الفيلسوف روبرتو مانشيني: الحرب "العادلة" كذبة

عن الحقيقة والسلام والخلاص

الفيلسوف روبرتو مانشيني

الفيلسوف روبرتو مانشيني: الحرب "العادلة" كذبة

ماتشراتا/ إيطاليا: تتطلّع فلسفته إلى مساعدة الإنسان على الاستهداء إلى أسباب التعايش العادل والمسالم مع كل الموجودات، وإلى الأخذ بيده إلى الخلاص من شَرَك منظومة عالمية تبتعد أكثر فأكثر عن الكرامة الإنسانية بمفهومها الكانطي، وتنحو أكثر فأكثر نحو التدمير الذاتي. الخلاص، في رأيه، يكمن في الانصهار الكامل في المحبة على المستوى الفردي، حتى ينعكس نور ذلك على الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فلا تسير إلا وفقا لهذه الفلسفة، فلسفة المحبة.

"المجلة" التقته في مكتبة الفلسفة التي يدير صرحَها العظيم بمدينة ماتْشِراتا الإيطالية، سادنا على خزائن أسفارها ومخطوطاتها ومصنفاتها، وكان معه هذا الحوار.

حياة الإنسان وازدهار العالم لا يقومان على القوة أو المنافسة أو الحرب، بل على الحُب الذي منه يولدان، ويقومان على قبول الآخر، على العطف والتعاون، وكذلك على فن مداواة الصراعات وتخليصها من نزعة الشر الهدمي

يرى الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أن الصراع هو المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فكرة العدالة نفسها. يقول إنه لا يمكن أن يكون هناك عدل من دون ظلم وإن الحرب هي مبدأ الفكر واللغة. هل يمكن، في رأيك، أن تكون هناك "حرب عادلة"؟

ربما كان هيرقليطس يلمح بذلك إلى التوازن بين الأضداد المتلازمة والملازِمة لكل شيء في الحياة. إن كان هذا ما قصدَ قولَه، فهو محق. ولكن إن كان يقصد الحرب بمعنى النزاع المسلح، فهو مخطئ أشد الخطأ. الحرب نقيض العدالة. حياة الإنسان وازدهار العالم لا يقومان على القوة أو المنافسة أو الحرب، بل على الحب الذي منه يولدان، ويقومان على قبول الآخر، على العطف والتعاون، وكذلك على فن مداواة الصراعات وتخليصها من نزعة الشر الهدمي التي تنتهي بالدمار.

تشير الوقائع التاريخية، بما لا يدع مجالا للشك، إلى أن الحرب مؤسسة قديمة جدا ومهيبة، تنفجر بعد أن تكون استعدت لذلك طويلا في القلوب والعقول والعلاقات الاقتصادية والعلاقات الدولية والمسارات التعليمية، في المفاهيم الخاطئة التي لازمتنا أمدا طويلا، مثلما تتحول كرة صغيرة من الثلج، شيئا فشيئا، إلى انهيار جليدي مَهول. فالأمر، إذاً، يتعلق بكسر هذه الدورة قبل أن ينفجر العنف في صورة حرب. وفقا لهذه النظرة الواقعية إلى ديناميات الوقائع، يتبين لنا أن نظرية الحرب "العادلة" كذبة تمنعنا من رؤية دور ومسؤولية كل شخص على مستوى الفرد والجماعة والمؤسسة.

إن التزام رؤية وتمييز ديناميات التاريخ يساعدنا على عدم فصم العروة بين الضمير والفعل، بين العقيدة والفاعلية. إنه التزام فحواه، في الدرجة الأولى، المسؤولية الفاعلة. وأقصد بالتحديد مسؤولية أن يضطلع كل فرد بدوره لكي يصبح العالم أقرب ما يكون إلى السلام وأبعد ما يكون عن الحرب. ومهما اتسمت أحداث العالم بالعنف والمآسي، فإن هذا لا يبرر لنا تقاعسنا عن القيام بدورنا في تحسين الوضع. حتى لو غلب على المرء التشاؤم والإحباط، يبقى الصدق في أي حديث أو موقف الشرط الذي عليه ألا يتخلى عن التزامه ما استطاع إلى ذلك سبيلا. لا مهرب لأحد من رباط المسؤولية الأخلاقية. وليس من قبيل المصادفة أن تتفق جميع المعتقدات الدينية في العالم على الشهادة بأن الله رؤوف رحيم: بأنه إله الحياة والسلام، لا إله الموت والحرب. وعلى هذا، إن كان من المستحيل أن تكون الحرب عادلة في نظر الله، فأنا لا أرى كيف يمكن أن تكون عادلة في زعم الإنسان الجهول.

