الصفّارة: كوميديا السفر إلى الحاضر

أحمد أمين يؤدي 11 شخصية

بوستر مسلسل الصفارة

الصفّارة: كوميديا السفر إلى الحاضر

شكّل إغواء فكرة القدرة على الرجوع بالزمن وتغيير أحداثه والتحكم بالمصائر، مصدرا لكثير من الأفلام والمسلسلات التي ذهب بعضها إلى تقديم أطروحات فلسفية وفكرية، في حين وظفها البعض الآخر في سياقات كوميدية. لا يتبع "الصفارة" المنطق المألوف في معالجة تلك الثيمة، بل يوظف احتمالاتها في إطار جديد يربطها بالتحولات الاجتماعية وعناصر صناعة المكانة، وما تفترضه من خروج من الذات وحقيقتها والسكن في قوالب شخصيات تتناقض معها.

المسلسل من بطولة أحمد أمين، طه دسوقي، وآية سماحة، إخراج علاء إسماعيل. السيناريو جاء خلاصة لورشة كتابة شارك فيها كل من سارة هجرس، وعبد الرحمن جاويش، وشريف عبد الفتاح، وأشرف عليها أحمد أمين ومحمود عزت، إنتاج شركة "ميديا هوب". يعرض لقصة المرشد السياحي شفيق كمال الذي يخترع تطبيقا سياحيا على الإنترنت يسميه "سواح"، يجعل القطع الأثرية تتحدت عن نفسها أمام الزوار.

كان ينتظر أن يتيح له النجاح المضمون لهذا الاختراع الانتقال إلى حياة جديدة، يحقق فيها كل أحلامه، لكن زميله ومنافسه علاء (يلعب دوره الممثل حاتم صلاح)، يسجنه في الحمام في حفل إطلاق التطبيق ويقدمه بدلا منه ويحصل على المنصب الذي كان يتلهف للحصول عليه.

اقرأ أيضا: الدراما السعودية والخليجية: روح الشباب والعصرنة

يعتبر شفيق أن حياته سرقت منه. يغرق في دوامة من اليأس قبل أن يستغل معرفته بالتاريخ الفرعوني وينجح في الحصول على صفّارة تتيح له العودة في الزمن لثلاث دقائق فقط لا يمكنه تغييرها بعد اختيارها، وستكون الحياة التي يعيشها نتيجة لما اختار تغييره.

 تصوير ما هو غير مألوف وغريب على الرغم من شيوعه وانتشاره يولد جرعات متتالية من كوميديا الموقف التي تصور شخصيات تعرضت للمسخ، وتعرض محاولات التأقلم مع هذه الحالة بوصفها تركيبة النجاح والسعادة

ألفة وغرابة

 أغنية البداية التي كتب كلماتها تامر حسين ولحنها عزيز الشافعي وغناها هشام عباس بمشاركة من أحمد أمين، تدخل المشاهد مباشرة في جو من الألفة والغرابة. فكلماتها تبدو محاكاة ساخرة لكلمات الأغاني العربية الكلاسيكية ممزوجة مع كلمات أغاني "المهرجانات" وصولا إلى انعدام الكلام والاكتفاء بالمواء والعواء. تتضمن خلطة الأغنية مقادير مستلة من وحي كلمات أغاني سيد مكاوي، وأحمد عدوية، ومطربي المهرجانات، والمواويل، وحفلات الزار وطرد الأرواح وقد وضعت جميعها في الخلاّط فخرج ذلك  المزيج الغرائبي الذي يختصر في اجتماعه مع الغرافيكس المبني على الكاريكاتور والكوميكس، المنطق الدلالي الذي يبنى عليه العمل ككل لناحية اعتماده المبالغة الساخرة التي تنطلق من الواقع وتبقى مشدودة إليه.

الانسجام بين فريق التمثيل بإدارة المخرج علاء إسماعيل كان واضحا وملحوظا. واستمر بالوتيرة نفسها على امتداد حلقات المسلسل الخمس عشرة. قدم كل من طه دسوقي وآية سماحة وحاتم صلاح أدوارهم ببراعة لافتة نجحت في أن تجعل العمل جماعيا على الرغم من الحضور الطاغي لأحمد أمين.

تحولات الشخصيات وغزارتها في انتقالات شفيق العديدة تجبر الشخصيات الأخرى على اللحاق بها. يمكن رصد التواصل المستمر لجودة أداء كل الممثلين بوصفه أحد معالم خصوصية هذا المسلسل، التي جعلته غير قابل للتعامل معه إلا كقطعة واحدة موحدة لا انقطاعات فيها ولا تفاوت في المستوى.

أحمد أمين بشخصية شفيق 

كان لافتا الحضور المحبب للنجمة إنعام سالوسة بأدائها السلس في دور الوالدة، الذي يتواطأ مع ذاكرة المشاهد ويمهد لتلقي الجديد. الأمر نفسه ينطبق على حضور الممثل محمد البزاوي في دور الوالد.

