لهذه الأسباب ابن عربي هو الفيلسوف العربي الأعظم

قراءات خاطئة له من المتدينين والعلمانيين

Getty Images
Getty Images
تجربة ابن عربي هي تجربة عربية مسلمة تدعو للحفاظ على الصلوات وأعمال البر

لهذه الأسباب ابن عربي هو الفيلسوف العربي الأعظم

قد يصعب أن نحدّد من الفيلسوف الأعظم في الثقافة العربية الإسلامية، لكن إن كان لي أن أرشح فيلسوفا بعينه، فسيكون محيي الدين ابن عربي الطائي. لدينا الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن رشد وغيرهم، وهم عظماء حقا لكنهم كانوا محصورين في إطار قديم اسمه فلسفة أرسطو. لا أقول إنهم مجرد مترجمين، فقد فرّعوا على الأرسطية ورد ابن سينا بجرأة على المعلم الأول، لكنهم لم يخرجوا قط عن المضمار.

ابن عربي ليس غريبا على الفلسفة الإغريقية فهو يعرفها جيدا، وهذا ما يظهر في بعض نصوصه، وأعتقد أنه تعلم من تلخيصات ابن رشد ما فيه الكفاية، ثم أعلن الانفصال عن هذه الفلسفة برفضه فلسفة ابن رشد والإغريق بعامة. ابن عربي هو جوابنا على من يقول إن العرب لم ينتجوا فلسفة، وإن فلاسفتهم ليسوا عربا وإنما هم من الأمم التي دخلت الإسلام. فهو ينتمي إلى قبيلة طي العربية وقد تقدم ببناء فلسفي ميتافيزيقي يشبه بناء هيغل الفلسفي الميتافيزيقي، وهو بناء أصيل لا يقوم على شيء خارج الثقافة العربية الإسلامية.

في أي قسم تندرج فلسفة ابن عربي؟ لا شك أنها في فلسفة الدين:

لقد صار قلبي قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان وديرٍ لرهبانِ

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

Getty Images
ابن عربي (1165-1240). صوفي وفيلسوف أندلسي عربي صوفي.

نحن أمام إنسان متفرّد حقا وفيلسوف عظيم، خصوصا عندما نتذكر دموية العصور الوسطى وغرقها في التكفير المتبادل والحروب الدينية وما ترتب عليها من قتل وتشريد. نحن أمام إنسان امتلأ قلبه بشعور فياض يتلألأ بالمحبة لكل البشر في زمن المشي على الجماجم. ولأن الإنسان هو روح العالم، لم يعد يفرق بين مسلم وغير مسلم، بل صار يُحبهم ويرحمهم جميعا، فالحب قضية جوهرية في فلسفة ابن عربي، والعالم ما أوجده الله إلا من الحب، والحب يستصحب جميع المقامات والأحوال، ويسري في كل شيء.

ابن عربي هو جوابنا على من يقول إن العرب لم ينتجوا فلسفة، وإن فلاسفتهم ليسوا عربا وإنما هم من الأمم التي دخلت الإسلام، فهو ينتمي إلى قبيلة طي العربية وقد تقدم ببناء فلسفي ميتافيزيقي يشبه بناء هيغل الفلسفي الميتافيزيقي، وهو بناء أصيل لا يقوم على شيء خارج الثقافة العربية الإسلامية



العودة إلى ابن عربي

كيف لنا أن نقترح العودة إلى ابن عربي وتفسيره للنص وهو الرجل المتهم في دينه عند البعض؟ وكيف لنا أن نقرأه في ظل تلك القراءات المختلفة المتناقضة لفلسفته؟ وإذا كنا نقول إن ابن عربي هو من خيرة من قدموا نظرية حقيقية في فن العيش والتعايش مع المختلف، ومن خيرة من قدموا تصورا للمواطنة الصالحة، فلسائل أن يسأل: هل بقي على إسلامه بعد كل ما كتب؟ أم أننا نتحدث عن تجربة خارجة عن إطار التراث العربي الإسلامي؟ مسكونة بأثر التصوف المسيحي أو الهندي؟

