القومية والشعبوية تجتاحان العالم... تركيا ليست استثناء

كيف يسهم خطاب الكراهية في صنع السياسات

القومية والشعبوية تجتاحان العالم... تركيا ليست استثناء

بيروت: تنطلق جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية التركية في ظل تركيز واضح على توجهات وخيارات التيار القومي المحافظ التي أثبتت نتائج الجولة الأولى من هذه الانتخابات أنه اللاعب الأبرز، وأنه هو من سيحسم هوية الرئيس التركي. وهذا ما دفع بمرشح ائتلاف المعارضة كمال كليشدارأوغلو الى القيام بتحول استراتيجي في خطابه السياسي في الأسبوعين الفاصلين ما بين الجولتين، حيث عمل على مغازلة الشعور القومي بهدف اجتذاب الكتلة التصويتية المحافظة من أجل تحقيق الفوز على منافسه الرئيس المنتهية ولايته رجب طيب أردوغان الذي لم تغب المشاعر القومية عن خطابه السياسي. لكنه على الدوام كان يضفي عليها طابعا إسلاميا نابع من جذوره الفكرية والثقافية.

والحال أن الفكر القومي المحافظ، بالإضافة الى الشعبوية، وخطاب الكراهية، والناخبين الجدد من الشباب، وشبكات التواصل الاجتماعي، هي أبرز العوامل التي لعبت دورا لافتا في الانتخابات التركية البرلمانية والرئاسية. وهذه العوامل نفسها تلعب دورا كبيرا في تحديد مسار الانتخابات، ورسم معالم السلطة وتوجهاتها وسياساتها في الكثير من دول العالم في السنوات الأخيرة.

النزعة القومية المحافظة

لا بد من الإشارة أولا الى أن التيار القومي المحافظ ممثل بأكثر من حزب على الساحة السياسية في تركيا، نظرا لكون الشعب التركي يتميز بطابع محافظ بغالبيته. أبرزها حزب "الحركة القومية"، الذي يعبر اسمه عن توجهاته، والذي يشكل مع حزب "العدالة والتنمية" الحاكم تحالف "الشعب" أو "الجمهور". ويضم هذا التحالف أيضا ثلاثة أحزاب قومية صغيرة: حزب "الاتحاد الكبير" الذي انشق بالأساس عن الحركة القومية. وحزب "الوحدة الكبرى"، والذي يشير اسمه الى توجهه القومي المحافظ. وحزب "الدعوة الحرة" أو "الهدى بار"، وهو حزب قومي إسلامي محافظ، كردي الهوية.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

ومن بعد "الحركة القومية" يأتي "الحزب الجيّد" الذي انشق عنه، والذي يعد ركنا بارزا من أركان تحالف "الأمة" المعارض أو "الطاولة السداسية". وهذه الطاولة تضم أيضا الحزب "الديموقراطي"، وهو حزب قومي يميني محافظ أسسه الرئيس التركي الراحل وأحد أبرز الوجوه السياسية في تركيا لأكثر من ثلاثة عقود سليمان ديميريل. وكذلك الأحزاب الثلاثة: "المستقبل"، "الديموقراطية والتقدم"، و"السعادة"، وجميعها أحزاب ذات هوية إسلامية قومية محافظة.

الفكر القومي المحافظ، بالإضافة الى الشعبوية، وخطاب الكراهية، والناخبين الجدد من الشباب، وشبكات التواصل الاجتماعي، هي أبرز العوامل التي لعبت دورا لافتا في الانتخابات التركية البرلمانية والرئاسية


ولدينا أيضا حزب "الشعوب الديموقراطي"، وهو حزب قومي كردي محافظ، وحزب "البلد" الذي أسسه منافس الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الانتخابات الماضية محرّم إنجه، الذي انشق بدوره عن حزب "الشعب الجمهوري". وكذلك تحالف "أتا" أو "الأجداد"، والذي يضم عدة أحزاب قومية صغيرة شديدة التطرف: حزب "النصر"، حزب "العدالة"، حزب "بلدي"، وحزب "التحالف".

