في ذكرى أحمد خالد توفيق .. كاتب "الجيب" الذي ملأ الدنيا وشغل الناس

كتاب عنه في الذكرى الخامسة لرحيله

الراحل أحمد خالد توفيق

في ذكرى أحمد خالد توفيق .. كاتب "الجيب" الذي ملأ الدنيا وشغل الناس

القاهرة: قليل من الكتاب من يمكن أن يتحوّل بنفسه وبكتابته وإبداعه إلى ظاهرة تلفت الأنظار وتثير التعجب والتساؤل، بل وتخلق مع الإعجاب والتقدير عددا من الناقيمن والكارهين لهذا الكاتب وإنتاجه وكتابته! ولا شك أن "أحمد خالد توفيق" استطاع دون رغبة منه ورغم أنفه، كما يقال، أن يتحوّل إلى تلك الظاهرة الكبيرة واسعة الانتشار.

مرت نحو ثلاثين عاما على تجربة الطبيب الشاب أحمد خالد توفيق كتابة قصة في سلسلة توصف بأنها "شعبية"/بوب آرت، "روايات الجيب" والتي أسماها "ما وراء الطبيعة" يخوض فيها غمار عالم كتابة أدب الرعب والغموض عربيا لأول مرةـ، في وقتٍ كانت تلك الكتابات منشغلة بتقديم فكرة البطل الأسطوري الذي يخوض عالم الجاسوسية ويدافع عن الوطن، عبر النموذج الذي قدمه نبيل فاروق في "رجل المستحيل".

ربما يكون من اليسير اليوم الحديث عن ذلك الانتقال الذي يبدو عابرا بين عالمين، وربما لم يتوقف الكثيرون حول طبيعة الكتابة والشخصيات والبناء الذي قدمه أحمد خالد توفيق، ووجد فيه الكثير من القراء الشباب ملاذهم الأدبي الثمين، ولكن الحقيقة أن النقلة كانت نوعية بامتياز، بين بطل أسطوري/خارق، كما يمثله "أدهم صبري" قادر دوما على تحدي الصعاب والتغلب على كل العقبات، بل ولا نبالغ إن قلنا أن يمكن أن يهزم جيشا بمفرده! وبين "واحد من الناس" مثل "رفعت إسماعيل" بطل سلسلة "ما وراء الطبيعة" الطبيب العجوز المتخصص في أمراض الدم الذي يبدو عليه الهزال، والذي لا يواجه إلا الأساطير والعوالم الغريبة، يمتلك موهبة وحيدة هي عقله، يخوض القراء معه عددا من "المغامرات" الشيقة، ولكنها في الوقت نفسه ورغم ما تحويه من غرابة وغموض تحتوي على قدرٍ من الواقعية والسخرية التي وسمت أسلوبه بشكلٍ عام.

لا شك أن شخصية البطل المثالي كانت جذابة بشكلٍ عام، وربما كانت مناسبة لجيل الأحلام القومية الكبرى أيضا، ولكن الزمان اختلف، ولم يعد الإيمان بالبطل الأسطوري مناسبا لا للزمان ولا لطبيعة المجتمع الذي أصبح أكثر تحررا وانفتاحا على عوالم أخرى، من هنا جاء "رفعت إسماعيل" والذين معه أبطال من الواقع مناسبين جدا للمرحلة فالتفّ حولهم القراء، واستعادوا اكتشاف العالم من خلالهم، عبر كتابات أحمد خالد توفيق.

كانت البداية مع "ما وراء الطبيعة" وعالمها الثري، ولكن "ندّاهة" الكتابة أخذت أحمد خالد توفيق إلى ما هو أبعد من ذلك، فبدأ سلسلة أخرى لاتقل جمالا وتشويقا هي سلسلة "سفاري" وبطلها "علاء عبد العظيم" الذي يخوض مغامرات طبية في القارة الإفريقية السمراء، ويظهر فيها الجانب الطبي والعلمي للدكتور أحمد خالد توفيق، ومحاولته التعريف بأماكن وبيئات غير معروفة للقارئ المصري، ثم جاءت سلسلة "فانتازيا" وهي واحدة من أجمل ما كتب أيضا، والتي يقول عنها إنها حلم نابع من ولعه بعوالم الأدب المختلفة، وقدمها ببطلة غير مثالية أيضا ولكنها مثقفة وحالمة هي "عبير عبد الرحمن" التي تخوض مغامرات تنقلنا إلى الشخصيات الأدبية والثقافية الشهيرة، فنتعرف معها على شكسبير، ودوستيوفسكي، وسيبويه، حتى نصل إلى المتنبي والرحالة ابن ماجد، وجيمس بوند .. وغيرهم. وربما كانت هذه السلسلة تحديدا هي السبب في إطلاق الجملة الشهيرة (جعل الشباب يقرأون) على أحمد خالد توفيق، ليس بمعنى أنهم يقرؤون له، وإنما جعلهم يتعرفون على عالم واسع من الأدب عربيا وعالميا بأسلوبه الشيق، مما يجعلهم يتابعون قراءته بعد ذلك..