أسباب الفشل

كيف تفسر، إذن، فشلنا المستمر في الوصول إلى السلام؟ لماذا لم تؤد آلاف معاهدات السلام المبرَمة على امتداد تاريخ البشرية إلى سلام دائم ومُطلَق؟

إن أسباب الفشل، حتى اليوم، في تحقيق ما سماه كانط "سلاما دائما" أربعة، وكل منها مرتبط بالآخر. أولها واضح إذا ما ألقينا نظرة شاملة على كامل قوس التاريخ البشري، ومؤدّاه أن على الإنسان أن يتأنسن، عليه أن يصبح إنسانا بالكامل، أي أن يكون نافذ البصيرة وواعيا ومسؤولا ولاعنفيا وداعما للآخرين، وهي رحلة دقيقة تتطلب الكثير من العناية التي كثيرا ما تكون غائبة أو مغيبة بسبب التوجهات المناهضة للتعليم. وإن كانت رحلة الفرد قادرة على أن تحقق نتائج عظيمة، مُنضِجة أفرادا مشرقين إنسانية وحكمة، فإن رحلة الشعوب والمؤسسات تبقى أكثر صعوبة وبطأ وتمنعا. من يستطيع تعليم الملايين، بل المليارات من البشر؟ من يستطيع تقويم المؤسسات ونقلها من عقلية السلطة إلى عقلية الخدمة؟ في العلاقات بين الدول، بين الأُمم، مثلما بين المجموعات الاقتصادية، ترجح دائما كفة الأقوى.

أما السبب الثاني فيتعلق بحقيقة مؤداها أنه لا سلام من دون عدالة. من الشائع جدا في العلاقات الدولية وجود اختلالات في التوازن وأخطاء وهيمنة لأحد الطرفين على الآخر، واستمرار هذه الاختلالات يهيئ الظروف للجوء إلى العنف، وهكذا تظل كل حرب وقعت أرضا خصبة لحروب مقبلة. أما ثالث الأسباب فمؤداه أن الهويات البشرية (للأفراد والجماعات على حد سواء) لا تزال، حتى الآن، تتطور كهويات حصرية بغرض الانفصال عن أولئك الذين يُنظَر إليهم على أنهم "الآخرون": المختلفون، الأجانب، الكفار، الأعداء. يشق على البشرية أن ترى نفسها عائلة واحدة تعيش على الكوكب نفسه. يبقى السبب الأخير، ويكمن في أن الشعور بالله لا ينفك يضيع منا وبشكل متزايد يوما بعد يوم: أعني القدرة على الشعور بحضور الله، إله الحياة وإله المحبة. فالناس إما يتصورون الله إلهَ سلطة وإلزام، وإما ينكرون وجوده، ولذلك تراهم لا يفقهون حقيقة الحب الإلهي الذي يصنع ويحفظ حياة الجميع. كل إنسان وكل شيء حي في نظره مقدس ومحبوب ومصون. نحن غالبا لا نعرف كيف نرى الأشياء بهذه النظرة المُحِبة.

ولكن، على الرغم من تلاحمها، تبقى هذه الأسباب غير كافية لإلغاء إمكان السلام في التاريخ. كان وسيكون هناك دائما ارتقاءات ومنعطفات وتحولات نحو الحب، وعلى هذا فإن مسؤوليتنا أن نختار بين العمل لأجل السلام أو العمل لأجل مضاعفة شرور الحرب.