وقد استطاع مرشح هذا التحالف سنان أوغان أن يخطف الأضواء في الانتخابات الرئاسية، بعد حصوله على ما يزيد عن 5% بقليل، لأهمية الرصيد الذي ناله في جولة الإعادة بين الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان، ومنافسه كمال كليشدارأوغلو مرشح الطاولة السداسية المعارضة. وهذا ما حوله الى نجم إعلامي، بعدما اشتكى من إهمال الإعلام له، وتغييبه بشكل شبه كامل قبل انطلاق العملية الانتخابية. ذلك على الرغم من فشل التحالف المتطرف في تجاوز العتبة الانتخابية البرلمانية. من دون إغفال أن حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، ورغم هويته الإسلامية، إلا أنه يضم تيارات قومية محافظة. في حين أن حزب "الشعب الجمهوري"، الحزب الثاني في تركيا وأعرق حزب فيها، هو مهد القومية. فهو الحزب الذي يحمل إرث مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وكان على الدوام حاضنة القوميين الأتراك، لكنه غلف هذه النزعة القومية بعلمانية شديدة التطرف جاعلا منها دينا موازيا للدين الإسلامي، وهوية لاغية لأي تنوع إثني أو عرقي أو ديموغرافي.

كل ذلك يعكس مدى قوة وحضور الفكر القومي المحافظ لدى الشعب التركي. لكن، ينبغي التفريق بين القومية الثقافية والفكرية، وبين القومية ذات الطابع العنصري. وأغلب الأحزاب التركية تعبر بشكل أو بآخر عن القومية الثقافية والفكرية، إنما بأيديولوجيات مختلفة ومتباينة. بما فيها الأحزاب التي تمثل التيارات الإسلامية، وفي طليعتها حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، والذي يعرف عن نفسه أساسا أنه حزب محافظ. فهناك قومية محافظة علمانية، وقومية محافظة إسلامية، وقومية محافظة متطرفة.

ملصق انتخابي للمرشح في وجه أردوغان كمال كليشدار أوغلو، شارع الإستقلال، إسطنبول في 26 مايو/ أيار 2023

وتهدف هذه الأفكار والأيديولوجيات الى الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة التركية. وهذا هو مركز الخلاف بين الأحزاب التركية، بين من يجد ذلك في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي والتحالف مع أميركا، ومن يعتبر الانكفاء الى الداخل الحل الأمثل. وبين من يرى أن الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز هي الامتداد الطبيعي للإرث التركي الإسلامي. وقسم آخر يرنو الى دول العالم التركي والتكتل الأوراسي.

 

بين القومية المحافظة والعنصرية

أما القومية العنصرية فيمثلها مرشح تحالف الأجداد سنان أوغان، الذي كان عضوا في حزب "الحركة القومية"، وانتخب نائبا عن المحافظة الوحيدة التي فاز فيها في الانتخابات البرلمانية عام 2011. لكنه أقصي من الحزب مرتين، آخرها كانت عام 2017 لتصويته بـ"لا" في الاستفتاء على التعديل الدستوري الذي حول النظام في البلاد الى رئاسي، وذلك بعكس توجهات حزبه. وهذه القومية هي الأشد خطرا، وتعتبر امتدادا للتيارات القومية اليمينية المتطرفة التي تغزو الأوساط الثقافية والنخبوية الأوروبية أخيرا.

أغلب الأحزاب التركية تعبر بشكل أو بآخر عن القومية الثقافية والفكرية، إنما بأيديولوجيات مختلفة ومتباينة. بما فيها الأحزاب التي تمثل التيارات الإسلامية، وفي طليعتها حزب "العدالة والتنمية" الحاكم


ومع أن الرصيد الذي ناله أوغان هو مزيج من يمين قومي عنصري، ويمين قومي محافظ، في ظل التصويت العقابي الذي قامت به بعض الشرائح الناخبة القومية المحافظة اعتراضا على سياسات حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في قضية اللاجئين السوريين من جهة، وقيام "تحالف الأمة" بالاتفاق مع حزب "الشعوب الديموقراطي" الكردي من جهة أخرى، إلا أنه ثمة شرائح واسعة منهم صوتت للتحالف الحاكم بالدرجة الأولى، والتحالف المعارض بدرجة أقل.

