أدب المهاجرين: الهامش يجمعنا

كيف فرضوا صوتهم الخاص في أوروبا

Julien Pacaud
Julien Pacaud

أدب المهاجرين: الهامش يجمعنا

ميلانو: "تُمطر دائما في هذا البلد، ربّما لأنني أجنبي/ نسافر في الليل، متناسين أننا عُمْيٌ/ لنصل إلى أرضٍ عاريةٍ، تحتاج لصوتنا".

أراد كاظم حيدري، أحد أهم شعراء أدب المهاجرين الإيطالي، وأول أجنبي يُمنح جائزة "يوجينيو مونتالِهْ" للشعر العالمي، بندائه هذا، منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي، أن يصور المعادلة الإشكالية ما بين المهاجر والمجتمع المضيف، من ظلّ الكلمة إلى الضوء الذي يسمح لها بالتألق. فقد كانت أصوات المهاجرين، في تلك الأثناء، لا تُسمَع سوى في مصانع الدباغة وورشات البناء وحظائر الأبقار وإسطبلات الخيول (حيث كان يعمل شاعرنا)، ناهيك بأحياء الضواحي الفقيرةوالسجون، وفوق كل شيء، مزارع الحمضيات والكروم، حيث يعمل الآلاف منهم بشكل غير قانوني وبأجور لا تكاد تكفي لسدّ الرمق.

من الصعب تحديد متى يولد تيار أدبي، لكن في بعض الأحيان، تلعب الأحداث الاجتماعية والسياسية دورا حاسما في نشأة الحركات الأدبية وتطورها، كما في حالة أدب المهاجرين، الذي اقترن بجريمة قتل الشاب الجنوب أفريقي جيري ماسلو في أواخر الثمانينات (أغسطس/آب 1989)، في منطقة كازيرتا، مقاطعة كامبانيا. كان جيري قد وصل إلى إيطاليا بحثا عن حياة أفضل، وعمل مثله مثل الكثير من الشبّان الآخرين، الوافدين من المغرب العربي أو أفريقيا جنوب الصحراء، في جني الطماطم، أحد المحاصيل الرئيسة في إيطاليا لارتباطها بشكل وثيق بأطباقهم الشهيرة، كالبيتزا والمعكرونة. تعاطف الرأي العام مع هذه المأساة، ونقلت القناة الحكومية الأولى مراسم جنازته بالبث المباشر وارتفعت أصوات الاحتجاجات مندِّدة بهذا العمل الإجرامي. في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، خرجت تظاهرة كبيرة مناهضة للعنصرية في روما، وأصدرت الحكومة مرسوما في عام 1990، عُرِف في ما بعد باسم "قانون مارتيللي"، لمحاولة تسوية ظاهرة الهجرة وتنظيم شؤون المهاجرين، وبدأ الناس للمرة الأولى يدركون ماهية هذه الظاهرة وأن إيطاليا أخذت تتحول تدريجيّا من بلد مهاجرين إلى أرض للهجرة.

 كانت أصوات المهاجرين لا تُسمَع سوى في مصانع الدباغة وورشات البناء وحظائر الأبقار وإسطبلات الخيول ناهيك بأحياء الضواحي الفقيرة والسجون


صدى عميق

أعقب هذا الحادث وما دار حوله من جدال على المستويات كافّة، صدى عميق أيضا في ضمائر المهاجرين. وكان من أوائل الذين تولّوا الردّ على هذه الجريمة الطاهر بن جلون، الكاتب المغربي الذي يعيش في فرنسا، بمجموعته القصصية "حيث لا توجد الدولة"، التي كتبها بالتعاون مع الصحافي الإيطالي إيجي فولتيرّاني. ويمكن القول إن أدب المهاجرين وُلد رسميّا ما بين عامي 1990-1992 بإصدار أربعة كتب:"اسمي علي" للمغربي محمد بوشان، الذي كتبه بالتعاون مع صحافيين من ميلانو، كارلا دي جيرولامو ودانييل ميتشوني، حيث يروي بوشان قصة حياته بعيدا من وطنه وبلدته تيفلت في المغرب. تبع ذلك رواية "المهاجر" للتونسي صلاح مثناني والصحافي ماريو فورتوناتو، "أنا بائع الفيلة" للسنغالي بَبْ خوماوأوُريستِهْ بيفيتّا، وأخيرا "وعد حمادي" للسنغالي موسى سعيدو با وأليسّاندرو ميكيليتيّ. أطلق النقاد على هذه الإصدارات اسم أدب الشهادة، الذي نشأ من حاجة المثقفين المهاجرين إلى إسماع أصواتهم، والتواصل، من خلال الكتابة، مباشرة مع الجمهور الإيطالي. إنها نصوص، غالبا ما تكون سِيَرا ذاتية، تتحدث عن العنف، والاندماج، الذي لا يزال يبدو بعيد المنال، بين المهاجرين والمجتمع الإيطالي. وعلى الرغم مما حظي به هذا الأدب من اهتمام النقاد والقراء على حد سواء، والمرحلة الغنية التي مرّ بها، إلا أن جذوته سرعان ما انطفأت ولم يعد يثير اهتمام دور النشر الكبيرة، لينتقل بعد ذلك إلى صفوف دور النشر الصغيرة ذات الميول اليسارية، أو تلك التي تساند قضايا دول العالم الثالث.  

