الصين تبادر لـ"ملء الفراغ" الأميركي

بكين تدعم تعاون جنوب - جنوب وتعددية قطبية

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon
تتمتع الصين بثقافة أمنية داخلية تعطي الأولوية لاستقرار المجتمع من أجل تعزيز مصالح شعبه

الصين تبادر لـ"ملء الفراغ" الأميركي

كان اتخاذ القرارات بناء على منظور استراتيجي، الميزةَ الرئيسة للصين. كان هذا فعالاً وحاسماً بشكل خاص في عقود التنمية المطردة على الرغم من تعقيدات المشهد الدولي. إذا وضعنا تفكير الصين ورؤيتها الاستراتيجية في السياق الصيني - العربي الذي أبرزته زيارة الرئيس تشي جينبينغ على رأس وفد كبير للسعودية في نهاية عام 2022، لأمكننا أن نرى أن الموقع الاستراتيجي للمملكة في العالم العربي لدى الصين ارتفع إلى مستوى جديد. هدفت الزيارة إلى حضور قمة ثنائية والقمة الصينية - العربية والقمة الصينية - الخليجية، ومثّلت أكبر وأعلى وفد صيني يزور العالم العربي منذ عام 1949.

جاءت القمّتان وزيارة الدولة للرياض، في وقت مثالي تتصاعد فيه العلاقة بين الصين والدول العربية، بينما يتراجع الوجود الغربي وتأثيره. وستسعى الصين والسعودية، على وجه الخصوص، لإظهار كيف يمكن للاستراتيجيات القائمة على البراغماتية أن تكون حجر الزاوية للاستقلال الفعال والسيادة.

استفادت الصين من عقود الإصلاح والانفتاح مع سياسة خارجية مستقلة ومسالمة وفق مبادئ التعايش السلمي. محليا، عزّزت التنمية الاقتصادية القوية والمطردة في الصين تشكيلا قويا للاستقرار الاجتماعي والأمن، فيما تمكّنت الصين على الصعيد الخارجي من الحفاظ على دور لها في قوات حفظ السلام في إطار الأمم المتحدة، وبالتالي ساهمت في منع الحروب أو صراعات الاستنزاف. ذلك لأن الصين واعية تماما أن إعطاء الأولوية للتنمية الخاصة بها، مع وضع الأمن كأساس، هو مفتاح بناء الروافع الاستراتيجية.

ترى الصين أن السعودية تقف الآن عند مفترق طرق، حيث تتمتع الدولة بوضع متميز لتعزيز استقلالها واستقلاليتها في صنع السياسات المحلية والخارجية. كانت المملكة، ومنذ عام 1932، تضع الولايات المتحدة أو الغرب بشكل عام في صدارة علاقاتها الخارجية. لكننا حين نتأمل الماضي، نرى أن إطار النفط مقابل الأمن كان نهج الولايات المتحدة لتعزيز مصلحتها في المنطقة على حساب أمن الدول الإقليمية وفرص التنمية. لكن السعودية ترى اليوم كيف أن تركيزها غير المتوازن على الولايات المتحدة أو مجموعة بعينها من الدول، لن يؤدي إلا إلى عدم الفاعلية في صنع السياسات.

نتيجة لذلك، عندما بدأت الولايات المتحدة تلوم المملكة لخفضها إنتاج النفط، حيث قدّم السعوديون مصالحهم الخاصة على مصالح الولايات المتحدة، أدركت المملكة بالفعل أن إعطاء الأولوية لمصالحها التنموية سيكون سياسة أكثر براغماتية وخيارا أكثر فائدة. في هذا الصدد، بات خيار الصين في التنمية الاقتصادية، سواء في أشكال التنمية الصناعية الخاصة بها أو في الشركات التي تذهب إلى الخارج في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، مثلا حيا يحتذى.

استطاعت الصين أن تكيّف استراتيجياتها في كل من التنمية المحلية والعلاقات الخارجية على أساس التغيرات في الديناميكيات الإقليمية، وهذا ما يعكس إنشاء إرادة قوية للسيادة والاستقلال. من جانب آخر، تعزز قدرات الصين مستوى السيادة والاستقلال الذي يجب على الدولة أن تبنيه. لا بدّ أن تُظهر هذه القدرات، بشكل خاص، إمكانات الدولة في توفير الأمن والمصالح التنموية لشعبها.

