الزلازل بين العلم والدين... عقاب إلهي أم من ألغاز الطبيعة؟

نقاش يتجدّد بعد كلّ كارثة طبيعية

 Nash Weerasekera
Nash Weerasekera
بحسب العلم، الزلزال ظاهرة طبيعية تتمثل في هزّة أرضية سريعة تنتج بسبب حزمة من الأسباب

الزلازل بين العلم والدين... عقاب إلهي أم من ألغاز الطبيعة؟

في الأمس القريب، عاد إلى الواجهة، بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وخلّف خسائر كارثية في الأرواح، السؤال عن السبب الحقيقي وراء الكوارث الطبيعية عموما، والزلازل على وجه الخصوص. فعلى الرغم من موقف العلم الواضح، انبرى بعض رجال الدين صراحة أو إشارة للقول إن الزلزال عقوبة إلهية. وهو الاستنتاج الذي يربك كثيرين، إذ ما الذنب الذي وقع فيه أولئك المنكوبون ولم يقع فيه سائر البشر، حتى يختصهم الله بهذا العقاب؟

ماذا يقول العلم؟

يقول العلم إن الزلزال ظاهرة طبيعية تتمثل في هزّة أرضية سريعة تنتج بسبب حزمة من الأسباب، منها تكسر الصخور وانزياحها عن مكانها الأول، ومنها تراكم الاجهاد داخل الصفائح الأرضية، ومنها نشاط البراكين، ومنها حدوث الانزلاق في طبقات الأرض. كل هذه الأسباب قد تجتمع لحدوث الزلزال، وقد يحدث بسبب بعضها لا كلها. الزلازل في إجماع العلماء المختصين عبارة عن حركات موجية تصيب قشرة الأرض، التي هي في حال تموج دائم بسبب اضطرابات باطن الأرض غير المستقر. هذه الحركة الموجية هي ما يؤدّي إلى التشقق واحتكاك الأجسام الصخرية التي تؤلف الغلاف الصخري، مما يولد هزات موجية تختلف في سرعتها وشدتها بحسب اختلاف طبيعة الطبقات الصخرية.

الجزء الأخلاقي المشين في هذه القضية، نراه عندما يشير شخص ما بأصابع الاتهام إلى أناس موتى، وإلى آخرين فقدوا للتو أهلهم وجيرانهم وبيوتهم، قادحا فيهم وفي إيمانهم

من جهة أخرى، يقول العلم حول العالم إن الزلازل تحدث طوال الوقت. هناك الزلازل الصغيرة التي تقع مئات المرات في اليوم الواحد، وهناك الزلازل الكبيرة التي تحدث مرة كل سنة تقريبا. فالزلازل كثيرة الحدوث، وفي اليابان وحدها يقع ما معدله 1500 زلزال في السنة.

أمر آخر يحسُن التوقف عنده، وهو أن العلماء يستطيعون توقع أماكن الزلازل على المدى الطويل، بقدر معقول من الدقة، ويتابع الجيولوجيون بدقة نطاق صدوع معينة يتوقعون حدوث الزلازل عندها. إنهم يعرفون، مثلا، أن غالبية الزلازل العالمية الرئيسة تقع على امتداد حزام طوق المحيط الهادئ، ويعرف هذا الحزام باسم "حلقة النار" لاحتوائه على العديد من البراكين والزلازل ونشاطات جيولوجية أخرى.

زلزال لشبونة

هذا هو موقف العلم الواضح وضوح الشمس. أما الموقف الديني فيختلف. هناك عشرات الزلازل الكبيرة المشهورة التي ضربت العالم، لكن عاد إلى ذاكرتي سريعا مع متابعة الأخبار هذه الأيام، "زلزال لشبونة العظيم" الذي وقع في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1755، أي في يوم عيد "جميع القديسين" في الديانة المسيحية، في الساعة العاشرة إلا ثلثا بالتوقيت المحلي.

Reuters
امرأة تجلس على أنقاض منزلها في أعقاب الزلزال المميت في كهرمان مرعش، تركيا 14 فبراير 2023.

كان زلزالا ضخما قريبا في قوته من زالزال تركيا وسوريا، ولم تتأثر به البرتغال وحدها، بل كل شبه الجزيرة الأيبيرية وشمال غرب أفريقيا وتردد دويّه في أنحاء أوروبا، واشتعلت بسببه الحرائق وتدمرت البيوت وتأثر الاقتصاد، والأهم من كل ذلك أن أناسا كثيرين ماتوا، يقال إن عددهم يقدر في درجته العليا بخمسين ألف إنسان.

في أوروبا ذلك الزمان، رأت شريحة من الناس أن زلزال لشبونة هو عقوبة إلهية، وهناك لوحة فنية رسمها الفنان جلاما ستروبيرل تؤيد هذه الفكرة، ففي لوحته عن الزلزال تبدو الملائكة وهي تحمل السيوف. هذا هو ذاته موقف بعض الإسلاميين من زلزال تركيا/سوريا، أي أنه عقوبة إلهية وقعت على الأتراك والسوريين، وأنه رسالة إلى بقية المسلمين في العالم إن هم لم يعودوا إلى سلوك الطريق القويم الذي رسم حدوده أولئك الإسلاميون. موقف مشوب باستغلال الحدث وتجييره لصالح عودة السلطة إلى رجل الدين من جديد بعدما خسر موقعه. أوروبا تجاوزت تلك اللوحة بعد الحداثة والثورة العلمية، أما الإسلامي فلا يزال يراهن على التهديد بالعقوبة، إن لم يضع الناس رقابهم في حبال الخرافات التي يريد أن يسوسهم بها.