وهكذا كوّن أحمد خالد توفيق من خلال هذه الكتب والروايات قاعدة جماهيرية عريضة أغلبها من الشباب، وكان يهتم بأن يلتقيهم كلما تسنت له الفرصة، ورغم ارتياحه للبقاء بعيدا عن العاصمة (حيث ولد وتوفي في بلدته طنطا) إلا أنه كان حريصا على لقاء محبيه، وكان يمارس دورا شديد الخصوصية معهم فهو ليس ذلك الأستاذ الذي يعطي النصائح والتوجيهات، وإنما هو الأخ الأكبر الذي يراقب ويسمع باهتمام، بل وكان يقلقه دوما لقب "العراب" ويرى أنه مسؤولية لا يستطيع أن يتحمل تبعاتها.

خاض أحمد خالد توفيق غمار عالم كتابة أدب الرعب والغموض عربيا لأول مرةـ، في وقتٍ كانت تلك الكتابات منشغلة بتقديم فكرة البطل الأسطوري الذي يخوض عالم الجاسوسية  ويدافع عن الوطن

من روايات الجيب إلى شآبيب

مرت السنوات، وتشكّل حول أحمد خالد توفيق جيل كامل من القراء الشباب، الذين بدؤوا تعرفهم على الأدب والكتابة من خلاله، وكانوا يحبون أن ينتقل كاتبهم المحبوب وأديبهم المفضل من خانة كاتب روايات الجيب إلى عالم الأدب الرسمي بثرائه واتساعه، لاسيما أنهم كانوا يراهنون على امتلاكه كل أدوات الأديب الجاد المتحقق، وليس أدل على ذلك من أسلوبه المميز وقدرته على بناء شخصيات تعلق بها الكثيرون، من هنا، وبالتزامن مع ذلك كانت دار ميريت التي تتبنى المواهب الشابة والواعدة، فصدرت روايته الأولى "يوتوبيا"عام 2009 وأثارت الكثير من الجدل بين مؤيد للتجربة ومعارض لها سواء في الأوساط الأدبية أو الشبابية،

كانت "يوتيوبيا" حدثا فريدا وتجربة جديدة في موضوعها، حيث تتحدث عن مصر في المستقبل (حينذاك)  تدور أحداث الرواية في مصر عام 2023 ، وتنتمي لما يعرف بأدب الديستوبيا الذي كتب فيه بعد ذلك الكثير من الشباب، والمفارقة أن أحداث الرواية أصبحت صالحة للاستشهاد بها في أيامنا هذه، وكأنه كان يقرأ الغيب فعلا، فقد أشار القراء إلى حديثه في هذه الرواية عن ارتفاع سعر الدولار في مصر (وأنه يساوي ثلاثين جنيها)، كما تحدث عن مدينة تحاط بسورٍ حديدي يعيش فيها  الأغنياء بمعزل عن باقي عموم الشعب من الفقراء، والذي رأى البعض أنه مثل "العاصمة الإدارية" التي بدأ إنشاؤها في القاهرة أخيرا، إلا أن الرواية كانت أكثر قتامة وسودواية، ورأى فيها الكثيرون تحولا عن الأسلوب الذي اعتادوه من أحمد خالد توفيق.