والملاحظ أن خطاب حزب "العدالة والتنمية" وسياساته شهدا تحولات بارزة منذ عام 2015، حيث برزت فيهما نزعة قومية، سعى من خلالها الى اجتذاب الناخبين المحافظين، وذلك نتيجة تلمسه مدى تطور ظاهرة القومية المتطرفة، وتأثيرها في الشرائح الناخبة في الانتخابات البرلمانية التي جرت ذاك العام، والتي خسر فيها الأكثرية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا. وهذا ما دفع بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان الى الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة بعد أشهر قليلة، عمل فيها حزبه على إحداث تغييرات في خطابه وتوجهاته. واللافت أيضا أن نمو المشاعر القومية المحافظة والمتطرفة لدى الناخبين الأتراك كان السبب الرئيس في انهيار عملية التسوية في العام نفسه بين حزب "العدالة والتنمية" وحزب "العمال" الكردي، والتي كانت تهدف الى وضع حد للصراع الدموي بين الأخير والدولة التركية، وإتاحة المجال أمام عملية اندماج فعلية وحقيقة للمكون الكردي.

ولعل الدلالة الأوضح على مدى تأثير الفكر القومي المحافظ تتمثل بتنافس تحالف "الشعب" الحاكم وتحالف "الأمة" المعارض على اجتذاب أبناء ألب أرسلان توركش، مؤسس حزب "الحركة القومية" اليميني المحافظ في تركيا عام 1969، حيث قام الأول بترشيح نجله الذي يحمل اسم طغرل تيمنا باسم مؤسس الدولة السلجوقية، على قوائم حزب العدالة والتنمية الحاكم، وذلك للمرة الثانية، كما سبق أن عينه نائبا لرئيس مجلس الوزراء بين 2015-2017. في حين قام الثاني بترشيح ابنته على قوائم حزب "الجيد" القومي، ونجح كلاهما في الفوز، ليدخل الشقيقان البرلمان الجديد إنما على طرفي نقيض.

وقد أجمعت آراء العديد من المحللين والصحافيين الأتراك على تأثير الفكر القومي المحافظ في تصويت الناخبين. هذه النزعة القومية وإن كانت حاضرة على الدوام في تركيا، إلا أن البعض منهم اعتبر أن إحدى أبرز مفاجآت الانتخابات الحالية تتمثل في تأثيرها الواسع على نتائجها. وهو ما أجج النزعة القومية في الخطاب السياسي والحملات الانتخابية لكلا المرشحين رجب طيب إردوغان وكمال كليشدارأوغلو في إطار التنافس لاجتذاب جمهور المحافظين ولا سيما الـ5.17 % الذين صوتوا لسنان أوغان.

والحال أن القومية المحافظة تنامت في السنوات الأخيرة، وتصاعد حضورها في الميدان السياسي، وصارت ظاهرة عالمية ذات تأثير واضح لا يمكن تجاوزه. وهذه الظاهرة نجدها في تيار "الترامبية" في أميركا، وفي إيطاليا التي وصل الى السلطة فيها ائتلاف حزبي ذو نزعة عنصرية، ويوصف بـ"الفاشية الجديدة". وكذلك في ألمانيا والمجر والسويد وغيرها، مع حضور قوي للأحزاب السياسية التي تعبر عن هذه الأفكار في فرنسا وهولندا والدانمارك وعدد من الدول الأوروبية. وغير بعيد عنها دول أخرى، مثل روسيا التي تشكل حربها على أوكرانيا تطبيقا عمليا لنظريات وأيديولوجيات قومية روسية محافظة تعمل على إحياء الإرث الروسي القيصري. وأيضا اليونان، الجار اللدود لتركيا، والتي تستعد لجولة انتخابات برلمانية ثانية في 25 يونيو/ حزيران، بعدما أفضت الانتخابات في 21 مايو/ أيار الى عدم حيازة أي من الأحزاب الثلاثة المتنافسة الأكثرية المطلوبة لتشكيل حكومة بشكل منفرد، ورفضها تكوين تحالف حكومي. لكن نتائج الجولة الأولى منحت الفوز لحزب الديموقراطية الجديدة الحاكم، وهو حزب قومي محافظ، فيما مثل مفاجأة خالفت استطلاعات الرأي، وذلك على حساب تحالف "سيريزا" اليساري – القومي. وكلمة "سيريزا" بحد ذاتها تعني "نحو الجذور". وفي دلالة تعكس مدى تنامي الشعور القومي، أشارت بعض الصحف اليونانية الى أن الفوز بفارق عشرين نقطة بين الحزبين المتنافسين هو الأكبر منذ عودة الديموقراطية الى اليونان عام 1974.