وفي حالة المملكة تمرّ البلاد في مرحلة تحول عميق وإصلاح وانفتاح، لذلك من المتوقع ان تتجه أهدافها نحو الاعتماد على الذات بدرجة كبيرة في مجالي الأمن والتنمية الاقتصادية. وبديهي ألا تتبع السعودية بشكل صارم مسار الصين بسبب تباين الظروف الوطنية الخاصة بكلّ منهما، لكن نتائج القمّتين وزيارة الدولة التي قام بها الوفد الرفيع المستوى، تبيّن أن الإجماع على بناء مجتمعات ذات مصير مشترك بين الجانبين سيربط القوتين الصاعدتين بشكل أعمق على أساس تفاهم مشترك أمتن.

ستسعى الصين والسعودية، على وجه الخصوص، لإظهار كيف يمكن للاستراتيجيات القائمة على البراغماتية أن تكون حجر الزاوية للاستقلال الفعال والسيادة

"حزام وطريق"

احتلّت المملكة مكانتها كأكبر شريك تجاري للصين في منطقة غرب آسيا وأفريقيا في السنوات الأخيرة على الرغم من كون العلاقات التجارية بين البلدين لا تزال حديثة العهد. اليوم، مع تقدّم مشروع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 القائم على قدم وساق، غدت الدولتان قادرتين على إيجاد المزيد من الفرص للعمل معا في مجالات التجارة والتمويل وبناء القدرات والبنية التحتية وغيرها. في هذه الأثناء، يمكن لتجربة الصين في مجال بناء البنية التحتية وتطوير التكنولوجيا المتقدمة أيضا، أن تكون دليلا للمملكة العربية السعودية لتطوير صناعاتها بطريقة أكثر استقلالية.

لكن طموحات الصين لبرنامج البنية التحتية العالمية، المعروف باسم "مبادرة الحزام والطريق"، قد أسيء تقديرها في أنحاء كثيرة من المجتمع الدولي.

فقد أساء الغرب الحكم على مبادرة الحزام والطريق ووسمها بأنها قضية سياسية وأمنية بحتة، وخصوصا في أوروبا. ربما يكون من المفيد تذكر بعض الأسماء البديلة التي فكر برنامج الاستثمار الدولي لبكين في اعتمادها – "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين". فكما هو واضح، فإن طموح المبادرة متجذر في التنمية الاقتصادية، لأنها تسعى إلى تحسين الطرق من الصين إلى أوروبا، برّا بوساطة شبكة السكك الحديد، وبحرا – وهذا كان أكثر إثارة للجدال – عبر الممرات المائية الدولية. إنها ليست طريقة لتحقق بكين نفوذا سياسيا في بروكسيل أو واشنطن.

الدول الأخرى التي لديها نزاعات إقليمية مع الصين، وخاصة حول الممرات المائية التي تغطيها "مبادرة الحزام والطريق"، أعربت أيضا عن شكوكها، ليس أقلها اليابان وفيتنام والولايات المتحدة وأوستراليا. تميل هذه الدول إلى تحديد علاقتها مع الصين من خلال المنافسة والمواجهة. وهي ترى أن موجة الاستثمار الدولي لمبادرة الحزام والطريق في الموانئ والبنية التحتية تمثل عرضا للطموح العسكري وتهديدا استراتيجيا وأمنيا محتملا على المدى الطويل.

لكن ذلك ينطوي على عدم احترام نيات الصين المعلنة، التي تعتبر أساسية في تقرير الحكومة عن "مبادرة الحزام والطريق" حين أطلق المشروع في عام 2017. فهي تريد أن توفر مصالح أمنية مشتركة ونظاما بحريا مستداما مع الدول على طول طريقها. تتعارض الرواية السائدة في الغرب حول مبادرة الحزام والطريق والتصور الذي تخلقه، مع استراتيجيا الصين الطويلة الأمد ومبدئها – التنمية السلمية والديبلوماسية.

يعود سوء التفاهم إلى العديد من الاختلافات الجوهرية بين الغرب والصين. بعض هذه الاختلافات بيّن وجلي، ليس أقلها أنظمتها السياسية المختلفة ومواقعها العسكرية. هناك المزيد من المجالات حيث يمكن لوجهات النظر المتناقضة أن تؤدي إلى تصورات متعارضة مع النيات وإلى سوء فهم أعمق. لكن هناك أيضا عوامل أخرى تؤدي إلى نتائج مماثلة. وهي تشمل أنماطا مختلفة من التفكير واللغات والثقافة. التاريخ مهم أيضا، ولا سيما طريقة تذكر الحرب وإدراك الصراع. يمكن أن يكون هذا هو العامل الأساسي في خلق الفجوات واستدامتها في الإدراك الدولي، لكنه يمكن أن يكون أيضا الطريق الواعد لردم هذه الفجوات من خلال فهم دولي أفضل.