ويبدو أن تبعات وردود الأفعال على "يوتيوبيا" لم تكن بالمستوى المشجع لأن يواصل الكتابة بعدها مباشرة، فقد تأخرت الرواية التالية لها لتصدر عام 2012 رواية "السنجة" والتي جاءت شديدة الواقعية من جهة واستخدم فيها توفيق تقنيات سردية مختلفة من جهة أخرى،  الرواية تتحدث عن بطلٍ "روائي" هو "عصام الشرقاوي" الذي يختفي في ظروفٍ غامضة، تأتي الرواية كمحاولة للكشف عن أسباب اختفائه.  ثم تنتقل بعد ذلك إلى شخصية الفتاة "عفاف" التي تنتحر بين الناس فجأة وتتعدد الحكايات خول سبب انتحارها، وبين عصام وعفاف نتعرف على ذلك العالم المختلف الذي يرسمه خالد توفيق بعناية، وهو عالم المهمشين في حواري القاهرة، ومناطقها الشعبية وهي "دحديرة الشناوي" التي تدور فيها الأحداث، ونتعرّف على عوالم البلطجية وقهر الأقوياء للضعفاء، كل ذلك يدور ويحدث في أعقاب ثورة يناير 2011 التي وعدت بالكثير من الحلم والحرية!

كان أحمد خالد توفيق يمارس دورا شديد الخصوصية مع الشباب فهو ليس ذلك الأستاذ الذي يعطي النصائح والتوجيهات، وإنما هو الأخ الأكبر الذي يراقب ويسمع باهتمام، بل يقلقه دوما لقب "العراب" ويرى أنه مسؤولية لا يستطيع أن يتحمل تبعاتها

لم تحز روايات أحمد خالد توفيق المستقلة على إعجاب جمهوره من الشباب كما كان الحال مع سلاسل روايات الجيب الشهيرة، ولكنه لم يتوقف أيضا عن التجربة، واختبار مهارات مختلفة في كل مرة، وبقيت المحبة في القلوب.

 كتب توفيق بعد السنجة رواية (مثل إيكاروس) وصدرت عن دار الشروق عام 2015 والتي سعى فيها إلى تجربة الخيال العلمي من خلال بطل روايته "محمود السمنودي" غريب الأطوار الذي يصاب بحالة غريبة تجعل بإمكانه الإطلاع على سجلات تكشف له ما سيحدث في المستقبل، وتحضر أسطورة "إيكاروس" الذي اقترب بجناحيه من الشمس فكان ذلك سببا في هلاكه، لا يتمكن محمود من العيش بعد تلك الحالة فيتم وضعه في مصحة نفسيه للسيطرة عليه وعلى ما استطاع أن  يصل إليه من أسرار.  وكسابقاتها ووجهت الرواية بكثير من النقد والاعتراض والملاحظات السلبية، ولكن المفارقة أيضا أنها الرواية الوحيدة التي حصل بها أحمد خالد توفيق على جائزة، حيث حصلت على جائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب 2016.

الراحل أحمد خالد توفيق

وبدا لأحمد خالد توفق بعد ذلك أن بإمكانه أن يستعيد روايات من سلاسل الجيب ويستعيد بناءها بشكل مختلف، فكانت رواية "ممر الفئران" عام 2016 التي كانت في سلسلة ما وراء الطبيعة "أسطورة أرض الظلام" مع اختلاف واضح في شخصيات الرواية وتفاصيلها، يعود في الرواية إلى الأجواء الديستوبية حيث تتعرض الأرض لنيزك هائل يحولها إلى ظلام دائم، ونتعرف فيها على "الشرقاوي" الذي يرصد تحول العالم وما أصبح عليه من قهر وظلم وضياع.

اعتبر الكثيرون هذه الرواية بمثابة بداية النهاية لكتابة أحمد خالد توفيق وعالمه الثري الذي اعتادوا فيه على الجديد، فلم يمكن منه إلا أن قدم لهم بعدها بعامين معالجة جديدة لرواية أخرى صدرت من سلسلة "فانتازيا" هي (وعد جوناثان) التي حولها إلى رواية "شآبيب" وصدرت عن دار الشروق 2018.

إلا أن كتابة أحمد خالد توفيق لم تقتصر على سلاسل روايات الجيب والروايات الأخرى فحسب، وإنما صدر له أيضا عدد من المجموعات القصصية، صدر منها بعد وفاته (أفراح المقبرة) 2018، و (رفقاء الليل) عام 2019 عن دار الكرمة، بالإضافة إلى عدد كبير من كتب المقالات نذكر منها "شاي بالنعناع" و"قهوة باليورانيوم"، كما صدر له كتاب هام عن الكتابة أسماه "اللغز وراء السطور" عام 2017 عن دار الشروق. 