يظن بعض الكُتّاب من المتدينين ومن العلمانيين أن ابن عربي كان ملحدا، وهذا بعيد كل البعد عن الصحة، فالرجل ممتلئ إيمانا، لكنه يتصور الإله على غير الصورة الشائعة. إنه يعتقد بأن الإيمان بشريعة محمد يلزم منه الإيمان بشرع من قبله فهو مكمل وليس بناسخ، إنه يرفض قضية النسخ تماما. وكمال الإيمان عنده هو الإيمان بدين الحب الواحد الذي لا يكتمل إلا بالإيمان بكل الصور. لم يقل قط بوحدة الأديان كما يدعي بعض الباحثين، فالإسلام عنده غير المسيحية والمسيحية غير اليهودية، لكن هذه الأديان وغيرها هي صور مختلفة لدين واحد، ولكل نبي شرعة ومنهاج، والإسلام هو الدين الخاتم، أو بعبارة أخرى، ليس ثم إلا دين واحد يلزم منه الإيمان بما يبدو لنا على أنه أديان الأخرى.

Getty Images
ابن عربي (1165-1240). وجدت في مجموعة محي الدين بن عربي اللاتينية.

مبدأ الرحمة

تجربة ابن عربي هي تجربة عربية مسلمة تدعو للحفاظ على الصلوات وأعمال البر، ولا يضره أن كان كالنحلة التي تأخذ من رحيق كل الزهور لتخرج للناس عسلا صافيا يختلف عن الرحيق الأول. إنها فلسفة مسلم يؤمن بالله لكنه لا يعدّ الفقهاء سقفا له. لقد احتفظ لنفسه بحق التفسير غير الملتزم شيئا سوى مبدأ الرحمة وأسماءِ الله التي لا تتوقف عن الفعل في الوجود. يقول ابن عربي: "فحضرة الرحمن هي مجموعة المجالي التي يظهر فيها أثر الرحمة الإلهية، وإن كانت حالات الرحمة لا تتناهى عَدّا، لأن الكائنات المرحومة لا تتناهى عدّا".

لا يخلو نص ابن عربي من العبارات القلقة التي أوقعته في المشكلات، كقوله "ما ثم إلا عابد وثن" يقصد المشبهة والمنزهة من كل الأديان، على حد سواء. هذه هي "نظرية الصورة" عنده. وخلاصتها أن كل طائفة من الفريقين تعبد إلها هي التي أعطته صورته، وهذا يعني أنه ينتقد الطرفين لأنهما جعلا الحق صورة حبيسة لاعتقادهما، ومن هنا قال: "ما ثم إلا عابد وثن"، أي أنه قال هذا من باب النقد، لا من باب الإقرار. هذا الوثن الذي يتحدث عنه ابن عربي هو ما أطلق عليه الأسماء التالية: "إله المعتقدات"، "الإله المخلوق"، "الإله المجعول"، "الحق الاعتقادي" أو "المعتقد في القلب"، "الحق المخلوق" أو "الحق المخلوق في المعتقد". كل هذه الأسماء تدل على صورة الله التي يخلقها تصور الإنسان. إنه يذكرنا بمقولة الفيلسوف الإغريقي زونوفان "الأسُود تتخيل الله أسَدا والجياد تتخيله جوادا"، صور تتعدّد بعدد معتقديها، أما الإله حقا فهو مجهول بالنسبة لنا، ولن يصل منه الإنسان إلا إلى صورة يخلقها الإنسان، فعلى الحقيقة الإنسان يعبد نفسه لأن الصورة من صنعه. وبناء عليه، من يعبد الصنم هو يعبد الصورة التي تخيلها هو لله، أي أنه يعبد الله في مجلى من مجاليه، فما ثم إلا الذات وتجلياتها. كيف يمكن الخروج من هذه المعضلة؟ يرى ابن عربي – ككل صوفي في الشرق أو الغرب – أن المشكلة أتت من العقل وتصوراته ومفاهيمه، ولأنه عاجز عن التقلب في أنواع الصور، وبالتالي يجب أن يكون الدليل هو القلب لا العقل، وعندها يصل القلب إلى مرتبة الكمال يصبح مادة لكل المعتقدات.