مع هذا التقدم أو بدونه، من المحتمل أن يكون هناك مزيد من الاحتكاك في تطوير مبادرة الحزام والطريق، التي ستستمر في تلقي النقد ومواجهة التحديات. لكن مشروع طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيظل من أهم الاستراتيجيات الخارجية للصين وسياستها البحرية الأكثر حيوية، حيث يحقق غرضين رئيسيين فوريين: تأمين مكاسب اقتصادية وحماية أفرادها وأصولها على طول الممرات البحرية الرئيسية وخارجها. وستواصل الصين مهمتها للاستثمار في مشاريع البنية التحتية البحرية والموانئ في الخارج.

Getty images
قاطرات تدفع ناقلة نفط في زهوشان في محافظة جيجيانغ

منظوران للأمن

مع ذلك، لا يزال احتمال سوء الفهم الدولي لـ "مبادرة الحزام والطريق" قائما، ويمكن أن يكون له تأثير مهم على كيفية تطورها. إن تتبع جذور "المبادرة" من منظور الصين، وتخطيط تطور سياستها الخارجية واستراتيجيتها البحرية، لا يمكن إلا أن يساعد العالم في تبيّن الوضوح في شأن التنمية الدولية خلال العقود المقبلة.

فالصين تتمتع، بادئ ذي بدء، بثقافة أمنية داخلية تعطي الأولوية لاستقرار المجتمع من أجل تعزيز مصالح شعبه. وهي، كدولة نامية ذات عدد سكان يصل إلى 1.4 مليار نسمة، يبقى الحفاظ فيها على مستوى عالٍ  من الأمن العام أمرا أساسيا لتأسيس الأمن القومي وأمن الدولة في نهاية المطاف. يتصدر أمن الصين نفسها قائمة مصالحها الجوهرية. وهي تعتقد أن البيئة المتناغمة شرط أساسي لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية المستدامة. هكذا قادت الصين، في المجال البحري، ثقافة مماثلة للحوكمة التعاونية في خططها التنموية مع الدول الشريكة على طول طرق مبادرة الحزام والطريق.

ولكن على الضدّ من ذلك، ثمة لدى الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ثقافة أمنية خارجية، حيث يأتي إحساسها بالأمان من إبقاء التهديدات المتصورة خارج البلاد أو بعيدا عن تحالفاتها. بهذه الطريقة، يمكن لمثل هذه الدول أن تخطئ في قراءة رغبات الصين في فتح الطريق أمام تنميتها الإقليمية الدولية باعتبارها تهديدا خارجيا محتملا جديدا لها. يعرّف هذا المنظور مسبقا الصين على أنها تنافسية ومتحدّية، ما يؤدي إلى التوتر والعداء المحتمل في أعالي البحار. ولا يساعد في أن تجربة الولايات المتحدة الخاصة في إدارة مصالحها البحرية تأتي من مياه غير مدوّلة، على عكس العديد من تلك الموجودة في جميع أنحاء الصين.

الصين لم تبادر إلى شن أي حرب على الإطلاق، هي في واقع الأمر أكبر مساهم في عمليات حفظ السلام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعدد جنودها البالغ أكثر من 2000 جندي، يقومون بمهام نشطة في حفظ السلام


"إدارة" أو "سيطرة"؟

لا تشاطر الصين الغرب ذكريات الحرب نفسها وفهم الصراع نفسه. فالصين التي لم تبادر إلى شن أي حرب على الإطلاق، هي في واقع الأمر أكبر مساهم في عمليات حفظ السلام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعدد جنودها البالغ أكثر من 2000 جندي، يقومون بمهام نشطة في حفظ السلام. هذه العوامل هي التي تحدّد وجهة النظر الصينية. وسيظل مفهوم "الوئام" الثقافي جزءا لا يتجزأ من سعي الصين الى تطوير ممراتها وقواعد دعمها البحرية في الخارج، في الوقت الذي يجري فيه إنشاء طريق الحرير البحري الحادي والعشرين، المترافق مع تطورٍ تدريجي في قوة الصين البحرية في إطار استراتيجيتها التي تهدف لبناء دولة بحرية قوية. كل ما سبق، يشكل ركنا من أركان استراتيجيا الصين الديبلوماسية الشاملة التي ترتكز على الازدهار والتنمية القائمين على السلام.

