لئلا تنزلق تركيا إلى الوراء

أمام تركيا، فرصة تاريخية لتجاوز الماضي الدموي مع حزب العمال الكردستاني

PA
PA
مراسم إحياء ذكرى هجوم دموي لحزب العمال الكردستاني حول نصب تذكاري للضحايا في مدينة أرزنجان، شرق تركيا، 5 يوليو 2021

لئلا تنزلق تركيا إلى الوراء

قبل ثلاثين عاما، وتحديدا في 24 مايو/أيار 1993، ارتكب حزب العمال الكردستاني مجزرة مروعة في حق 33 جنديا تركيا، غير مسلحين، وثلاثة مدنيين (من معلمي المدارس)، جرى أسرهم عند حاجز وضعه مقاتلو الحزب الذين كان يقودهم عضو اللجنة المركزية في "حزب العمال الكردستاني" والقائد الميداني المعروف، آنذاك، شمدين صاكك.

كان الجنود الأغرار قد أنهوا تدريباتهم، مرتدين ملابس مدنية، وعلى متن حافلتين صغيرتين، تتجهان من محافظة "ملاطية" إلى محافظة "بينغول" للالتحاق بالخدمة الإلزامية. في الساعة السادسة مساء، وعلى الطريق السريع الواصل بين بمحافظتي "آل عزيز" و"بينغول"، قطع 150 من عناصر الكردستاني الطريق بشاحنات كانوا قد اختطفوها. وقاموا بفحص هويات الركاب، واحتجزوا 36 جنديا أعزلاً من السلاح، وثلاثة مُعلمين، ونقلوهم إلى قرية مجاورة. وفي الساعة الثالثة فجرا، جرى إيقافهم في رتل أفقي، مواجه لكتيبة الإعدام التي أفرغت فيهم مخازن بنادقها. فقضى 33 جنديا على الفور، ونجا ثلاثة تظاهروا بالموت، بعد تساقط جثث رفاقهم عليهم.

تلك المجزرة البشعة المروعة، ترقى إلى جرائم الحرب، كونها "قتل للأسرى". وجرائم الحرب، لا تسقط بالتقادم. وقد نفذ الكردستاني تلك المذبحة، في وقت يفترض أنه كان في هدنة، ويجري حوارا غير مباشر مع أنقرة. حيث أعلن أوجلان في 20 مارس/آذار 1993 وقفا لإطلاق النار من جانب واحد، استجابة لطلب الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، وبوساطة مباشرة من الرئيس العراقي السابق جلال طالباني. غالب الظن أن أذرع الدولة العميقة قامت بتصفية أوزال مسموما، في 17 أبريل/نيسان من نفس العام (قيل: إنه أصيب بأزمة قلبية). والسؤال: ماذا كان موقف زعيم الكردستاني عبد الله أوجلان، الجالس وقتذاك، في حضن نظام حافظ الأسد؟

وبحسب الرئيس العراقي السابق، جلال طالباني ("مذكرات جلال طالباني". إعداد صلاح رشيد. ترجمة: شيرزاد شيخاني. الدار العربية للعلوم ناشرون- 2018)، أنه طالب أوجلان بإصدار بيان رسمي، يتبرأ فيه من المجزرة، ويدينها، ويعتبرها تصرفا فرديا، خارجا عن إرادة الحزب، حافظا على "العملية السلمية" الهشة. إلا أن أوجلان استكبر، ولم يستجب.

AFP
الزعيم العراقي الكردي جلال طالباني (وسط) يحيي مقاتليه من شرفة مقره في 25 آذار / مارس 1991 عند وصوله إلى شمال العراق

بعد "خراب بصرة" كما يُقال، سنة 1995 استدعى أوجلان، المسؤول العسكري عن المجزرة، شمدين صاكك إلى معسكرات الحزب في دمشق، وأخضعه للتحقيق وحكم عليه بالإعدام، لأسباب أخرى، لم يكن ارتكابه المجزرة من ضمنها. ثم عفا عنهُ، وأجبرهُ على كتابة مئات الصفحات كـ"نقد ذاتي" ومديح لأوجلان والحزب، يحمل فيها نفسه مسؤولية تلك المجزرة! في النتيجة، غطى زعيم الكردستاني، على تلك الجريمة المروعة.

صاكك المولود سنة 1959 في محافظة "موش" الكردية، جنوب شرقي تركيا، انتسب للكردستاني سنة 1979. وحين خطط ونفذ تلك المجزرة كان في الرابعة والثلاثين من عمره، ويشغل منصبا بارزا في القيادة العسكرية وعضوية اللجنة المركزية للحزب. ثم هرب من صفوفه في 16/3/1998، ولجأ إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي. وجرى تسلميه للسلطات التركية في 13 أبريل 1998، وأعلن أن الجيش التركي اختطفه! وجرت محاكمته، وحُكم عليه بالإعدام، وخُفف الحكم سنة 1999 إلى المؤبد.