 

القومية وخطاب الكراهية

تنامي حضور الفكر القومي بشقيه المحافظ والمتطرف كان المدخل الأساس في إنتاج ما بات يعرف عالميا بـ"خطاب الكراهية"، الموجه ضد الآخر الذي يتمثل بصورة أساسية في الغرباء واللاجئين. هذا الخطاب يعبر عنه بشكل صريح ومباشر سنان أوغان، الذي يطالب بطرد اللاجئين الذين تستضيفهم تركيا تحت بند "الحماية المؤقتة" وخاصة السوريين، الذين توعد بإعادتهم الى بلدهم "قسرا إذا اضطر الأمر". كما أنه يرفض أي شكل من أشكال التعاون مع ما يصفها بـ"المنظمة الإرهابية" أي حزب "العمال" الكردستاني، وممثله السياسي حزب "الشعوب الديموقراطي". وبشكل أقل منه وأكثر لياقة حزب "الشعوب الجمهوري"، أكبر أحزاب تحالف المعارضة، الذي يضغط منذ سنوات على  حكومات "العدالة والتنمية" لمصالحة الرئيس السوري بشار الأسد، والتنسيق معه لإعادة اللاجئين السوريين. وهذان الخطابان يعكسان مدى تفشي الكراهية ضد اللاجئين في المجتمع التركي، واعتبارهم عبئا اقتصاديا ثقيلا، ولا سيما في ظل اشتداد حدة الأزمة الاقتصادية في تركيا، وتفاقم معدلات التضخم، وتراجع سعر صرف العملة المحلية.

رئيس وزراء إسبانيا يخطب بأنصار قبيل الانتخابات البرلمانية والبلدية في 28 مايو/ أيار

وكان خطاب الكراهية قد برز كرد فعل على تدفق اللاجئين وضحايا الحروب الى القارة الأوروبية، وبشكل أساسي الأفارقة الهاربين من جحيم الفقر وشلالات الدم المنبعثة من الانقلابات العسكرية المتوالية، وكذلك العرب وبالذات السوريين الذي فروا من نظام الأسد والجماعات المتطرفة. ومع أن الأمم المتحدة تقود جهودا حثيثة لمكافحة خطاب الكراهية، الذي يشكل الوجه الآخر لنمو الأفكار القومية المتطرفة، إلا أنها لم تتمكن من تسجيل نجاح يذكر. ويعود ذلك الى قوة انتشار هذه الأفكار في الأوساط الشبابية خاصة. لا شك أن الفكر القومي حاضر على الدوام لدى هذه الفئة، لكنها في السابق كانت تفتقر الى الوسائل التي تستطيع من خلالها التعبير عن أفكارها، وتسويقها في المجتمع.

بيد أن التطور التكنولوجي وسرعة تداول المعلومات، وتحول منصات وشبكات التواصل الاجتماعي الى إعلام بديل شديد السرعة والتأثير، أتاحا انتشار ظاهرة التطرف أو خطاب الكراهية بشكل واسع. يكفي أن يقوم شاب بوضع صور تظهر انتشار اللاجئين، أو أن يستغل شخص أنماط السلوك لبعض اللاجئين الجدد التي تعكس عدم اندماجهم مع المجتمع الذي وفدوا اليه بصور ينشرها على منصات التواصل توثق ذلك. ثم يذيل الصور بنص صغير مرتجل يحذر فيه من انهيار القيم المجتمعية التي يسعى المجتمع إلى الحفاظ عليها، واندثار الأمة بأسرها، كي يشعل ذلك مزادا من الكراهية في التعليقات. وبمرور الوقت يتوسع انتشار مثل هذه النصوص والآراء والتعليقات عليها، لتلعب دورا محوريا في تكوين رأي عام مؤيد لهذه الأفكار المتطرفة، يتحول بعد ذلك الى شبكة ضغط على الحكومات والأحزاب السياسية. وهذا ما منح فرصة ذهبية لكل الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كانت قبل ذلك قد ضعفت كثيرا وأوشكت على التحلل، وأعاد بث الروح فيها من جديد. كما أنه أجبر أحزاب اليمين المحافظ، أو يمين الوسط على تبني خطاب أكثر تشددا يلامس روح الكراهية بمصطلحاته، بهدف اجتذاب أصوات الناخبين، ومنعا لتسرب الشرائح الناخبة المحافظة نحو الأحزاب الأكثر يمينية وتشددا.