 لا يتحدث عن الخلاص عادة إلا أولئك الذين يتخيلونه حلا لكل شيء بعد الموت. لكن الخلاص، بهذا المعنى، يظل مفتقرا إلى الارتباط بالتجربة اليومية وبالحالة البشرية الطبيعية. وعندما يفتقر المعنى، أي معنى، إلى نظير له في التجربة، يسقط ويصبح بلا أية قيمة

أعتقد أنك تلمح في جوابك، بشكل أو بآخر، إلى فكرة الترابط بين مفهومَي الخلاص والفداء التي طرحتها في كتابك "فلسفة الخلاص: سُبل التحرر من نظام التدمير الذاتي". هل أنا مُخطئ؟

أنت مُحق. تشير فكرةُ الفداء إلى الانتصار على الشر الذي هو هنا الذنب. وعلى هذا، هي تشير إلى الانتصار على الشر الذاتي. إنها، والحال هذه، النواة الأساسية لفكرة الخلاص نفسها، لأن الخلاص ليس حدثا سحريا ختاميا يحدث من دون أي مشاركة من البشر. إن تصور الخلاص على أنه لفتة من الله القدير في نهاية الزمان، كان له أكبر الأثر في نزع حس المسؤولية من البشر. لذلك يبدو لي الخلاص، حتى لو فُهِمَ بالتحديد على أنه خلاص أُخروي، شكلا غامضا ولكن واقعيا من العلاقة. الله يخلص ويتعهد برعايته علاقته بكل كائن بشري ما دمنا متمسكين من خلال تلك العلاقة بمحبته. نحن لسنا طرفا خاملا في عملية الخلاص، بل نحن إلى حد ما مشاركون فيها. والخلاص يقتضي منا التزام التحرر. لذلك فإن الفداء، بما هو انقطاع من جانبنا عن أي تواطؤ مع الشر، ضروري لتكون مشاركتنا في الخلاص، بالمعنى الجذري والشامل للمصطلح، كاملة.

طبعا تقتضي هذه الرؤية إيمانا بالأصل الإلهي للكرامة البشرية. فبقدر ما نحن عرضة للتحول عن إنسانيتنا، لتشويه أنفسنا بالتواطؤ مع الشر، يمكننا دائما فداء أنفسنا وإظهار شرارة من أصلنا الإلهي. والخلاصة أنه لا معنى أبدا لفصل الفداء عن رحلة الخلاص.

في كتابك هذا، تفصل خمسة معان أساسية (ليست، في أي حال من الأحوال، مجازية)، لمصطلح "الخلاص". هلا تشرحها لنا بإيجاز وتوضح إن كان مفهوم "السلام الدائم"، مثل مفهوم "الخلاص الأُخروي"، نتيجة لاجتماع وتضافر المعاني الأربعة الأولى؟

لا يتحدث عن الخلاص عادة إلا أولئك الذين يتخيلونه حلا لكل شيء بعد الموت. لكن الخلاص، في هذا المعنى، يظل مفتقرا إلى الارتباط بالتجربة اليومية وبالحالة البشرية الطبيعية. وعندما يفتقر المعنى، أي معنى، إلى نظير له في التجربة، يسقط ويصبح بلا أية قيمة. لذلك من المهم أن نسأل أنفسنا إن كان لدينا، في هذه الضفة الماثلة والمحسوسة من الحياة، تجارب تضمنت معنى الخلاص. عند التدقيق، نجد أن للخلاص معانيَ كثيرة وأن كل هذه المعاني تقريبا يمكن اختباره في الحياة. أولها وأدناها منزلة "الخلاص المادي": كما حين نفر من خطر مميت لننجو بأرواحنا. يعلوه منزلة "الخلاص الداخلي"، وهو ما يحدث حين يكون المرء في معترَك حياة تعاكسه فيها الأقدار، حياة يمكن أن تفسده روحيا أو تجرده من إنسانيته، فينجح في البقاء كاملَ الضمير والروح والقلب: يظل على حقيقته الأولى، مختبرا بذلك الخلاصَ الداخلي.