أثناء المحاكمة، صرح صاكك، أنه عارض استخدام السلاح، ورفض تحويل تركيا إلى يوغوسلافيا، والأكراد إلى ألبان، وترك صفوف الكردستاني، لهذه الأسباب، ولمعارضتهِ أوجلان، والأخير هو الذي أمره بارتكاب مجزرة 24 مايو/أيار 1993. أظهر صاكك نفسه كـ"عبد المأمور"، و"حمامة سلام" والمدافع عن مصلحة تركيا!

هناك رواية ثالثة، وثقها الكاتب والباحث الكردي صالح دوندار (منشق عن "الكردستاني" ويعيش في ألمانيا، قضى عشر سنوات في السجون التركية)، وثقها في كتابه "السر في الساعة" (منشورات Doz إسطنبول) يذكر أن صاكك كان بعيدا عن مسرح المجزرة، باعتباره المسؤول العام لتلك المنطقة. بينما جمال باراك (الاسم الحركي: زينال) هو مخطط ومنفذ المجزرة، بأمر مباشر من عبد الله أوجلان. ويسرد دوندار تفاصيل كيفية التخلص من "زينال" هذا.

قبل ثلاثين عاما، وتحديدا في 24 مايو/أيار 1993، ارتكب حزب العمال الكردستاني مجزرة مروعة في حق 33 جنديا تركيا، غير مسلحين، وثلاثة مدنيين من معلمي المدارس

الغريب واللافت في الأمر، أنه لم تكد تمضي سنة على خطف ومحاكمة شمدين صاكك، حتى جرى خطف عبد الله أوجلان من نيروبي في 15 فبراير/شباط سنة 1999، ومحاكمته. أثناء المحاكمة، وفي ما يتعلق بتلك المجزرة، رفض أوجلان تحمل المسؤولية، وحملها لشمدين صاكك. وهذا ما طالب به جلال طالباني في حينه، كما ذكرنا، آنفا، ورفض أوجلان ذلك!

أوجلان أيضا، فور اعتقاله، صرح وهو لما يزل على متن الطائرة: بأن "أمه تُركية، ويريد خدمة تركيا". وكرر كلامه ذاك، وزاد فيه، أثناء المحاكمة، وأظهر نفسهُ كـ"حمامة سلام"، محملا مسؤولية التصفيات داخل حزبهِ إلى أذرع "الدولة العميقة" في تركيا، المتغلغلة في الحزب. وذكر في تصريح له، عبر محاميه، في شهر يوليو/ تموز 2008: أن ما يقارب 14 ألف شخص، فقدوا حيواتهم، نتيجة التصفيات الداخلية، ملقيا المسؤولية واللائمة على المنشقين من حزبه، كشمدين صاكك، وسليم جوروكايا (يعيش في ألمانيا).

أيا يكن من أمر، فإن المسؤولين المباشرين الاثنين عن مذبحة 24 مايو/أيار، أو "حمامتا السلام" في "الكردستاني"؛ كما أن المسؤولين عن حمامات الدم في كردستان وتركيا، موجودان الآن في السجون التركية، ومحكومان بالمؤبد.

المتتبع لسيرة أوجلان، بشكل موثق، استنادا لمراجعة تاريخ حزبه، يرى أن زعيم الكردستاني، يتستر على القتلة في حزبه، طالما هم في خدمة تثبيت أركان دكتاتوريته. وحين يشكلون قلقا، أو عندما تقتضي الحاجة، وكي يظهر أوجلان نفسه رجلَ حكمة وسلام وديمقراطية وأنه ناقد لحزبه، يبدأ بالكشف عن جزء من السجل الدموي لبعض رفاقه وقيادات حزبه. ذلك أن صمته عن جريمة صاكك في حينه، ثم تحميله مسؤولية المذبحة لاحقا، هو تفصيل بسيط على هامش متن تجربة أوجلان العريقة بهذا الخصوص.

AP
عبدالله أوجلان أثناء محاكمته في تركيا عام 1991

وفي حوارٍ أجراه الصحافي الفرنسي كريس كوتشيرا مع أوجلان أثناء وجوده في روما، ونشرته مجلة "الوسط" اللندنية في 15/1/1999، (قبل اختطافه بشهر)، وَرداً على سؤال: "ألا يزال جميل بايك الرجل الثاني في الحزب؟"، قال أوجلان: "ليس لدينا أرقام. وحده الذي يحقق نتائج، يحق له أن يحمل رقما. فبايك مثلا لم ينجح في استثمار تجربته عمليا. وقد أعلنت على الملأ بعض أخطائه.

ومن الأمثلة على ذلك أنه قرر منفردا أن يترك القيادة مرتين، في 1995 و1997. وهذا أمر خطير. كنا في قلب كردستان، في وادي الزاب. وكان لدينا خمسة آلاف مقاتل يمكنهم مواجهة 50 ألف جندي تركي. إنه مخلص للغاية. لكنه فرداني للغاية أيضا. ورفضنا حُكمهُ بالإعدام على عدد من المسؤولين العسكريين. فحتى لو ارتكب أولئك العسكريون جرائم حرب، فثمة وسائل أخرى لإعادة تأهيلهم.