 

ثنائية الكراهية - الشعبوية

ولأن خطاب الكراهية لا يشكل وحده عاملا انتخابيا حاسما، نظرا لكونه يطرح المشكلة إنما من دون حلول، لجأ السياسيون والأحزاب الى استخدام "الشعبوية"، أي المزايدة على بعضهم البعض، كأداة سياسية تلعب دورا بارزا في التلاعب بعقول الناخبين وخياراتهم. والشعبوية تعد واحدة من أسوأ الظواهر السياسية الحديثة، ذلك أنها ترتكز على خطاب عاطفي يميل الى استغلال حماسة الجماهير من أجل أن يتطابق مع الفكر أو المزاج السائد، لكنه يفتقر الى الواقعية والتعامل الجدي مع المشاكل والأزمات التي يصوغ لها حلولا وردية غير قابلة للتنفيذ الفعلي.

لاجئة سورية في أحد أحياء أضنة (أ ف ب)

وهذا ما يمكننا أن نرى تأثيره بوضوح في الانتخابات التركية، من خلال تبني المرشح القومي المتطرف سنان أوغان لطرد اللاجئين كحل لأزمة اللجوء السوري، من دون الأخذ بعين الاعتبار عدم إمكانية تطبيق هذا الحل. فحكومة نظام الأسد غير راغبة في عودتهم من دون اقتران ذلك بأموال من الدول والجهات المانحة، وتستطيع بسهولة إقفال حدودها مع تركيا لمنع عودة اللاجئين. علاوة على أن اقتياد عدة ملايين ووضعهم على الحدود هو عمل يصعب تطبيقه عمليا، كما أنه يعرض تركيا لعقوبات دولية لانتهاكها حقوق الإنسان، ويوتر علاقاتها مع الكثير من الدول. بيد أن أوغان وتحالف "الأجداد" المتطرف الذي يمثله، عمدا الى استغلال المزاج الشعبي المتكدر من اللاجئين لاجتذاب الاصوات وتحصيل رصيد سياسي. وحتى عندما فشل التحالف في تجاوز العتبة الانتخابية، خرج زعيمه ورئيس حزب "النصر" أوميت أوزداغ ليعتذر من الشعب التركي، حيث اعتبر أنه بعد هزيمته "أصبح من الصعب جدا على هؤلاء الـ15 مليون لاجئ وهارب العودة الى أوطانهم". وفي ذلك استمرار للشعبوية التي ينتهجها منذ عدة سنوات، والتي تشكل السبب الوحيد في شهرته.

تنامي حضور الفكر القومي بشقيه المحافظ والمتطرف كان المدخل الأساس في إنتاج ما بات يعرف عالميا بـ"خطاب الكراهية"، الموجه ضد الآخر الذي يتمثل بصورة أساسية في الغرباء واللاجئين


وغير بعيد عنه حزب الشعب الجمهوري الذي اعتمد الشعبوية أيضا في قضية اللاجئين، حيث تعهد رئيسه ومرشح التحالف المعارض لرئاسة الجمهورية كمال كليشدارأوغلو بإعادة اللاجئين خلال وقت قصير بالتنسيق مع حكومة الأسد. لكنه في الوقت عينه أكد عزمه تطبيق كل القواعد الديموقراطية التي نص عليها الاتحاد الأوروبي، من أجل القبول بضم تركيا الى العائلة الأوروبية، بما يعكس حجم التناقض لديه في ظل أن الاتحاد الأوروبي يرفض تماما إعادة اللاجئين بشكل قسري، حتى إنه لا يزال يعارض الانفتاح على نظام الأسد. ناهيكم عن تشديده على احترام حقوق الإنسان، وتعهده بإطلاق سراح رئيس حزب "الشعوب الديموقراطي" الكردي صلاح الدين دمير طاش، الذي عقد معه اتفاقا انتخابيا غير معلن للحصول على دعمه في الانتخابات الرئاسية، وهو ما حصل، مقابل الإفراج عنه. وكذلك إطلاق سراح رجل الأعمال عثمان كفالا وعدد من المعارضين نزولا عند رغبة الأوروبيين. فكيف يستوي احترام حقوق الإنسان مع ترحيل اللاجئين السوريين قسرا؟

اللافت أن كلام وتعهدات كليشدارأوغلو لا تتسق مع البند الخاص باللاجئين في خارطة الطريق التي صاغها أركان "الطاولة السداسية" أو التحالف المعارض، والتي تنص على "مراجعة اتفاقية إعادة اللاجئين بين تركيا والاتحاد الأوروبي الموقعة عام 2016، على أن يكون الهدف تحمل المسؤولية المشتركة وتقاسم الأعباء".