على المرء أيضا أن يفكر في قيمة وجوده وهدفه. فإن عاش منغمسا في الشر، مأخوذا دائما بمصالحه الخاصة ولم يترك أي إرث من الخير للآخرين، أمكن القول إن وجوده كان عبثا. ولكن حين تكون للمرء أياد بيض على الآخرين، فإن قيمة وجوده، حتى لو مات، تبلغ الخلاص ولا يمكن حتى للموت أن يمحوها. من عاش على هذا النحو لم يعش حياته عبثا ولم يكن وجوده سدى. هذا ما أسمّيه بـ"الخلاص الوجودي".

من ناحية أخرى، يحدث كل يوم أن نمدّ يدنا إلى شخص عله يخلصنا من موقف ثقيل الوطأة علينا، أو أن يمدّ الآخر يده نحونا، كما نرى اليوم في العلاقة بين المهاجرين وأولئك الذين يستضيفونهم. نحن هنا أمام تجربة "الخلاص الأخلاقي"، وهو خلاص يتحدانا دائما ويختبر مسؤوليتنا. اليوم، البشرية جمعاء على شفير الدمار، من جهة بسبب دمار الأنظمة الطبيعية ومن جهة بسبب نظام الحرب العالمي الوحشي الذي يُسمى "جيوبوليتيكا". مواجهة هذا الخطر وشق طريق جديد للبشرية هو ما أسمّيه بـ"الخلاص التاريخي-السياسي".

معاني الخلاص الأربعة هذه (المادي والداخلي والوجودي والتاريخي-السياسي) تفتح لنا الطريق نحو "الخلاص الأُخروي" وتسمح لنا ببلوغه والاتحاد به. في هذه المرحلة نستطيع أن نختبر في العالم الواقعي ما تُخُيِّل على أنه "سلام دائم".

مجتمع السوق

هل يمكننا اليوم، في مجتمع مُعَولَم فرض فيه النظامُ الاقتصادي هيمنته على القيم الروحية للإنسان وأنتجت مصطلحات "السوق" نظرة إلى الدين على أنه سلعة تُنتَج وتُستهلَك، الحديث عن الإيمان باعتباره طريقا ممكنا نحو خلاص الإنسان؟

لطالما كانت علاقة الإنسان بالله الأزلي المطلَق متناقضة. فمن ناحية شُوهت هذه العلاقة بسبب تخيلنا الألوهية وفقا لميولنا وتصوراتنا، متصورين إياها قوة خارقة للطبيعة تهيمن على كل شيء، وراسمين للإله صورة على أنه إله سلطة فحسب. مفهوم ما لبث الرجل أن استخدمه لتأسيس نظام سلطته البطريركي مُسبِغا عليه طابع القداسة. من الواضح، والحال هذه، أن الدين كان دائما مقرونا بالقوى السياسية والاقتصادية والعكس صحيح. الإله الحي والحقيقي لا علاقة له بدين أيديولوجي واستبدادي كهذا. واليوم، الأثر الثقافي والوجودي لذلك، في مجتمع اختُزِل إلى مجرد سوق، أعمق مما نظن بكثير. أثر لا يرقى حتى إلى درجة عبادة المال، لأن العقلية التي أنتجها عقلية عدمية لا تؤمن بأي ذات أو بأي شيء، بل تتصرف بشكل آلي، بلا أي وعي تقريبا. إن عقلية المجتمع المعولَم والمتأورِب عقلية عدمية وليست دينية. على الضفة الأخرى، لم تغب يوما تجربة الإيمان الأصيل، تلك التي يعرف الرجال والنساء من خلالها، وبغض النظر عن انتمائهم الديني التقليدي، كيف يعيشون محبين للآخرين ويكرسون أنفسهم للصالح العام ويتبنون اللاعنف منهجا وأسلوبا في الحياة. قدم المهاتما غاندي أوضح مثل على معنى الإيمان الحقيقي ذائبا في الله بما هو التجسيد لحقيقة الحب. كل أولئك الذين يذوبون في الله بهذه الطريقة الصادقة والمُحِبة والسخية يساعدون بالفعل في تخليص العالم.

