بطل علوية صبح المعلق بين بيروت ونيويورك والهويات المتنازعة

في روايتها الخامسة "إفرح يا قلبي"

الروائية اللبنانية علوية صبح.

بطل علوية صبح المعلق بين بيروت ونيويورك والهويات المتنازعة

بيروت: تكثر في رواية "إفرح يا قلبي"- وهي الخامسة للروائية اللبنانية علوية صبح، وصدرت لدى "دار الآداب" في بيروت نهاية العام 2022- الموضوعات والشخصيات الروائية. فهي على نحو متشابك:

- رواية أجيالٍ عائلية ثلاثة في الريف والمدينة والمهاجر.

- رواية عنفٍ وتمزّق عائليّين.

- رواية عنفِ حروبٍ أهلية تجتاح نسيج الحياة الاجتماعية.

- رواية تمزُّقِ هويات شخصية أو فردية وجندرية.

- رواية هجراتٍ وأمزجة وأهواء متنازعة ومتصادمة.

- رواية "أفكار ثقافية" تتنازع الشخصيات المضطربة.

أما السرد الروائي في "افرح يا قلبي" فيتكفّله راوٍ مستقل عن الشخصيات الكثيرة، متتبّعا أحوالها ومصائرها في القرية (دار العز) والمدينة (طرابلس اللبنانية) وصولا إلى نيويورك. وتبدأ الرواية بمشهد مغادرة شخصيتها الرئيسية (غسان) منزل أهله وقريتهم إلى مطار بيروت، فرارا من العنف الأسري المدمر وعنف الحروب الأهلية. وفي سياقات السرد وتطوره وتغيّر أماكنه، تظهر تباعا شخصيات الرواية الكثيرة، فيبادر الراوي إلى الخبر عنها وعن تنازعها المرير ومصائرها المأسوية. لكن غسان غالبا ما يظل المحور الرئيسي الذي تتسع حوله دوائر السرد وعالم الرواية حتى مشهدها الأخير.

اقرأ أيضا: دراما رمضان 2023: قضايا وسجالات

في سياقات السرد وتطوره وتغيّر أماكنه، تظهر تباعا شخصيات الرواية الكثيرة، فيبادر الراوي إلى الخبر عنها وعن تنازعها المرير ومصائرها المأسوية لكن غسان يظل المحور الرئيسي الذي تتسع حوله دوائر السرد وعالم الرواية حتى مشهدها الأخير


فطرة الأجداد

من بداية الرواية حتى نهايتها يظل عالم جيلها الأول (الجد والجدة في القرية) وقيمه ثابتين على حالهما في تصور الراوي وتصور غسان. فالقرية في تصورهما معين حياة متقشفة، هانئة، راضية ومطمئنة، لا يشوبها التنازع ولا الاضطراب في القيم والعلاقات والأحكام. فالقرويون يعيشون في وئام وسلام فطريين في كنف الطبيعة وسكينتها. كأنما حكمة الأجداد المتوارثة تتكفل تلقائيا وبلا سؤال تسيير شؤون الحياة وتيسيرها على نحوٍ متناغم يخلو من القلق. والأرجح أن هذه الصورة عن حياة الأجداد القرويين صنيعة فكرة رومنطيقية أدبية عن عالم الريف، منظورا إليه من عالم المدينة.

وربما هذا ما تمثله أو ترمز إليه آلة العود الموسيقية التي لا يحمل غسان سواها في رحيله من القرية إلى نيويورك. وهي الآلة التي كان يسمع نغماتها عندما "يضرب جده بأنامله" أوتارها "مدندنا مقام الحب الحنون (...) فيسبح في مقامات عربية تعانق روحه، وهو يستمع إليها باستئناس يذيبه عشقا بالعود وجده". وما الجد والعود وأنغامه في هذا المعرض سوى كناية أو رمز لتلك الحياة الهانئة التي يحياها الأجداد في القرى مطمئنين، غير منفصلين عن فطرتهم. وهو الانفصال الذي يبادر إليه غسان مدفوعا برغبته المحمومة في الخلاص من عنف والده الأسري وجيله ومن عنف الحرب الأهلية.