بالطبع لم يغب كل ذلك عن ذهن كليشدارأوغلو وفريقه كما حزبه والتحالف المعارض، لكنه اعتمد سلوكا شعبويا، وتبنى خطابا أقرب الى ما يطلبه الجمهور، من أجل الحصول على المزيد من الدعم والأصوات. حاله في ذلك حال العديد من السياسيين والأحزاب في مختلف دول العالم. فنجاح جورجيا ميلوني في الوصول الى منصب رئاسة الوزراء في إيطاليا استند الى ثنائية الشعبوية - خطاب الكراهية ضد اللاجئين. وهذه الثنائية كانت محور التنافس الأبرز وميدان الاستقطاب الأقوى في الانتخابات الرئاسية الفرنسية بين مرشحة اليمين المتطرف ماري لوبان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تمكنت الأولى من رفع رصيدها الانتخابي والتنافس بشكل محموم مع ماكرون. لكن الأخير تفوق عليها في مجال الشعبوية، وحسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمخاطبة الفئات الشابة والتفاعل مع هواجسهم، ما مكنه من الفوز بولاية ثانية، رغم كل ما اعترى ولايته الأولى من احتجاجات شعبية على سياساته الاقتصادية، والتي كانت أشهرها تظاهرات "السترات الصفراء". مع ملاحظة وجود مرشح شبيه بسنان أوغان، بل حتى أكثر تشددا، وهو إريك زمور الذي حصل على 7.2 % من أصوات الناخبين.

بيد أن افتقار حزب ماكرون الى براعة ومهارات رئيسة في استخدام ثنائية الشعبوية - خطاب الكراهية، وكيفية مخاطبة أمزجة الفئات الشابة التواقة دائما الى التغيير، أدى الى خسارته الأغلبية في البرلمان بعد أقل من شهرين فقط على فوز ماكرون بولاية رئاسية ثانية. مقابل نجاح لوبان في زيادة تمثيل حزبها من 8 مقاعد الى 89 مقعدا، فيما يمثل أوضح صورة عن حجم تأثير الأفكار القومية المتطرفة في اتجاهات التصويت.

رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميستوتاكيس يخطب بمناصريه

 

الشباب وشبكات التواصل

من جانب آخر، إن ما حصل مع الرئيس الفرنسي ماكرون ينم عن مدى تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في خيارات الناخبين، وخاصة لدى الفئات الشبابية التي تقترع للمرة الأولى، حيث أشار إحصاء فرنسي الى تأييد واحد من كل أربعة شبان بين 18 و24 عاما لماكرون. ورغم أن هذه الفئة تعد الأكثر حماسة للتغيير بشكل عام، إلا أن الرئيس الفرنسي تمكن من اجتذاب ربعها، مما شكل عاملا حاسما في فوزه بولاية جديدة. علاوة على حصوله على أصوات القوميين المحافظين، وكذلك شريحة من اليسار التي صوتت له للحؤول دون فوز لوبان لا أكثر.