تصوير ما هو غير مألوف وغريب على الرغم من شيوعه وانتشاره يولد جرعات متتالية من كوميديا الموقف التي تصور شخصيات تعرضت للمسخ، وتعرض محاولات التأقلم مع هذه الحالة بوصفها تركيبة النجاح والسعادة. ولا يني المسلسل يكثف جرعات السخرية الناتجة من الاشتباك الحاد بين عملية المسخ وحقيقتها وبين تلقي الشخصيات لها.

"شفيق" الذي يعيش أزمة منتصف العمر

تتكرر صيحة وجيه (يلعب دوره الممثل طه دسوقي)، شقيق شفيق المتحول إلى نجم "مهرجانات"، التي يعلن فيها "أنا سعيد أوي بحياتي دي أقسم بالله" في اللحظة التي تتجلى فيه الحياة التي يعيشها مفتقدة كل عناصر التماسك والانسجام.

خلافا للنجم الراحل سمير غانم، لا يقدّم أمين كوميديا مكتفية بنفسها بل يصر على الدفاع عن ارتباطها بالمجال الاجتماعي، وبذلك لا تبقى أسيرة الرغبة في الإضحاك بل تحوّل الضحك إلى نوع من القراءة الناقدة لأحوال المجتمع والثقافة السائدة فيه

شخصيات وأداءات ولغات

جسد أحمد أمين على مدار حلقات المسلسل 11 شخصية، هي موظف في شركة سياحية، مرشد سياحي، رئيس مجلس إدارة شركة، مغني مهرجانات، أب لثلاثة أبناء، بلطجي، يائس يحيا أزمة منتصف العمر، نزيل مستشفى أمراض عصبية، الرجل السلبي، الثري المريض الموشك على الموت، والسجين الذي يكتشف أن أخاه تاجر آثار.

يستحضر أحمد أمين لكل شخصية منطقا أدائيا خاصا بها وبحركاتها ولغتها والنظام الاجتماعي الذي تعبر عنه والذي يتم توصيفه والسخرية منه عبر تكرار صيغة انغلاق تام يظهر على الدوام ويفجر الأمور، سواء أكانت الشخصية تمثل حياة مشتهاة سرعان ما يتجلى ارتباطها بسلاسل لا تنتهي من الارتباطات والممنوعات والتي تخرجها من كونها حياة في الأساس، أم كانت منذ بدايتها مأزقا يستوجب التخلص منه.

موظف بشركة سياحية

غزارة الشخصيات أضاءت على القدرات التمثيلية الاستثنائية لأحمد أمين الذي نجح في أن يكون نجما استعراضيا شاملا. شاهدناه يغني ويرقص ويسكن في ثوب شخصية رئيس مجلس الإدارة المفرط في البدانة قبل أن ينتقل الى حيز البلطجي ومغني المهرجانات وغيرها.

الاستعراض والنقد الاجتماعي

ربما لا تحضر في الذهن في حال عدنا إلى تاريخ التمثيل في مصر، شخصية قريبة من أمين غير سمير غانم الذي كان قادرا على تقديم استعراض يتطلب توفر مجموعة كبيرة من القدرات والإمكانات الفنية. الفرق بين غانم وأمين أن الأول اتبع سياقا محددا يرتبط بالكوميديا التي تتحرك في مجال استجلاب الضحاك بغض النظر عن الموضوع، أي أنها كانت تتخفف من الإحالات والأهداف وتكتفي بنفسها والحالة التي تتحرك فيها.

أمين الذي يمتلك قدرات فنية واسعة تجعله قادرا على تقديم فقرات غنائية استعراضية محاكية للفيديو كليبات الشائعة وحفلات مغني المهرجانات وحركات البلطجية وغيرهم، اختار في "الصفارة" مسارا مختلفا دفع فيه بتجربته الواسعة التي تضم الكوميديا والرعب والأداء الحي والدراما، إلى ربط الأحداث والمواقف المثيرة للضحك بالسياقات الاجتماعية وإنطاقها وتحريكها من داخلها حيث يمكن تحديدها وتوصيفها انطلاقا من خصوصية المجال الذي تتناوله.

خلافا للنجم الراحل سمير غانم، لا يقدّم أمين كوميديا مكتفية بنفسها بل يصر على الدفاع عن ارتباطها بالمجال الاجتماعي، وبذلك لا تبقى أسيرة الرغبة في الإضحاك بل تحوّل الضحك إلى نوع من القراءة الناقدة لأحوال المجتمع والثقافة السائدة فيه.

 هكذا تضيء حركة جسد شخصية مدير الشركة المتثاقل على ثقل حياة انتقل إليها شفيق معتقدا أنه وجد حياته المسروقة، لكنه يفاجأ بأنه محاصر على الدوام بالممنوعات التي تشمل كل ما يجعل الحياة مبهجة وسعيدة، من الطعام إلى الحب والاحترام والرفقة. يجد نفسه سجين ما اعتقده حلما متحققا، يحيا في ثقل الحياة وثقل الجسد والمسؤوليات ومتطلبات الإدارة والسلطة التي تفرض عليه أن يكون بلا قلب وبلا مشاعر.