كسر النمطية

مع كل هذا، شكّل المنتج الثقافي للأجانب، أداة للتغلب على العقلية التي لا تزال تحدّد طريقة تفكير المجتمعات الأوروبية تجاه ظاهرة الهجرة ووجود المواطنين المهاجرين بينهم. فهذه الكتابات، تدعوهم بطريقة ما إلى إنعام النظر في الواقع، الذي غالبا ما تشوبه القوالب النمطية، من خلال عيون أولئك الذين يعملون في مصانعهم وبيوتهم (آلاف النساء من أوكرانيا والفيليبين اللواتي يقدّمن الرعاية للمسنّين على مدار الساعة)، وتمكنوا أيضا من الاندماج في المجتمعات الجديدة، مع أن هذا المصطلح، الاندماج، لا يزال مثار جدال كبير بين جميع الأطراف، مثلما حدث من قبل أيضا مع مصطلح "التسامح". أمام زيادة تدفق المهاجرين في السنوات الأخيرة، وصورتهم السلبية التي انتشرت بقوة في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، أصبح تغيير المنظور ضرورة ملحّة لتقديم صورة واقعية وموضوعية عن المهاجر، وكان لأدب المهاجرين باللغة الإيطالية دور مهم في هذه العملية، لأنه يعكس ماضي الإيطاليين في حاضر هؤلاء الوافدين الجدد. فليس ثمة اختلاف جوهري بين هذه الهجرات وتلك التي دفعت الإيطاليين إلى مغادرة أراضيهم إلى أوستراليا والأميركيتين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين للبحث عن حياة أفضل في مكان آخر.

أطلق النقاد على هذه الإصدارات اسم أدب الشهادة، الذي نشأ من حاجة المثقفين المهاجرين إلى إسماع أصواتهم والتواصل، من خلال الكتابة

جسر تواصل

اختار الكتّاب المهاجرون استخدام اللغة الإيطالية للتعبير عن أنفسهم، وبالتالي تحويلها إلى جسر تواصل بينهم وبين المجتمع المضيف. لذلك، ترتبط الكتابة بالحاجة إلى التواصل، بالإضافة إلى كونها نتيجة لحاجة داخلية. وهي تأخذ في الاعتبار أيضا حالات الطوارئ الخارجية، مثل العيش في بلد آخر. بينما، على سبيل المثل، في بريطانيا العظمى وفرنسا، نشأت حركات أدبية حقيقية مثل "بريطانيا السوداء Black Britain" و"أدب البوير Littérature Beur"، مع ذلك، تمثّل إيطاليا حالة خاصة في البانوراما الأوروبية. لقد تطور إنتاج أدب المهاجرين في أقل من عشرين عاما ويمكن التمييز بين ثلاث مراحل، من خلال مسار النمو الذي ينتقل من السيرة الذاتية، بوساطة المؤلفين المشاركين الآخرين، إلى اكتساب اللغة الخاصة للكتّاب، حتى من قبل كتّاب الجيل الثاني.

تشهد موضوعات المرحلة الأولى على التجربة الدرامية للمهاجرين، وصعوبات الاندماج في المجتمع الإيطالي، والحاجة الماسّة للتعبير عن وجودهم وتأكيد تقاليدهم وثقافتهم، واعتبارهم كائنات مفكّرة وليسوا مجرد عمالة، أو مواطنين من الدرجة الثانية. نتج من هذا الموقف أدب مزدوج، ليس فقط لأنه مكتوب بالتعاون مع مؤلفين مشاركين، بل أيضا لأنه يعيش حالة توازن بين الرفض والقبول، بين ثقافة الانتماء وثقافة المجتمع المضيف. فنجد أن الرغبة في الاندماج، موضوع موجود دائما في قصص الهجرة، حيث يظهر في المرحلة الأولى بوصفه حبّا غير مشروط تقريبا للأرض المضيفة، ثم يتغير الوضع بعد تجاوز الصدمة الأولى والتعرض لأول حوادث الرفض والتمييز العنصري من جانب المواطنين المحليين.

