التي تكتنف بعضها. لكنها تظلّ دعوات حالمة، رومانسية، وقاصرة عن الاعتراف بالواقع، أو متوهّمة أن هذا الواقع قابل للتغيير بفعل هول المأساة وحده، في حين أن الحقيقة المرّة تفيد بأن مآسي الزلزال ليست فصلا فاصلا بالنسبة إلى الواقعين تحت أهوالها، والمصابين بمصيبتها، بقدر ما هي فصل جديد يضاف إلى فصول الفجيعة الماضية والآلام القائمة منذ سنوات.

EPA
فريق انقاذ يبحث عن ناجين في أحد المباني المدمّرة جراء الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا.

لعل العالم لم ينس بعد أزمة كوفيد 19 التي بدا، للحظة عابرة متوهّمة، أنها وحّدت العالم، وأيقظته على المصائر المشتركة وعلى ضرورة التضامن والتكافل الإنسانيين في وجه غضبة أخرى من غضبات "الطبيعة"، اتخذت تلك المرة شكل فيروس خارج عن السيطرة، ليغرق العالم سريعا في الحسابات السياسية وليستيقظ أولئك الذين وقفوا ينشدون ويعزفون الموسيقى على السطوح والشرفات من أجل الأمل والبقاء، على واقع مغاير تحكمه صراعات الحكومات ومصالح الشركات الكبرى وأطماعها.

قبل وقوع الزلزال الأخير المدمّر، كان الشعور العام، العالمي والعربي معا، قد استقرّ على أن ما شهدته سوريا خلال عقد من الزمن، أشبه بالكارثة الطبيعية. ففي نهاية المطاف لم يتغير الواقع إلى واقع أفضل، ولم يسقط الديكتاتور، ولا أصبحت سوريا ديموقراطية، ولم ينل الضحايا الحدّ الأدنى من العدالة. وأمام الأعداد الفلكية لأولئك الضحايا من قتلى ومشردين ومعتقلين، بدا أن ما يعانيه السوريون لا يعدو كونه إرادة إلهية، وتمّ التسليم الصامت أحيانا والمعلن في أحايين أخرى، بالحال التي استقرت عليها سوريا اليوم: بلد ممزق، مقسم بين نظام ومعارضات وإرادات ومصالح دولية معقدة ومتشابكة.

أمام الأعداد الفلكية لأولئك الضحايا من قتلى ومشردين ومعتقلين، بدا أن ما يعانيه السوريون لا يعدو كونه إرادة إلهية، وتمّ التسليم الصامت أحيانا والمعلن في أحايين أخرى، بالحال التي استقرت عليها سوريا اليوم: بلد ممزق، مقسم بين نظام ومعارضات وإرادات ومصالح دولية معقدة ومتشابكة

إن السؤال الجوهريّ  الذي لا يزال يلحّ على العالم، منذ أشدّ الفصول رعبا في المأساة السورية، التي تخللها استعمال السلاح الكيميائي ضدّ المدنيين، والذي يزداد إلحاحا بعد كلّ كارثة، بما فيها كارثة الزلزال الأخيرة، هو حول شكل التعاطف الإنساني ومعناه وجدواه. فما يحدث اليوم سبق وحدث في مناسبات ولحظات مفصلية سابقة، وسيحدث حكما في المآسي المقبلة، وردود فعلنا تجاهه تكاد تكون هي نفسها: اندفاع حماسي يترجم تداولا للتعليقات العاطفية والفيديوهات والصور التي تنقل وجهي المأساة والأمل، والتي لا تمكث معنا سوى أيام قليلة في أفضل الأحوال، وساعات معدودات في أسوأها.

لعل هذه خاصية من خواص "التواصل الاجتماعي" الذي بات يحكم علاقة البشر بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالعالم. للمرء اليوم أن يتساءل، ماذا تفعل كاميرا الهاتف المحمول، لحظة إخراج طفل يكاد يلفظ أنفاسه من تحت الأنقاض، وما الذي يعنيه بعد ذلك انتشار تلك اللقطة وتداولها عبر ملايين الهواتف المحمولة والمواقع الإخبارية؟ ما الحدّ الفاصل بين الخاص والعام؟ ومتى يحقّ لأحدهم أن ينشر على العلن، على سبيل المثل لا الحصر، مقطع فيديو لطفلة محاصرة مع شقيقها، وهي تعد المنقذ بأن تصبح "خادمته" إن أنقذها؟ الطفلة في هذه الحال، كما جميع الضحايا، عاجزة تماما، ليس فقط عن أن تكون جزءا من هذا "العرض" الذي فرض عليها، بل عن فهم ما جرى ويجري لها في تلك اللحظات.