فثقافة الأمن الصينية لا تعكس بيئة واقعية وحالة وطنية ذات خصائص صينية فحسب، بل تعكس أيضا العقل الاستراتيجي الذي يوجه حكومتها، والذي يمكن أن يعمل على نحوٍ مختلف بسبب الفروق الدقيقة التي أوجدتها اللغة الصينية. إذ يمكن لذلك العقل أن يوفر طريقة تفكير أكثر شمولاً وعمقًا في ظل توفر إطار أوسع مناسب طبيعيا لتشكيل اعتبارات على المستوى الشامل. إن ذلك الإطار مناسب تماما لتطوير الاستراتيجيات والأهداف العامة.

تفضل اللغة الإنكليزية التفاصيل، الأمر الذي يشكل تناقضا صارخا مع اللغة الصينية. فالإنكليزية تشجع الناس على تبسيط أساسيات أي قضية. ويمكن لذلك أن يفضي إلى ميل الولايات المتحدة إلى أن تقصر قرارات هيئاتها التنفيذية على أهداف صغيرة ومحددة. في المقابل، تشير الآثار المترتبة على هذه الاختلافات الثقافية واللغوية في المجال البحري، إلى تركيز الصين على الأهداف الكبرى مثل إقامة شراكات جديدة مع الدول على طول الطرق، بينما تظل الولايات المتحدة حبيسة التفكير في تركيزها على استخدام أسطولها البحري في بحر الصين الجنوبي أو في مضيق ملقا أو قناة بنما لمواجهة الصين.

تؤدي هذه الفروقات في التفكير تدريجيا وفي نهاية المطاف، إلى توسيع فجوات الإدراك بين البلدين وقد تخلق إمكانا متزايدا لنشوء سوء تقدير جيوسياسي وأمني. ويمكن إدراك تلك الفروقات أثناء العمل عندما تحدد الصين أدوار تلك الموانئ أيضا على أنها "مراكز بحرية" أو أماكن يمكن أن توفر الدعم اللوجستي اللازم للسفن العابرة الممرات البحرية لطريق الحرير. وينظر البعض إلى هذا الطموح على أنه ستار للقدرات العسكرية الصينية لأن مثل هذا التطور على طول طريق الحرير البحري سيمكن الصين من السيطرة على الممرات البحرية والرد على التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية بطريقة أكثر كفاءة وفعالية.

لكن بهذه الطريقة يُساء فهم مفهوم "السيطرة" في السياق الاستراتيجي الصيني. إذ تتعارض دلالة المصطلح باللغة الإنكليزية مع مبدأ الصين الأساسي المتمثل في التعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ذات السيادة. هناك كلمة تعبّر عن الفكرة على نحوٍ أفضل ألا وهي: "الإدارة". فكلمة إدارة تعبر على نحوٍ أفضل من  كلمة "السيطرة" عن نهج الصين تجاه مصالحها والاخطار التي تتعرض لها تلك المصالح.

يتجلى ذلك على نحوٍ واضح في الحالات التي تمثل فيها الشركات التي تملكها الدولة، على نحوٍ رئيسي الموانئ المعنية، والتي تلعب دورا داعما وبنّاء في التنمية الاقتصادية وتوفير الأمن عندما يتعرض الموظفون والأصول الصينية إلى خطر. ويعتبر ميناء جوادر في باكستان مثلا على كيفية مساعدة الصين في تعزيز التنمية الاقتصادية المحلية من خلال الدمج الفعال بين الممر الاقتصادي والميناء مع توفر إمكان الافادة من نقطة وصول أفضل إلى مضيق ملقا، الذي يلعب دورا مهما في واردات الصين من الطاقة والموارد الآتية من الشرق الأوسط وأفريقيا.

تُظهر القاعدة الصينية في جيبوتي أيضا كيف أن نيات الصين تتمثل في "الإدارة" بدلا من "السيطرة". فهي تدعم البحرية الصينية في عمليات الحراسة المنتظمة وفي عمليات مكافحة القرصنة والتهديدات الأخرى العابرة للحدود. كما تم استخدامها في إجلاء المدنيين الصينيين.