جيل العنف واللعنة

يبدو الجيل الثاني في "إفرح يا قلبي" جيل خراب تلك الفطرة القروية أو تخريبها. ويمثّل ذاك الجيل والدُ غسان الذي يقرر العزوف عن إلقاء تحية الوداع عليه عندما يغادر قرية جده الوادعة الرضيّة، والتي يحمل صورتها معه إلى نيويورك، فرارا من عنف والده وشراسته وخياناته لأمه الطيّبة المسكينة البسيطة، والمستكينة إلى فطرة ثقافة الأجداد التقليدية المتوارثة.

أما الجيل الثالث في الرواية فمسترسل في ضياعه وتمزقه اللذين نجا منهما غسان على خلاف إخوته: "أخوه عفيف تخلى عن العائلة والحياة وصار له أب وإخوة في الحركة المتطرفة، ولا يريد غسان أن يراه إلى الأبد. وأخوه طارق يسكن في بيروت ويعمل مصورا صحافيا على جبهات الحرب، وصولا إلى العراق. أما أخوه سليم فلا يعلم أين مكانه". ويتكشف في سياقات السرد الروائي أنه تعرض إلى عنفٍ شديد من والده، هزّ كيانه وكينونته الإنسانية وحطمها وحطم هويته الجنسانية، ما أدى إلى اختفائه. وهذا أخوه جمال الذي يخبرنا الراوي أن غسانا لم يعلم بمقتله الفاجع. فقد هاجم مسلحون من الحركة المتطرفة منزل أهل صديقه وجاره جورج، فقتلوهما برشقات من رصاص بنادقهم، فيما هما جالسان في المنزل.

وحدها أمه المسكينة قبّلها غسان قبل مغادرته. وهي بطيبتها وفطرتها تنتمي إلى جيل الجد، وليس إلى الجيل الثاني التي هي منه. فالنساء في الرواية براءٌ من العنف الذكوري أو الرجولي الذي يستبد بالرجال، ويقع جيل الأبناء الثالث ضحيته.

على مدار السرد في الرواية تروح تتواتر وتتشابك قصص وحكايات عن هذه الأجيال الثلاثة:

- الجد والجدة جيل الثبات الفطرة، ورمز حنين غسان إلى الحياة القروية الهانئة المتقشفة وحكمتها.

- الجيل الثاني يغادر تلك الحياة إلى تصدع القيم والعلاقات في المدينة وزمن الحرب.

- الجيل الثالث يتضاعف تصدعه وتمزقه حتى الضياع والقتل.

ربما وحده غسان من هذا الجيل يجد لتصدعه وتمزقه مسارات قابلة لأن يتعايش معها. أين؟ في نيويورك إلى جانب كريستين الأميركية. وهناك يألف ازدواج هويته الثقافية والعاطفية والموسيقية، ويقرأ إدوارد سعيد ويستلهم منه دروسا تساعده في فهم حياته ومشاعره. أما إخوته فيغرقون في لجة الضياع والتيه، فيما أبناؤهم، أي الجيل الرابع، تتوارد وتتواتر أخبارهم بين البلاد وتوزعهم في المهاجر.

تمزج الكاتبة الواقع الحي وحوادثه المتدافعة بأفكار وشخصيات روائية تستلهمها من قراءات كثيرة، وتستدخلها في سياقات السرد الروائي

فصام ثقافي وجنسي

ننقل هنا عن غلاف الرواية الخلفي، مقتطفا من نبذة مكثفة تعرّف بها وبشخصيتها الرئيسية: غسان "الموسيقي وعازف العود (الذي) يهاجر إلى نيويورك هربا من فاجعة عائلية، حالما بهوية جديدة. رافضا جبروت أبيه وخياناته لأمه، ومبتعدا عن نور، حبه الروحاني الأبدي. وفي نيويورك يشتعل حبا لكريستين، أستاذة مادة الصوفية، عاشقة الشرق وموسيقاه، والتي تكبره سنا". فيساكنها هناك مساكنة شبه زوجية. لكنه حين عاد مرة إلى القرية لحضور مراسم دفن والده، في الفصل 13 من الرواية، "ارتبك حين رأى (صبية تدعى) رلى تتصدر الصالون بتايور (تنورة) أسود ضيق، وتفاجأ بأنها هي الفتاة التي لفتت نظره" في الجنازة. ولما علم أنها "كانت طفلة تلهو قبل أن يهاجر"، قال لها: "صرتِ شابة جميلة كما كنتِ طفلة جميلة". وسرعان ما يخبرنا الراوي أن غسان "وقع في غرام" رلى منذ لحظة لقائهما الأول أثناء دفن والده. و"لم يعد يفكر لا بنور (حبه الروحاني المراهق في القرية قبل رحيله عنها) ولا بكريستين التي تنتظر أن يتصل بها" في نيويورك. لقد جذبته رلى التي "تخفي ألما خلفته ذكريات طفلة نشأت مع أب موزع بين 4 زوجات. وكانت أنيقة، سعيدة بمؤخرتها المستديرة المشدودة (...) فاهتز السلام الذي بناه بداخله" في نيويورك مع كريستين التي "أنسته" إياها رلى، فتزوجها في القرية مستجيبا لرغبة أمه وتحريضها لينجب ذرية وأبناء. ونسي "عهده على نفسه بأنه لن ينجب طفلا يعيش المرارات والعذابات التي عاشها في بلده".