وهكذا انتقل أحمد خالد توفيق من نجم روايات الجيب الذي تربى عليها الشباب والمراهقون إلى روائي وكاتب كبير ذائع الصيت معترف به رسميا يبحث عنه الإعلام الرسمي ويحتفي به ويتساءل عن سر شهرته وجماهيريته، حتى كانت وفاته المؤسفة في أبريل 2018 إثر أزمة قلبية مفاجئة، وشهدت جنازته احتشادا كبيرا لعدد من الكتاب والقراء من الشباب، وتزامن مع ذلك طوفان كبير من كتابات الرثاء وشهادات المحبة والاعتراف بأهميته وأثره. 

خمس سنواتٍ مرت على رحيل أحمد خالد توفيق، ولاتزال سيرته وكتاباته حاضرة، ولا يزال أثره باقيا في نفوس جيل كبير من الشباب، حتى وإن تجاوزوا عالمه، ولكنهم يدينون له بالفضل ، ويحفظون له ذلك الدور العظيم في إثراء حياتهم وعالمهم الأدبي والخيالي


الشباب يوثقون سيرة العراب

لكل ما سبق لم يكن غريبا أن يبذل عدد كبير من الكتاب والأدباء الشباب مجهودا كبيرا في توثيق مسيرة أحمد خالد توفيق والحديث عن جوانب عديدة من سيرته،لا سيما أن الرجل طوال مسيرة حياته (التي لم تطل كثيرا) لم يشعر بحاجة أو ضرورة لكتابة سيرته الذاتية، وكان يرى دوما أن كل ما لديه قدمه في كتبه المختلفة، ولكن كان للشباب والمحبين رأي آخر،  ظهر ذلك في قنوات خاصة على يوتيوب، كالتي قدمها الفنان والكاتب "أحمد صبري غباشي" في حلقات خاصة بعنوان "جامع الأحلام" التقط فيها أطرافا من سيرته وحكاياته، بل ولقاءاته الجماهيرية، وتصريحات عدد من أصدقاءه والمقربين إليه:

وفي فبراير/شباط الماضي أصدرت "ستوريتل" كتابا صوتيا بعنوان "أسطورة أحمد خالد توفيق" للشاعر والكاتب خلف جابر، بصوت الفنان أحمد أمين، يتتبع الكتاب سيرة وحياة أحمد خالد توفيق على طريقته في كتابة الأساطير.

ومنذ أيام صدر عن "دار كتوبيا" الجزء الأول من كتاب "اسمه خالد" للكاتب محمود حافظ، يجمع فيه كل ما استطاع أن يصل إليه من أخبار ومعلومات ومقالات عن سيرة أحمد خالد توفيق وحياته سواء ما تناثر على مواقع الإنترنت أو في كتاباته ومقالاته أو لقاءاته التلفزيونية أو مقالات كتاب اقتربوا منه وتعرفوا عليه.

الكتابة عن أحمد خالد توفيق وعالمه الثري وأثره الواسع لا تنتهي، فالرجل ترك بصمة على أجيال متعاقبة واتسعت شهرته لتشمل العالم العربي كله، وكتب في شتى فنون الكتابة الأدبية، ولا تزال كتباته مادة خصبة للاستلهام الفني، في مسلسلات وأفلام، صدر منها مسلسل "ما وراء الطبيعة" في 2020 من إخراج عمرو سلامة، وعرض على "نتفليكس" وتصدر منصات المشاهدة عربيا في ذلك الوقت، وأثار الكثير من الجدل بين محبي أحمد خالد توفيق والناقمين عليه، كما أخذ عنه روايته "سر الغرفة 207" مسلسل بنفس الاسم في العام الماضي 2022 عرض على منصة "شاهد" من إخراج  محمد بكير.

خمس سنواتٍ مرت على رحيل أحمد خالد توفيق، ولاتزال سيرته وكتاباته حاضرة، ولا يزال أثره باقيا في نفوس جيل كبير من الشباب، حتى وإن تجاوزوا عالمه، ولكنهم يدينون له بالفضل ، ويحفظون له ذلك الدور العظيم في إثراء حياتهم وعالمهم الأدبي والخيالي على حدٍ سواء.

font change

مقالات ذات صلة