تحويل الموانئ التجارية إلى موانئ ذات طبيعة عسكرية واضحة أو زيادة القوة البحرية الصينية إلى حد كبير سواء في غرب سنغافورة أو في القرن الأفريقي لن يكون مطروحا على جدول أعمال الصين على الأقل في المدى المنظور

شأن داخلي...وموانئ تجارية

تمثل تايوان جزءا مهما من الجغرافيا السياسية المتعلقة بكل ذلك، إذ أن إعادة توحيد البر الصيني الرئيسي مع الجزيرة لم تتمّ بعد.

ويمكن أن يؤدي توسع نفوذ الجيش الصيني وتمتع الصين بقدرة أعمق على الصعيد الدولي إلى ما يمكن أن يُعتبر تدخلا أجنبيا في شأن داخلي. وستظل سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ركنا أساسيا من أركان العلاقات الدولية وسيكون من مصلحة الصين الأساسية من جميع النواحي التزام مثل هذا المبدأ في سياستها الخارجية. وتتوقع الصين من الدول الأخرى في مقابل ذلك أن تفعل الشيء نفسه.

بناء عليه، فإن تحويل الموانئ التجارية إلى موانئ ذات طبيعة عسكرية واضحة أو زيادة القوة البحرية الصينية إلى حد كبير سواء في غرب سنغافورة أو في القرن الأفريقي لن يكون مطروحا على جدول أعمال الصين على الأقل في المدى المنظور.    

وسيظل التطوير التجاري والدعم اللوجستي الوظيفة الرئيسة للموانئ والقواعد البحرية الصينية الواقعة على طول الطرق البحرية. وتتمثل الاستراتيجيا الصينية من منظور اقتصادي ومنظور خط التوريد في إقامة تواصل عالمي بين الصين والدول الواقعة في جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا والمحيط الهادئ وأميركا الشمالية والجنوبية وغرب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا. يتمتع ذلك بأهمية حاسمة للتنمية المستدامة في الصين. كما يشكل اقتصاد الصين الأزرق (استخدام الصين للمحيطات ومواردها) نحو 10 في المئة من الناتج الاقتصادي القومي. ويعتمد ما يقرب من 90 في المئة من حجم تجارة البلاد الخارجية على النقل البحري أو الشحن. كما تحتاج الصين إلى خط إمدادٍ آمن. فأهم وارداتها النفط الخام الذي يأتي عبر الطرق التي تمر ببحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي آتيةً من الشرق الأوسط وأفريقيا. وسيستمر الطلب على النفط في النمو خلال العقد المقبل.

ينبغي توفير الطعام لسكان الصين البالغ حاليا 1.4 مليار نسمة. لذلك تتمتع طرق الشحن الآمنة والمستدامة بأهمية بالغة. بلغت قيمة واردات الغذاء أكثر من 100 مليار دولار في عام 2021. وستستخدم الصين في المدى القريب وفي المدى المتوسط الشركات التي تملكها الدولة لتطوير وإدارة موانئ "مبادرة الحزام والطريق" ونقاط المؤازرة التي تقيمها جنبا إلى جنب مع ممرات الطرق البرية والممرات البحرية بهدف خدمة المصالح الاقتصادية والأمنية. وستحصر البحرية الصينية دورها في حماية مصالح الصين الخارجية من خلال تخفيف الاخطار الأمنية التقليدية وغير التقليدية في البحر وإقامة شريان حياة يمكن استخدامه عند الحاجة. يذكر في هذا الصدد، واستنادا إلى خبرة المؤلف في هذه المجال، أن القطاع الخاص قد يلعب دورا أكبر في إدارة الأخطار وحماية المصالح الخارجية على طول "مبادرة الحزام والطريق"، الأمر الذي سيؤدي إلى عدم إضفاء الصبغة السياسية على جهود الصين الخارجية.

ثنائية عالمية... وتعددية

من غير المحتمل أن تنتهي الفروق في طبيعة السرد بين الغرب والصين، فهي ضارية الجذور في الاختلافات الجوهرية الكامنة في اللغة والثقافة والرؤية. ومن المرجح أن يستمر الحديث عن "المواجهات" وعن "الحرب".

يمر العالم بفترة تتصف بانعدام ثقة عميق على المستوى السياسي. فالثنائية القطبية تتمتع بزخم يفوق زخم تعدد القطبية في تأمين الاتفاقات المتعلقة بالسياسة والمصالح الوطنية. نحن نعلم أيضا كيف يمكن للتحالف الغربي أن يتّحد بسرعة عندما يشعر بحاجة إلى ذلك. وليس هذا أمرا سيئا في الضرورة بالنسبة الى الصين، التي تتعامل مع الدول بروح من الاحترام المتبادل ومن خلال آليات في إطار أطر الأمم المتحدة لتعزيز السلام والازدهار الدوليين.