من وجهة نظر لغوية، يمكن القول إن هؤلاء الكتاب الأوائل تبنّوا اللغة الإيطالية، من خلال أشكال التأليف المشترك، وهو أمر مثير للاهتمام لأنه يؤكد بشكل أكبر الشعور بالازدواجية، والعيش في بيئة لا ينتمون إليها، وفقدان الهوية الأصلية من دون الحصول على هوية جديدة. إنه أدب عابر، مثلما سمّاه بعض النقاد، لكنها الخطوة الأولى المهمة التي بدأ من خلالها المهاجرون يكونون حاملين موارد إبداعية.

إعادة ترتيب

لكن ماذا يعني أن تكون كاتبا مهاجرا؟ تحاول الكاتبة البرازيلية المولد كريستيانا دي كالداس بريتو تحديد ما يدفع كاتبا مهاجرا إلى الكتابة، قائلة: "الكتابة لدى المهاجر تعني إعادة ترتيب حياة كان يجب أن تتدفق بين الجدران الداخلية للوطن والتي، بدلا من ذلك، عانت من مصيرها المتأرجح، وبالتالي انتقلت إلى مكان آخر. يبدأ أدب الهجرة هنا في الرواية المكتوبة عن التجارب والعواطف الموجودة في فعل الهجرة والاستقرار في بلد مختلف. يعني منح مغزى للمغادرة وفهم الوصول". مع ذلك، ترى بريتو أن "الخطر على الكتّاب المهاجرين هو أن يظلوا مقيدين بموضوع الهجرة، المرتبط بالفولكلوري أو الغريب إلى الأبد". هذا الخطر قد يحدث أيضا في الاتجاه المعاكس، أي عندما تواصل وسائل الإعلام استخدام هذه التسمية لتعريف هؤلاء الكتّاب، ومزاوجة إنتاجهم بهذا المسمى. كتبت إيجابا شيخو عن هذا الموضوع، قائلة: "ما يجعلني ورفاقي القلائل (قليلون لبعض الوقت) مختلفين جدّا عن كتّاب الجيل الأول. بادئ ذي بدء، الولادة. غالبا ما ولد كتّاب الجيل الثاني هنا في "إلبيل بايزِهْ" (البلد الجميل، أي إيطاليا)، أو إذا لم يولدوا، فقد وصلوا إلى هنا مع ذويهم في سن صغيرة جدّا (قلة من السبعينات والثمانينات كانت نتيجة للزيجات المختلطة). نحن أبناء ذلك الجيل من المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا في السبعينات والثمانينات. التحقنا بالمدارس الإيطالية، وأصبحت لدينا خلفية ثقافية إيطالية، عشنا جزءا من حياتنا في موطن إيطالي (أقول جزءا منه لأن المنزل بالنسبة إلى كاتب من الجيل الثاني ليس موطنا إيطاليّا أو أنه كذلك جزئي فقط). لذلك نحن إيطاليون من "خلال" و"عبر".

 

بلاغة الصمت

بينما يقدم الكاتب الجزائري الطاهر العمري تعريفا لافتا بهذا الصدد: "لديَّ  انطباع راسخ بأن الأدبيات المتعلقة بالهجرة في إيطاليا أو الكتّاب المهاجرين، مثلما يُطلق عليهم منذ بعض الوقت، لا تتحدث إلا عن الصمت البليغ للمهاجر، سواء أكان كاتبا أم لا. في هذا الصمت ثمة جاذبية، بلا تفاخر، سحرٌ أخّاذ، وطريقة سرّية للحديث عن أمور الحياة والحب، والغربة، والأمومة، والطفولة. عن الموت، عن الصعوبة والفرح، وفوق كل شيء قدرته على استخدام الكلمات - الإيطالية - للتعبير عن كل هذا بنوع من السلاسة التي تجعلنا نُفاجأ بحبّ كل شيء، ونغفر كل شيء عندما نجد أنفسنا نعيش في مواقف طارئة، غير ثابتة، متوازنة، تارة على قدم واحدة، وأبدا على كلتيهما، في حالة إرجاء أو تَدَلٍّ دائم. صمت خالٍ من الجدال، الذي لا يدّعي أبدا أن الصراع غاية في حد ذاته، معبرا عنه بطريقة شخصية تماما، بلغة غالبا ما تهمس، ولا تصرخ أبدا. الروح البشرية هي البطل المطلق، التي تسجل الصدمات التي يتعرض لها الفرد، ومن خلال الروح البشرية يتم أحيانا تحليل النكسات، وليس إمكانات المهاجرين، هؤلاء الذين غالبا ما يُترَكون لمصيرهم".