ومنذ ترشحه لولايته الرئاسية الأولى، ينتهج ماكرون سياسة إعلامية غير تقليدية ترتكز على الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي في بناء صورته لدى الرأي العام، وتغليب الجانب العاطفي في الكثير من سلوكياته، بما يمكنه من كسب الفئات الشبابية التي تلعب العاطفة دورا كبيرا في صياغة آرائها. ليس ذلك لدى الجمهور الفرنسي وحده، بل أيضا لدى جماهير الدول التي يزورها، حيث يتقصد ماكرون القيام بإعمال تثير إعجاب جماهير منصات التواصل ولا سيما الشبان والشابات، مثل زيارته لأيقونة الفن اللبنانية فيروز التي تشكل واحدة من الأمور القليلة جدا التي يتفق عليها اللبنانيون، وتقليدها وساما فرنسيا وتغريده على تويتر باللغة العربية. وكذلك تعريجه إبان زيارته للجزائر على متجر شركة إنتاج موسيقى "الراي" الشهيرة "ديسكو مغرب"، واقتنائه شريط كاسيت لمغني "الراي" الجزائري الراحل الشاب حسني، الذي حقق انتشارا سريعا ومبيعات خيالية، وحظي بشهرة واسعة في الجزائر وخارجها ولقب بـ"ملك الأغنية العاطفية". وبالمجمل يمكن اعتبار الرئيس الفرنسي أحد أبرع السياسيين في توظيف شبكات التواصل الاجتماعي.

تظاهرة احتجاجية ضد نتانياهو وحكومته، في 27 مارس/ آذار 2023

وعلى المنوال نفسه ينسج الكثير من الساسة بتوصية من مستشارين وخبراء إعلاميين، لكونها الوسيلة الأنجع لمخاطبة الفئة الشبابية، وخاصة تلك التي تقترع لأول مرة. ففي كل استحقاق انتخابي ثمة شريحة جديدة تشارك فيه للمرة الأولى، وغالبا ما تتصف هذه الشريحة بالجنوح نحو التغيير بهدف إظهار بصمتها الخاصة عبر التمرد على التقاليد وكسر القوالب الجامدة. وفي السنوات الأخيرة بات الكثير من خبراء الإعلام ولوبيات صناعة الرأي العام يركزون في عملهم على هذه الفئات. فيصوغون استراتيجيات خاصة، يُوظّف فيها عدد هائل ومنوع من المواد الإعلامية التي تعرض على منصات التواصل الاجتماعي من أجل التأثير في خياراتها وآرائها.

وهذه الفئة بالذات مثلت نقطة الضعف البارزة لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، ولرئيسه رجب طيب أردوغان. ويعود ذلك بشكل أساسي الى الفترة الطويلة التي حكم فيها الحزب ورئيسه تركيا، والتي بلغت 21 عاما. وقد تحدث بعض المحللين والخبراء أن نسبة التصويت لأردوغان من هذه الفئة كانت متدنية جدا ولم تصل الى عتبة الـ20 %. إذ أن ثمة جيلا من الشباب لم يعرف رئيسا سوى أردوغان، الأمر الذي شكل عاملا محفزا لهذه الفئة نحو التغيير، وخصوصا الفئة التي اقترعت في هذه الانتخابات للمرة الأولى، ولا سيما أن المعارضة بنت استراتيجيتها الانتخابية حول هذه النقطة بالذات، حيث رفع تحالف "الطاولة السداسية" شعار التغيير، بالإضافة الى ضغط الإعلام الغربي عبر منصات التواصل للدفع نحو التغيير أيضا.

وهذه العقبة لم يستطع "العدالة والتنمية" تجاوزها، وخاصة الفئة التي اقترعت في هذه الانتخابات للمرة الأولى، والتي تزيد عن 5 ملايين ناخبا وناخبة، السواد الأعظم منهم متأثر بما يتم التداول به على شبكات التواصل الاجتماعي، مع ما يتميز به الجيل الجديد من نزوع واضح نحو التطرف في آرائهم، وقدرتهم على تغيير الخيار الانتخابي لعوائلهم. فضلا عن تركز أغلبهم في المدن الكبرى مثل اسطنبول وأنقرة حيث توجد الجامعات والمؤسسات والشركات، بما يجعلهم أكثر ميلا نحو "العلمنة" و"الأوربة"، وأكثر تأثرا بالحداثة والأفكار السائدة في أميركا وأوروبا.

وهذا ما يفسر بشكل كبير خروج هاتين المدينتين بالتحديد من قبضة حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات البلدية عام 2019، بعد أن سيطر عليهما في المحليات والبرلمانيات لمدة 16 عاما، واستمرار ذلك في الانتخابات الحالية، بما يثبت عجز "العدالة والتنمية" عن التأثير في هذه الكتلة التصويتية الضخمة. أما باقي كبريات المدن مثل أزمير وأنطاليا وأضنة ومرسين فهي تعد في الأساس من المعاقل التاريخية لحزب الشعب الجمهوري، وبشكل أدق لتيار "العلمنة".