هكذا تتحول "إفرح يا قلبي" إلى رصد انشطار نفس غسان بين عالمين: حياته في نيويورك وعلاقته المستقرة بكريستين التي خفية عنها تزوج رلى في القرية، فأنجبت طفلة في غيابه. وظل لسنوات يزور زوجته القروية، التي تقول لها صديقتها: "طولي بالك، بكرا كريستين بتزهق من الحياة معه (...) بالآخر بتربحي وبيرجعلك". لكن غسانا يبقى على فصامه الثقافي والجنسي، فيما هو يتنقل بين عواصم أوروبية كثيرة يُدعى إلى إحياء حفلاتٍ موسيقية فيها.

وظل على هذه الحال حتى اتصلت به مرة أمه بعد منتصف الليل، وصرخت قائلة إن رلى "قتلتها رصاصة طائشة وهي تنشر الغسيل على الشرفة" في القرية. وكان "الرصاص قد عمّ البلد (لبنان) ابتهاجا بنجاح الأولاد في الامتحانات الرسمية". وفي صبيحة النهار التالي غادر نيويورك إلى بيروت. وفي القرية شارك في دفن زوجته، ووعد ابنته آية بأنه سيعود قريبا لاصطحابها إلى نيويورك.

في الطائرة قرر أنه "لا يستطيع التخلي عن كريستين" وسوف يعترف لها بزواجه وإنجابه ابنة في القرية. وتنتهي الرواية فوق جبال الألب، حيث "تراكم الثلج على مقدمة الطائرة وأجنحتها ومحركاتها" وراحت تتقاذفها مطبات هوائية، فيما "أغمض غسان عينيه، وقلبه علت دقاته من الخوف الرهيب، حتى لتكاد تسمعها الكواكب والسماء والأرض".

اقرأ أيضا: بشاير حبراس: مغامرة أولى لافتة في القصة القصيرة جدا

بين الطيب صالح وإدوار سعيد

تقول علوية صبح إنها غالبا ما تولّد شخصياتها الروائية من "أفكار" تجعلها كائنات تسعى وتضطرب في حياتها ومصائرها. وهي في "إفرح يا قلبي" تمزج الواقع الحي وحوادثه المتدافعة بأفكار وشخصيات روائية تستلهمها من قراءات كثيرة، وتستدخلها في سياقات السرد الروائي. فمصطفى سعيد، شخصية رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، حاضر في خلفية روايتها. لكن الهدف من حضوره هو نقض تلك "الفحولة" الذكورية الشرقية المتخيلة التي يستبطنها بطل الطيب صالح في لقائه بالنساء الأوروبيات.

أما "أفكار" إدوارد سعيد فحاضرة بدورها بوصفها "مقولات" عن "المنفى" تهتدي بها الشخصية الرئيسية في روايتها لتجاوز أفكار "الاستشراق" والهويات وتنازعها.

وفي الصفحة الأولى من "إفرح يا قلبي" تنقل علوية صبح عن إدوارد سعيد قوله: "إن الشعور بالهوية مجموعة من التيارات الجارية، أكثر منها مكانا محددا أو مجموعة ثوابت". وربما لهذا تركت بطل روايتها معلقا في الفضاء بين بيروت ونيويورك.

font change

مقالات ذات صلة