ثمة نقطة أخرى يتعين التوقف عندها، وهي أن الشخصيات لدى الكتّاب المهاجرين لا تزال تتلمس موضعا مخفيّا، كأنها تخشى الدخول في مجابهات يمكن أن تضع حتى لون جلدها للمساءلة، أو وجودها في حدّ ذاته. فهي كالأحلام التي تسكن الحكايات، تعذّب الرواة في تعقّبها، وتأبى أن تظهر بكامل ثوبها للقارئ. ومهما يكن الأمر، حتى عندما يتماهى الكاتب مع شخصياته في السرديات الذاتية، فهو لا يكتفي بذاته، لأن ما يقوله ويعبّر عنه هو تعبير داخلي مفتوح دائما للحوار، أي مواجهة مع التجربة الإنسانية بأشكالها كافة، والبحث المستمر عن الحقيقة، بعيدا من "قصور الذاكرة الشاسعة"، مستهدفا الحاضر المتغيّر باستمرار، من دون أن يقطع صلته بالماضي أو يقيم روابط متينة مع المستقبل عبر الكلمة بالضبط.

لا تزال ظاهرة أدب المهاجرين محل اهتمام قليل، بدءا من مناهج الدراسات الإيطالية، على الرغم من احتلالها الواضح مكانة جديدة ومهمة في سياق الخطاب الأدبي الإيطالي

تصوّر مزدوج

لذلك، نراه يبني تصورا مزدوجا للعالم الحقيقي، ويدرك في الآن نفسه أن الكتابة ليست أكثر من موقع بناء ضخم، لم يكتمل البتّة، والمدن الإيطالية لا تشبه المدن الإيطالية، والإيطاليون لا يشبهون الإيطاليين، وحتى الأجانب لا يشبهون أنفسهم. ويستوعب أيضا التأثير الأول على المجتمع الإيطالي، وهو التأثير الذي يفكّك الذاكرة، ويحظرها أحيانا، عندما يريد المرء إعادة بناء القصة الزمنية. الكاتب المهاجر، المسلّح بـ "أنا" أكثر تشتتا من بحر المحيط، يحاول، من خلال الكتابة، ألا يضيع أبدا في المجتمع الإيطالي مثل "الماء في الماء''، ويحاول التوفيق بين هذه الذكريات المتدفقة، الكثيفة كغابة استوائية، ومعطيات البيئة الجديدة. وعندما يستعيد ما هو طبيعته، يشعر بأنه أقل ارتباطا بنفسه من ارتباط الكلمة بمعانيها المحتملة واللامحدودة، وبما أن المهاجر يتلعثم عندما يبدأ في التحدّث باللغة الإيطالية، فإنه يشعر بالحاجة إلى رؤية كلماته مطبوعة، نهائية، لا تمحى، وأخيرا يشعر بفرحة الاستماع إليها، إنما يبقى لديه الانطباع بأن قول الأشياء مرة واحدة فقط لا يكفي، وبأنه يجب عليه تكرارها بطرق شتى ليتأكد من أنها وصلت إلى الطرف الآخر.

سمية عبد القادر

سمية عبد القادر، المولودة في مدينة بيروجا وسط إيطاليا، من أصول فلسطينية-أردنية وعضوة سابقة في المجلس البلدي لمدينة ميلانو، تبدأ روايتها "أرتدي الحجاب، وأحب موسيقى كوين"، بجدلية تعكس بوضوح إشكالية الهوية المزدوجة: الإيطاليات الجديدات يكبرن، ويُثِرن الجدال على الفور تجاه أولئك الذين يريدون إعادة العالم بأسره إلى قناعاتهم، إلى معرفتهم، إلى واقعهم. لا داع لأن يأتي أحد ما ليخبرني أننا نحن "الآخرون" تائهون وحائرون. حتما نحن تائهون. البلد الذي تولد وتنشأ فيه يضع أمامك آلاف العراقيل، والبلد الأصلي لأبويك يمدّك بعراقيل أخرى. باختصار، يقذفونك من جانب إلى آخر، ولا أحد يعترف بك. نحن حقّا أبناء مَن يعرف مَنْ. من ناحية، هناك الإيطاليون (أولئك الذين يتعيّن عليهم أن يكونوا مواطنيك)، الذين يسألونك الأسئلة المعتادة والعقيمة إلى حدٍّ ما، مثل ما إذا كان لديك شعر تحت الحجاب، كيف تمارسين الجنس مرتدية هذه الثياب وغيرها من السخافات المماثلة. أشياء تجعلك مذهولة. من ناحية أخرى، هناك الأقارب، أو العرب بشكل عام، الذين يضايقونك لأنك "غربية أكثر من اللزوم". أتذكر عندما سألني أحد أعمامي الأربعة عشر: "هل لاحظتِ أنكِ أصبحت مثلهم؟". مثلَ مَنْ؟ ثم أدركت ما يقصده. آه، نعم، هم ... يا عمي العزيز، لو تعلم أنهم، في المقابل، يتهمونني بأنني مثلكم! [...]