تتمتع الصين أيضا بسياسة طويلة الأمد. فقد اختتم المؤتمر الوطني العشرون أعماله قبل زمنٍ قصير وستواصل القيادة التزامها الكامل تحديث قدرات الصين بالإضافة إلى استراتيجيا خارجية ترتكز على البراغماتية. يجب أن يأتي تطوير وتحديث قواعد الاشتباك باستمرار على أساس إقليمي بين الصين والغرب في مقدمة جدول الأعمال، كي يظل كلا الجانبين في أفضل حالٍ من الناحيتين الديبلوماسية والعملية.

 إن تطوير واستدامة طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيكون دليلا واضحا ليس فقط على قدرة الصين وحسن نيتها السياسية، بل أيضا على إقامة هيكل حكم عالمي مناسب لعالم متعدد الأقطاب تنضم إليه كل القوى الناشئة والمتقدمة.

تطوير واستدامة طريق الحرير البحري الحادي والعشرين سيكون دليلا واضحا ليس فقط على قدرة الصين وحسن نيتها السياسية، بل أيضا على إقامة هيكل حكم عالمي مناسب لعالم متعدد الأقطاب تنضم إليه كل القوى الناشئة والمتقدمة

Getty images
أفراد من جيش التحرير الشعبي الصيني في افتتاح القاعدة العسكرية في جيبوتي في 1 أغسطس 2017

 

قاعدة جيبوتي:

للإدارة أم السيطرة؟

تُظهر القاعدة الصينية في جيبوتي كيف أن نيات الصين تتمثل في "الإدارة" بدلا من"السيطرة". فهي تدعم البحرية الصينية في عمليات الحراسة المنتظمة وفي عمليات مكافحة القرصنة والتهديدات الأخرى العابرة للحدود. كما تم استخدامها في إجلاء المدنيين الصينيين في سيناريوهات في غاية الخطورة كأزمة اليمن في 2015.

تجدر الإشارة إلى أن جيبوتي لا تستضيف فقط قوات عسكرية صينية بل أيضا قوات من دول أخرى بما في ذلك الولايات المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وستنضم السعودية وتركيا إلى قائمة الدول التي تحتفظ بقوات هناك في المستقبل.

ثمة افتراضات بأن هذا الشكل من الإدارة على طول طرق "مبادرة الحزام والطريق"، سيؤدي إلى سيطرة صينية فعالة وإلى زيادة محتملة في ميزة الصين التنافسية، وإلى نيتها في أن تصبح قوة بحرية قوية أو مهيمنة من خلال بناء قدرات عسكرية في الموانئ. لكن هذا يعتمد على عقلية الولايات المتحدة في استخدام الأمن كحصن في مواجهة التصورات بالتهديدات الخارجية. وهذا ما يتناقض مع ثقافة الأمن الداخلي في الصين.

إن الخطأ في قراءة كل الظروف المحيطة بهذه الموانئ وقراءة نيات الصين، يسيء أيضا فهم ما هو في مصلحة الصين حقا.

أولا: تعني زيادة تطوير القدرات العسكرية زيادة الإنفاق، الأمر الذي يتعارض مع سياسات الإنفاق الصينية أيضا. فالصين تخصّص قدرا منخفضا نسبيا من ناتجها المحلي الإجمالي لتمويل التحديث العسكري.

ثانيا: تعرف الصين تمام المعرفة النتائج الإقليمية المترتبة على اتباع سياسة العسكرة نظرا لحقيقة أن تحقيق أي هيمنة على النمط الأميركي لن يؤدي إلا إلى تعزيز حساب القوة المحتملة على حساب الوسائل الديبلوماسية المفضلة لدى الصين للحفاظ على موقعها في النظام الإقليمي، وهذا من شأنه أن يتسبب بزعزعة الاستقرار، التي لن تفيد مصالح الصين في أي حال من الأحوال.

ثالثا: قد يؤدي بناء قدرات عسكرية أقوى أو التحسب لضرورة القيام بدور الشرطي في المنطقة إلى طمس معالم أفضلية الصين البادية للعيان التي تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. ويمكن توسيع إطار حد حفظ السلام في ظل الأمم المتحدة مع كل ما يترتب على ذلك من اخطار قانونية دولية.

font change

مقالات ذات صلة