البشرية جمعاء على شفير الدمار، من جهة بسبب دمار الأنظمة الطبيعية، ومن جهة بسبب نظام الحرب العالمي الوحشي الذي يُسمى "جيوبوليتيكا". مواجهة هذا الخطر وشق طريق جديد للبشرية هو ما أسمّيه بـ"الخلاص التاريخي-السياسي"

بالحديث عن غاندي، تقدم في كتابك "الحب السياسي: على طريق اللاعنف مع غاندي وكابيتيني وليفيناس" أفكارا مُلهِمة لإعادة التفكير في السياسة كحلم بعالم مشترك وبنظام قائم على الحب. كيف يمكن لحالات فردية من تجارب اللاعنف السياسي أن تُترجَم إلى حالة عالمية من الممارسة السياسية؟

تاريخيا، وبصورة عامة، لطالما نضجت تجارب اللاعنف في حركات جماعية، حتى لو أصبح أفراد بعينهم رمزا لها. هذه هي الحالة النموذجية التي يجسدها غاندي بصفته رائدا اختبر اللاعنف كمنهج في الحياة والممارسة الروحية والعمل السياسي. لذا فإن حقيقة وجود رجال ونساء تمكنوا بشكل فردي من أن يجسدوا ذروة الإنسانية في حياتهم لا ينبغي أخذه كدليل على عدم ملاءَمة اللاعنف للجماعات والمؤسسات.

لقد صنع غاندي نقطة التحول تلك منذ اجتماع جوهانسبورغ في سبتمبر/أيلول 1906. هناك اجتمع المضطهَدون من قِبل المستعمرين الأوروبيين في جنوب أفريقيا لإيجاد شكل جديد من النضال وقرروا التصرف بما يُمليه العدل الإلهي، فبدلا من أن يفترضوا أن الله كان في صفهم ألزموا أنفسهم التصرف بطريقة يرضاها الله نفسه، أي بطريقة سلمية وعادلة ومحترمة تجاه الجميع.

في التاريخ كان هناك دائما، ولا يزال، أفراد وجماعات ومؤسسات محلية (مدارس، مستشفيات، بلديات، مؤسسات دينية) تعرف كيف تتصرف بهذه الطريقة. المشكلة تكمن في أن اللاعنف، على الصعيد العالمي، يبدو غائبا أو متعذرا، ولتوسيع مداه بحيث يعم البشرية جمعاء والمجتمعَ العالمي لا بد من العمل على أن يكون لدينا ثلاثة عوامل تحويلية: أولها أن يكون لدينا فكر جديد يسمح بازدهار ثقافة الحياة في إطار المشاركة وليس في إطار الصراع أو التسلط؛ وثانيها التعليم الذي يجب أن يؤهل الناس، في جميع أنحاء العالم، للتغلب على الشر داخل أنفسهم؛ وثالثها العدالة في كل العلاقات بحيث لا يرى أحد في العنف وسيلة لاسترداد حقه. كل من يؤمن بأن الله محبة، بغض النظر عن معتقده الديني، يجب أن يساهم في تطوير هذه العوامل الثلاثة.

السؤال ليس إن كان هذا التحول السلمي الكبير ممكنا أم لا، وإنما السؤال كم من الوقت سيستغرق.

الحقيقة

في مؤلفاتك يمكننا أن نتتبع صياغة نظرية مثيرة للاهتمام لمفهوم "الحقيقة"، نظرية حوارية ليست الحقيقةُ بموجبها حلا أو حجة، بل روحا لكل حوار، وهي، في هذا المعنى، "متعددة وقابلة للمشاركة وللمساءلة وممتلئة دائما بالحياة". هل "ما بعد الحقيقة"، في عالم معاصر يأخذ المظاهر الزائفة والأكاذيب على أنها حقائق، طرف مرحب به في هذا الحوار؟