يظن بعض الكُتّاب من المتدينين ومن العلمانيين أن ابن عربي كان ملحدا، وهذا بعيد كل البعد عن الصحة، فالرجل ممتلئ إيمانا، لكنه يتصور الإله على غير الصورة الشائعة. إنه يعتقد بأن الإيمان بشريعة محمد يلزم منه الإيمان بشرع من قبله فهو مكمل وليس بناسخ

تجاوز العقل

لا بد أن نُوثّق قبل أن نمضي أن ابن عربي ليس ضد العقل، لكنه بالتأكيد قد تجاوزه، فالتجاوز ركن ركين في فلسفته التي ترفض إغلاق العالم بالمفتاح وأخذ صورة فوتوغرافية له، سواء أكانت هذه الصورة هي ما التقطه المشبهون أم المنزهون. إنه يطرح السؤال عن الوجود، ومن الواضح أن وعي العقل والحواس لم يوصله إلى شيء، فتحول إلى الوعي الصوفي (الوعي الثالث) بحثا عن الطريقة التي سيمسك بها الحقيقة. من كل هذا يتضح موقف ابن عربي من نظرية الوحدة عند الصوفية ودعوى رؤيتهم للحق، وأنها ليست سوى صورة في أذهانهم وأنهم لم يروا إلا أنفسهم.

في تصوري، أن من اعتادوا على إطلاق حكم التكفير على الشيخ محيي الدين سيصدمون عندما يعرفون ما عرفه من درسوه جيدا، فابن عربي كان لا يخرج أبدا عن النص، لكن الفقهاء والمفسرين عن بكرة أبيهم، ليسوا سقفا له، وكل التفاسير وكتب شروح الحديث لم تكن بالنسبة إليه إلا تجربة إنسانية غير ملزمة.

Getty Images
ابن عربي

لا بد أن نقول إن التجربة الصوفية هي إدراك للعالم على أنه تجّلٍ مطلق لكيان موحّد واحد، وعند متصوفة الأديان السماوية يكون هذا الكيان الموحّد هو الله. وبما أن الله عندهم يُدرَك على أنه الجوهر الباطني لكل الأشياء، فقد سارت هذه التجربة في اتجاه القول بوحدة الوجود. هذا المصطلح لم يذكره ابن عربي قط، لكنه نُسب إليه للشبه بين مذهبه والمذهب الموجود قبله بزمن طويل، نظرا لقوله "الوجود كله واحد"، و"ما ثمة إلا الله".

مات ابن عربي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1240 وإلى اليوم بعد ثمانية قرون لا نجد على الساحة الإسلامية من حاول أن يجاريه في التفسير والتأويل، أو أن يستلهم تجربته العلمية النادرة في مجال التعاطي مع نصوص القرآن والسنة، أو أن يجرؤ كما جرؤ. في تصوري نحن بحاجة كبيرة إلى روح ابن عربي والمنهج الذي سنّه، والرحمة التي طالب بأن تكون معيارا للفهم والتأويل. لماذا نحتاجه؟ الجواب في جملة: لأننا نحتاج إلى التأويل المقيّد بالرحمة. فالأساس عند ابن عربي هو الرحمة، وأقسام وأنواع الرحمات تتراوح بين الرحمة السابقة والرحمة الشاملة، وقد جعلها دليله في كل موقف اتخذه وفي كل تفسير أخذ به وأمام كل آية في القرآن أو حديث في السنّة. هذا المبدأ هو مفتاح المعادلة الذي يقودنا لفهم كل كلمة قالها الشيخ الأكبر، فهو يتأول كل شيء متقيدا بهذا المبدأ، وهذا التأويل ليس اعتباطيا على الإطلاق، بل ينطلق من سعة مضمار التأويل عنده: نأي عن الحرفية وسعة في الدلالة وسعة في الفهم وتنوع في القراءات. هذا هو الطريق الذي ينبغي أن نسلكه إن كنا نريد فعلا أن نصنع شرق أوسط جديدا ينعم بالسلام ويتبادل المنافع ويعيش أهله في وفاق.

font change

مقالات ذات صلة