كذلك الأمر بالنسبة إلى صورة الأب الذي يمسك يد ابنته الميتة تحت الأنقاض: ألا يفترض بهذه اللحظة الكثيفة والمرعبة أن تكون أكثر اللحظات حميمية وخصوصية لأب يودّع ابنته، أو لعله يتمسك بخيوط الأمل بأنها ربما لا تزال على قيد الحياة، وأنها تستمدّ القدرة على الصمود من يد والدها؟ لا نعرف، إلا في ما ندر القصة الكاملة، ولا نرى المشهد بجميع أبعاده، ولا ما قبله ولا بعده. اللقطة تتجمّد هنا، حيث يقرّر من يتداول اللقطة بعد ذلك، أن تتوقف، وحيث يقرر سرد ما يراه من القصة بوصفه تعليقا "مناسبا" على المأساة.

AFP
صورة ملتقطة من الأقمار الصناعية تظهر خيم الطوارئ في مدينة عثمانية جنوب تركيا، في محافظة هاتاي والتي تضررت بشدة من الزلزال.

المآسي العامة، في الكوارث الطبيعية كما في الحروب، تقضي على كلّ حيز شخصي أو فردي. يصبح الضحايا منكشفين أمام العالم، وفي حالة الزلزال يتخذ هذا الانكشاف معنى حرفيا، فالبيت الذي يفترض أن يكون ملاذ الخصوصيات، قد تهدّم والجدران التي كانت تبقي العالم على مسافة من أهل البيت، تداعت مع كل التاريخ الخاص الذي يفترض بها حمايته من أعين المتلصصين.

لا أحد يجادل بأن مثل هذا الاهتمام العام، مطلوب لحشد التعاطف وبالتالي بناء الزخم العاطفي والوعي الاجتماعي اللذين من شأنهما رفع مستوى التأهب والمساعدة من الحكومات والدول والجهات المعنية، إلا أن هذا الاهتمام نفسه، في زمن التواصل الاجتماعي كما قبله، سيظلّ يطرح أسئلة أخلاقية حول كيفية التعامل مع خصوصية الضحايا، لا سيما تداول صور القتلى أو الجرحى أو الناجين في أشدّ لحظات ضعفهم وذهولهم أمام ما تعرضوا له.

الانغلاق السياسي واليأس من السياسة، والأزمات الاقتصادية الفادحة، التي يغرق فيها العالم برمته، وخصوصاً المنطقة العربية، يدعو باستمرار إلى التخلي عن التفاعل الإيجابي مع العالم، والاكتفاء بمشاهدته من خلف الشاشات الصغيرة

 

بمعنى آخر: ما الخط الفاصل بين التعاطف والاستغلال العاطفي؟ أين يصبح الفيديو أو الصورة أو التسجيل الصوتي المتداول "مشاركة إيجابية" في المأساة، وأين يصبح انتهاكا يرقى إلى حدّ التلصص واختلاس النظر إلى خصوصيات الآخرين؟

مثل هذه الأسئلة يقودنا إلى السؤال الجوهري: هل أصبحنا، في زمن وسائط التواصل الاجتماعي، مجرّد مستهلكين لـ"القصص" و"المحتوى" المكون غالبا من الصور ومقاطع الفيديو، وبتنا نستعيض بالمآسي المصوّرة، عن الحياة الحقيقية، وعن التفاعل المؤثر مع تلك المآسي، إلى درجة أن صلتنا بأيّ حدث يقع من حولنا، حتى وإن كان في جوهره يهدّد وجودنا، هو ما نشاهده من مقاطع فيديو، أو حتى ما نختار ألا نشاهده منها، وفي النهاية فإن ما يسمى "التعاطف الإنساني" هو مجرد شكل من أشكال الترفيه وتزجية الوقت؟

ما زلت أميل إلى العكس، وإن كان الانغلاق السياسي واليأس من السياسة، والأزمات الاقتصادية الفادحة، التي يغرق فيها العالم برمته، وخصوصاً المنطقة العربية، يدعو باستمرار إلى التخلي عن التفاعل الإيجابي مع العالم، والاكتفاء بمشاهدته من خلف الشاشات الصغيرة، غير أنّ بعض الصرخات التي بدأت تخرج مدوية عبر مواقع التواصل الاجتماعي نفسها، بأننا مللنا وتعبنا من مشاهدة كل هذا الدمار والموت، وبأن حجم المأساة يستدعي الأفعال لا الأقوال، ربما تعطي أملا ولو صغيرا، بأن ما تسميه سوزان سونتاغ "الفرجة على آلام الآخرين" لا يمكن أن يكون الحال المستمر لهذا العالم، وأن الأجساد القابعة تحت الأنقاض ستجد ما هو أكثر من الإعجابات والمشاركات والتعليقات والقلوب الافتراضية المحطمة، معينا لها.

font change