وكان بايك يرى أنه يجب تصفية الجرحى من مقاتلينا كي لا يقعوا أحياء في يد العدو. لكننا رفضنا ذلك. إن اللجنة المركزية تعاني هذا المرض: فهم متعلقون بي إلى آخر حد، لكنهم عمليا ينطلقون في الاتجاه المعاكس". والكلام لأوجلان.

طبعا، مذبحة التخلص من جرحى "الكردستاني"، حدثت سنة 1992 في منطقة "حفتاتنين" بكردستان العراق. وإذا كان أوجلان رفضها، بعد حدوثها، إلا أنه لم يحاسب ويحاكم مرتكبها؛ جميل بايك! وهذه أيضا جريمة حرب ضد الإنسانية. وعليه، مَن سكت عن قتل رفاقه الجرحى من قبل قيادي بارز (جميل بايك) سنة 1992، طبيعي أنه سيسكت عن مذبحة الجنود الأتراك العزل من السلاح سنة 1993!

سؤال آخر يتبادر للذهن: ماذا فعل الجيش التركي، وقتذاك، ردا على مجزرة 24 مايو 1993؟ صرح الجيش في 26/5/1993 بأنه قتل 67 من عناصر "الكردستاني" الذين شاركوا في ارتكاب المجزرة.

أوجلان أيضا، فور اعتقاله، صرح وهو لما يزل على متن الطائرة: بأن "أمه تُركية، ويريد خدمة تركيا"

ودخلت البلاد في موجات عنف دموي شديدة ورهيبة، ارتكب فيها الجيش التركي أيضا جرائم حرب ضد الإنسانية، من قتل مدنيين، وحرق قرى، وتهجير قسري، واعتقالات عشوائية... وكل ما يخطر على البال من إرهاب دولة، في أي بلد تعصف به حرب طاحنة. تلك كانت حال تركيا، حتى تاريخ اعتقال ومحاكمة أوجلان. حيث هدأت موجة العنف قليلا، لكنها لم تتوقف نهائيا.

وبصرف النظر عن صحة ذلك البيان العسكري، ما يثير الشك والريبة والشبهة في وجود مخطط خفي بين الدولة العميقة و"العمال الكردستاني"، هو عدم جدية الدولة الرسمية في إجراء تحقيق شفاف ونزيه بخصوص مجزرة 24 مايو/أيار! لماذا أُرسل الجنود، دون تسليح أو حماية؟ مَن الذي سرب خبر تحرك حافلتي الجنود إلى "الكردستاني"؟ أين كانت الدولة من الساعة السادسة مساء ولغاية ساعة ارتكاب المجزرة، ومكان الخطف، لا يبعد أكثر من 15 كيلومترا من مقر قيادة الجندرمة (الدرك) في "بينغول"!

وبالتوازي مع انتهاء الانتخابات البرلمانية التركية، وفوز رجب طيب أردوغان مجددا برئاسة تركيا، في الجولة الثانية، يكمن الهدف من إعادة فتح ملف المجزرة التي مر عليها ثلاثون عاما، في الإشارة إلى أن أمام تركيا، فرصة تاريخية لتجاوز كل ذلك الماضي الدموي، والسير نحو المستقبل، بقلب وعقل منفتحين على الحلول السلمية. فتركيا، بغناها الحضاري والثقافي والقومي والإثني، تستحق حاضرا ومستقبلا أفضل مما كانت عليه.

ومن المؤسف القول: إن عقدة تركيا المزمنة والقاتلة هي نزعة الغلو والاستعلاء القومي المتحكمة في قواها السياسية، الإسلامية منها والعلمانية، القومية واليسارية. 

ومن المؤسف القول: إن عقدة تركيا المزمنة والقاتلة هي نزعة الغلو والاستعلاء القومي المتحكمة في قواها السياسية، الإسلامية منها والعلمانية، القومية واليسارية. ولئلا تنزلق تركيا أكثر نحو الوراء، وتدخل نفق قرنٍ آخر من الصراع الكردي–التركي، لا مناص أمام حكومتها ومعارضتها، ورئيسها، من إيجاد حل سلمي وديمقراطي ووطني للقضية الكردية، يجنب البلاد والعباد المزيد من الكوارث، ويسحب البساط من تحت أقدام الدولة العميقة التي لا تريد لتركيا السلام والتطور والسير نحو المستقبل.

ويقول التاريخ: حين تنازل العثمانيون للكرد، ومنحوهم إمارات شبه مستقلة، قاتل الكرد مع الترك في خندق واحد ضد الصفويين في معركة "تشالدران" سنة 1514م. وحين بدأ العثمانيون سلب الكرد مكتسباتهم وحقوقهم، تمردوا على السلطنة منذ انتفاضة الشيخ عبيدالله النهري سنة 1880، وحتى حقبة الجمهورية التركية. وعليه، المستميتُ في مواصلة القهر والظلم والاستعباد على أي شعب أو ملة، يؤكد على نفسه أنه ليس صاحب حق، بل مُحتل ومغتصب للحقوق أيضا.

font change

مقالات ذات صلة