أول ما علينا أن نعيه هو أن الحقيقة ليست هدفا أو مفهوما أو مبدأ، بل هي الحب الذي منه تُولَد الحياة وبه تستمر. إنْ وَعَيْنا ذلك، أمكننا أن نعيش الحقيقةَ نفسَها، ليس بما هي بحث أو حوار نريد من ورائه القبض على جوهرها فحسب، ولكن أيضا بما هي نور نعيش حياتنا ونرسم وجودنا وفقا له. بإسباغنا هذا المعيار على الحقيقة نفهم أن ما يسمى اليوم "ما بعد الحقيقة" ليس سوى تعبير تلطيفي تافه يُراد به تجميل الأكاذيب وجعلها مقبولة على أنها أمر طبيعي. لهذا النزوع الحديث إلى ترسيخ "ما بعد الحقيقة" كأمر واقع عواقب وخيمة تتمثل في فقدان الاتصال بالواقع وفقدان البصيرة النقدية في تقصي الحقائق والنظريات، كما تتمثل في الإيمان بأن "الحقيقة" لا وجود لها على الإطلاق. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن انتقاد هذا النزوع إلى تصفية البحث عن الحقيقة والإيمان بها ينبغي أن يسير جنبا إلى جنب مع انتقاد أولئك الذين يتصرفون وكأنهم أسياد على الحقيقة ويطرحون آراءهم أو نظرياتهم كما لو كانت هي الحقيقة المطلَقة. إن الحوار والمعرفة، وحتى الإيمان نفسه، تقتضي تواضعَ الشاهد لا غطرسةَ السيد. أنى تُحترَم الحقيقة يكن مكرما الجنس البشري دون استثناء، وأنى يُحترَم الجنس البشري تكن الحقيقةُ مكرمة. إن أي شكل من أشكال الاستبداد في الرأي (الشكوكية، التلاعب الأيديولوجي، التعصب، الدوغمائية) إنما هو نتيجة للجهل وسوء النية والتعطش إلى السلطة.

روبرتو مانشيني: تخرج الفيلسوف الإيطالي روبرتو مانشيني في الفلسفة سنة 1981 في جامعة ماشِراتا، وحصل على الدكتوراه فيها من جامعة بيرودْجا، في عام 1986، مُجريا أبحاثه بينها وبين جامعة غوته في فرانكفورت. درس ثقافة الاستدامة في كلية الهندسة المعمارية في الجامعة الإيطالية السويسرية في سويسرا، وهو حاليا أستاذ الفلسفة النظرية ورئيس قسم العلوم الإنسانية في جامعة ماشِراتا التي شغل فيها، ولا يزال، مناصب مختلفة. يكتب بانتظام في العديد من الدوريات الفلسفية، ويدير مجلة "أفق فلسفي" وسلسلة "نسيج العلمانية" التي تصدر عن "منشورات تشيتادِلا" في أسيزي. في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 منحته جمعية الإسبرانتو الإيطالية وإقليم ماركِهْ جائزة "زامنهوف-أصوات السلام". أسس، في عام 2020، مع مجموعة من المفكرين، حركة "الأمر يعتمد علينا" التي وُلدت من رغبة لديهم في المساهمة في تجديد السياسة وخلق قناة بين المجتمع المدني ومؤسسات الدولة في إقليم ماركِهْ وهو حاليا المنسق الإقليمي لها. نشر أكثر من 300 مقال حول الأخلاق والأنثروبولوجيا الفلسفية ونظريات الحقيقة وفلسفة الدين وفلسفة السياسة وفلسفة الاقتصاد، وصدر له حتى اليوم 44 كتابا في هذه المواضيع وغيرها، منها: "اللغة والأخلاق" 1988؛ "الصمت، طريقا إلى الحياة" 2002؛ "معنى الزمن ولغزه" 2005؛ "أفكار هرطوقية، نحو اقتصاد الرعاية والعلاقات والصالح العام" 2010؛ "منطق الشر، مبحث نقدي في المجتمع ونهضة الأخلاق" 2012؛ "هشاشة الروح. قراءةُ هيغل لفهم عالم اليوم" 2019؛ "غاندي. ما وراء مبدأ القوة" 2021؛ "النقد والحرية. دليل إلى "نقد العقل الخالص" لإيمانويل كانط" 2021.

font change

مقالات ذات صلة