هذا هو ذاته موقف بعض الإسلاميين من الزلزال، أي أنه عقوبة إلهية وقعت على الأتراك والسوريين، وأنه رسالة إلى بقية المسلمين في العالم إن هم لم يعودوا إلى سلوك الطريق القويم

أخلاق مشينة

الجزء الأخلاقي المشين في هذه القضية، نراه عندما يشير شخص ما بأصابع الاتهام إلى أناس موتى، وإلى آخرين فقدوا للتو أهلهم وجيرانهم وبيوتهم التي تؤويهم من هذا البرد القارص، قادحا فيهم وفي إيمانهم وأخلاقهم وسلوكهم. وكأن هذا الاتهام هو أحسن ما وجد، بدلا من توجيه التعازي للمكلومين والتحرك من خلال المنصات القانونية لمساعدة من لا يزالون تحت الأنقاض، ومحاولة إنقاذهم إن كانوا أحياء، أو دفنهم إن كانوا موتى، دفنا يليق بالكرامة الإنسانية.

على الرغم مما تقوله تلك اللوحة الآنفة الذكر، إلا أن هذا لم يكن الموقف الأقوى في أوروبا، ولم تسر الأمور في هذا الاتجاه، بل على العكس، فقد أدى الزلزال إلى شيوع روح إلحادية في كل البلدان الأوروبية، وممن صوّر هذه الروح، الفيلسوف الفرنسي فولتير الذي وضع كتابا وقصيدة عن المناسبة، أما القصيدة فعنوانها "عن كارثة لشبونة" وأما الكتاب فرواية بعنوان "كانديد" وهي مشبعة بالاحتجاج على ما وقع، وبدرجة أقوى كان صبّا لجام الغضب على رأس الفيلسوف الألماني العقلاني لايبنيتز، صاحب النظرية التي تقول إن هذا العالم هو أفضل العوالم، وإنه عالم كامل كما هو. كان الزلزال سببا من أسباب انتشار الإلحاد في عصر التنوير في أوروبا وفي تخلي أهلها عن عقيدتهم الدينية، وهو أمر يجب أن يأخذه في الحسبان من يحاولون استغلال مثل هذه الفجائع لبث خطابات يخشى أن تؤدي إلى عكس الغرض المرتجى منها.

في مقابل هذا الموقف الساخط عند فولتير، تحرك إيمانويل كانط، أعظم الفلاسفة في كل العصور بحسب كثيرين، فكتب ثلاثة نصوص منفصلة عام 1756 عن "زلزال لشبونة"، فصاغ نظريته في أسباب الزلازل، وردّها إلى تحولات في الكهوف الضخمة المليئة بالغازات الساخنة. على الرغم من غياب الدقة، كانت تلك أولى المحاولات المنهجية لشرح الزلازل من منظور طبيعي، وتأسيس الجغرافيا العلمية، وبداية "علم الزلازل".هذه معلومة لا يعرفها كثيرون، وهي أن أعظم الفلاسفة لم يبدأ حياته فيلسوفا، بل بدأ عالما من علماء الطبيعة ثم تحول فيلسوفا. النظر إلى السرد البيبليوغرافي يؤكد هذا، فمؤلفاته الأولى كانت علمية لا فلسفية.

AFP
سوريون يقيمون صلاة الجنازة على أقربائهم وجيرانهم الذين قتلوا جراء انهيار المبنى الذي يقطنون فيه جراء الزلزال المدمر الذي ضرب بلدتهم في 6 فبراير 2023.

عندما يحاول المرء أن يجد شيئا يخرج به من هذه المسألة، يلاحظ أن قوانين الطبيعة ستظل تسير في طريقها كما اعتادت، بغض النظر عن تفسيرنا لها، وأن الطبيعة، هذا العالم المحيط بنا بكل مظاهره المتغيرة في كل ثانية، ستبقى كما هي، بغض النظر عن وعينا بها، وهي في حركة مستمرة وتغير دائم. صحيح أن الإنسان عندما يدرك بعده الاجتماعي يصبح قادرا على تغيير الطبيعة عندما يفهم قوانينها ويستخدم الأدوات الفاعلة فيها لتسخيرها لخدمته، لكن على الرغم من هذا التسخير، ينبغي له أن يدرك أن انتصاره قليل محدود، فلا تزال أسرار الطبيعة الكلية بعيدة عن الاحتواء. لذلك ينبغي أن يحتضن الانسان الطبيعة، وأن يصغي إلى ما تقوله، بدلا من الفكرة البراغماتية الساعية لمجرد التسخير.

إلامَ يُفترض أن يقود الزلزال؟ إلى الإيمان أم إلى الإلحاد؟ الواقع أن الإيمان والإلحاد لا علاقة لهما في قليل ولا في كثير بالزلازل. وعندما يختار الإنسان أن يكون مؤمنا، لن تصدّه عن إيمانه كارثة من كوارث الطبيعة، وعندما يختار ألا يكون مؤمنا لن يرده إلى الإيمان خلل في طبقات الأرض، أو حدثٌ توقع الجيولوجيون حدوثه قبل أن يحدث.

font change

مقالات ذات صلة