في شخصية البلطجي تتكثف طبقة السخرية لأنها ولدت انطلاقا من مصادفة ومفارقة عبثية جرت مع دخول شفيق وأخيه وجيه إلى السجن. تحصل مشادة بين شفيق وأحد السجناء العتاة الذي يضرب شفيق ويخر ميتا في اللحظة نفسها. يعتقد الجميع أنه قتله بالهيبة والرعب، فيتم تسليمه لواء القيادة وتكريسه بلطجيا رفيع المستوى.

"شفيق" عازف الكيبورد ومغني المهرجانات الشهير

في شخصية مغني المهرجانات يقدم أمين أداء حيا واستعراضيا لأغنية تحاكي أغاني "المهرجانات" تسمى "القرشين" كما تسود لازمة "في الكذا منو" لتوصيف طريقة كلام نجوم "المهرجانات" فيصبح كل شيء مقيما في هذه الحالة التي تعبر عن الانفصال عن الناس والمجتمع والإقامة في السحاب. وتتسم المحاكاة بدقة عالية. فلو سحبت الأغنية من سياق المسلسل يمكن أن تعد فعلا أغنية مهرجانات، وكذلك الأمر بالنسبة الى قصيدة "الفتة" التي يقدمها علاء خصم شفيق الأساسي الذي قرر التحول إلى شاعر شعبي والتي تقول كلماتها:

الدنيا اتغيرت يمة 

ما بقتش الفتة فيها الخير

كانت الفتة باللحمة

طالها ما طالها من التغيير

الفتة فتة مهما نقول

مهيش فارقة جديد وقديم

كفاية خلط للمفاهيم.

 

 "علمتني الصفارة أن الحل ليس في الندم ولا في الاستسلام لما وصلت إليه حياتك.علمتني أن الماضي نتعلم منه ولا نغيره، وأن أعظم سفر في الزمن ليس إلى الماضي ولا إلى المستقبل. أعظم سفر في الزمن هو إلى الحاضر الذي بين يديك"

أحمد أمين

السفر إلى الحاضر

بعد كل التقلبات عبر مجموعة مختلفة ومتنوعة من الشخصيات يجد شفيق نفسه في حاضر يصنعه بنفسه ويرضى به، ويحصل على الراحة والأمان. يفتتح محلا لبيع الألعاب في منطقة الهرم، ويظهر منسجما مع نفسه ومع مصيره ويكتشف أن كل ما كان يصبو إليه في رحلاته عبر الزمن التي كان يسعى من خلالها إلى الإمساك بمصيره، تأتي إليه بنفسها ومباشرة وبشكل تلقائي.

يحصل على الإعجاب والاحترام والتقدير، ويتلقى إشارات الحب والتعاطف من كل حدب وصوب. ويتمكن أخيرا من أن يرتدي ملامحه ووجهه وأن يستقر في صفاته وأن يعثر على شخصيته وحقيقته.

مرشد سياحي

على عكس مفهوم القبول والتسليم الذي يحيل على نوع من القدرية السلبية يتحرك مغزى المسلسل في دائرة تأثير الفراشة الذي كان قد أطلقه عالم الرياضيات الأميركي إدوارد لورينتز عام 1963 لوصف التغييرات الكبرى التي يمكن أن تحصل نتيجة فعل صغير يمكن أن يراكم تأثيرات عميقة تصنع شكلا جديدا للحياة.

اقرأ أيضا: الدراما وذاكرتنا التاريخية

تردّ هذه النظرية المصير إلى الأفعال التي يختارها المرء ويواظب عليها وتربط شكل الحياة بالمسؤولية وتعتبرها نتاجا حتميا لأفعالنا وقراراتنا. ما يحضر في مستقبلنا وما يشكل حياتنا ليس سوى تجلّ لما نصنعه في الحاضر.

الحاضر هو الكتلة الصلبة التي يقف عليها مصيرنا، هو الأرض الثابتة التي نستطيع امتلاكها وإدارتها. لا نملك القدرة على إدارة ماضينا ولا مستقبلنا، لكن اشتغالنا على الحاضر يمنع الماضي من العبور والتأثير السلبي وتحوله إلى ذاكرة وإلى تاريخ وكذلك يؤسس لبناء مستقبل لا ينبني على عناصر المصادفة والعشوائية.

النجم أحمد أمين يعرض لتجربته في "الصفارة" في منشور عبر صفحته على "فايسبوك" جاء فيه: "علمتني الصفارة أن الحل ليس في الندم ولا في الاستسلام لما وصلت إليه حياتك.علمتني أن الماضي نتعلم منه ولا نغيره، وأن أعظم سفر في الزمن ليس إلى الماضي ولا إلى المستقبل. أعظم سفر في الزمن هو إلى الحاضر الذي بين يديك".

font change

مقالات ذات صلة