 

صنع الفارق

في المقابل، فإن مرشح التحالف المعارض كمال كليشدار أوغلو أحسن استغلال وسائط ومنصات التواصل الاجتماعي الى حد كبير، مع أنه كان "مجبرا أخاك لا بطل" بسبب سيطرة حزب "العدالة والتنمية" على أغلب وسائل الإعلام، حيث سعى الى التفاعل مع الفئات الشبابية من خلال اعتماده أسلوب البساطة وعدم التكلف في تسجيلات الفيديو والبث المباشر الذي كان يجريه على حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي. فكان يطل من مطبخ منزله لا من مكتب فخم مزنر بالكتب للإشارة الى تواضعه وأنه فرد من الشعب. وحسب الكثير من الدراسات، فإن هذا الأسلوب لديه تأثير واسع في الفئات الشبابية، وخاصة أبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة.

وبالانتقال الى العالم العربي، فإن فئة الشباب أو الجيل الجديد، هي من لعبت الدور الأبرز في وصول قيس سعيد الى سدة رئاسة الجمهورية في تونس. وكذلك أيضا في وصول مجموعة نواب تغييريين يمثلون انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في لبنان. واعتمد كل من سعيد والمجموعات التغييرية في لبنان على منصات التواصل الاجتماعي لمخاطبة الناخبين وخاصة الشباب منهم. وقد استطاع الجيل الجديد في لبنان أن يفرض خياراته الانتخابية على الآباء والأمهات، واليهم يعود الفضل الأكبر في الحصول على 12 مقعدا في بلد ذي توازنات طائفية ومذهبية شديدة الحساسية والتعقيد، حتى أنهم استطاعوا انتزاع مقعدين من أحد معاقل حزب الله.

أما في العراق، فرغم كل ما تعرضت له قوى الانتفاصة الشعبية من عمليات قمع واغتيال، إلا أنها نجحت في نهاية المطاف في الفوز بـ15 مقعدا في البرلمان من أصل 329. قد تبدو النسبة ضعيفة لكن التوازنات الطائفية والمذهبية، والهيمنة الإيرانية أسهمتا في الحد من قدرة الفئات الشبابية على إحداث التغيير الذي تتوق اليه، وإن كانت النتيجة التي حققتها تمثل اختراقا نوعيا يمكن البناء عليه في الاستحقاقات المقبلة.

ومع أن الفكر القومي المحافظ، وخطاب الكراهية لم يكن لهما تأثير يذكر في البلدان الثلاث، إلا أن الشعبوية كانت سلاحا انتخابيا حيويا ولا يزال في تونس ولبنان، والعراق بدرجة أقل. وعلى ضفاف هذه الشعبوية، بدأ خطاب الكراهية ضد اللاجئين يلقى رواجا هائلا في لبنان وتونس. في المقابل، يمكننا ملاحظة مدى تأثير الأفكار القومية المتطرفة، والشعبوية، وخطاب الكراهية في رسم مسار الانتخابات في إسرائيل. وهذه العوامل الثلاثة هي التي أنتجت الحكومة الحالية والتي تعد الأكثر تطرفا منذ النكبة الفلسطينية عام 1948.

وعليه، فإن الفكر القومي المحافظ، والشعبوية، وخطاب الكراهية، والجيل الجديد، ومنصات التواصل الاجتماعي أضحت من أبرز وأهم العوامل التي ترسم المشهد السياسي في العالم. ومن المرجح أن تزداد قوة وتأثير هذه العوامل في المستقبل القريب، في ظل العطب البنيوي الذي تعاني منه الأنظمة البرلمانية بعد انهيار الشيوعية. ومعاناة أغلب دول العالم من أزمات اقتصادية خانقة، يقابلها توسع بؤر التوتر والحروب وتأثير ذلك في تضاعف أعداد اللاجئين.

هنا لا بد من التذكير بأنه قبل قرن ونيف تغيرت خريطة العالم تحت تأثير الفكر القومي المتطرف، فظهرت كيانات ودول، واندثرت ممالك وإمبراطوريات. فهل يقود انتشار الفكر القومي المتطرف مرة أخرى الى تغيير جديد لخريطة العالم؟

font change

مقالات ذات صلة