 

اختراق

اختراق اللغة الإيطالية والتكيّف معها، يرجع أيضا إلى حقيقة أن إيطاليا والإيطالية، على عكس ما حدث، على سبيل المثل، في دول مثل فرنسا أو بريطانيا العظمى، لم تتأثر بثقل ماضٍ استعماري ومن لغة رسمية وأدبية فرضها المستعمرون السابقون، لكنها على العكس من ذلك، شجعت المواجهة مع ثقافة ولغة جديدتين تم استكشافهما وتعلمهما عن قصد من قبل هؤلاء الكتّاب، وأحيانا شعروا بعمق أنها لغتهم. يصف طاهر العمري هذا الاختيار بجلاء تام: "لا يمكنك أن تشرح بطريقة أخرى اختيار اللغة الإيطالية لتروي ما تريده بصوت عالٍ وبثقة كبيرة، ما يكتبه المرء وما يودعه بين صفحات يومياته يكون عادة لنفسه، لأن الكتابة، على سبيل المثل باللغة الفرنسية، لغة قوة استعمارية سابقة، تعني أن يقرأها الكثير من الناس في فرنسا وخارج فرنسا، وربما تثير الجدال أو يتم الطعن بها وإدانتها من قبل مواطنيك، بينما الكتابة باللغة الإيطالية، حتى إذا كان هذا لا يتوافق مع الحقيقة، فهذا يعني أن يكتب المرء لنفسه، أي في المقام الأول لحلقة من الأصدقاء أو حتى لجذب انتباه حبيبته، التي ربما تكون إيطالية".

لعل ما كتبته باولا إلّيرو، الخبيرة في التدريب على القضايا بين الثقافات في جامعة بادوفا، في دراسة شاملة عن أدب المهاجرين في إيطاليا، تختصر، من وجهة نظر الطرف الآخر، النقاش الذي لا يزال قائما حول الظاهرة: "لا بد من القول إنه في إيطاليا، على عكس دول ما وراء البحار، لا تزال ظاهرة أدب المهاجرين محل اهتمام قليل، بدءا من مناهج الدراسات الإيطالية، على الرغم من احتلالها الواضح مكانة جديدة ومهمة في سياق الخطاب الأدبي الإيطالي. ماذا يمكن أن تكون عليه الأسباب؟ يصعب تحديد ذلك. ربما يكمن السبب في عادة التفكير في الثقافة على أنها شيء "خاص بنا"، والتي يجب أن يلتزمها الآخرون، خصوصا إذا كانوا ينتمون إلى عوالم ثقافية أخرى، لكي يصبحوا جزءا من مجتمع معين، والدليل على ذلك أن هذا الموضوع أصبح محطّ دراسات لا تتعلق مباشرة بالأدب: علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، علم أصول التدريس بين الثقافات. وليس من قبيل المصادفة أن أحد أكبر المهتمين بهذه الظاهرة، البروفسور الراحل أرماندو نييشي، كان مدرّسا للأدب المقارن في جامعة لا سابيينزا في روما. بل بالعكس، هذه الظاهرة، كما يشهد البروفسور نييشي نفسه،تمت دراستها كثيرا في الخارج، في الولايات المتحدة الأميركية وكندا وحتى في أوستراليا، وغالبا ما يتطلع أبناء أو أحفاد المهاجرين الإيطاليين إلى أدب المهاجرين الإيطاليين، وإلى الأجانب الذين يستخدمون اللغة الإيطالية كلغة كتابة، كنوع من مرآة لما حدث لآبائهم وأجدادهم".

font change

مقالات ذات صلة