حليم بركات... المرتحل في فضاء الاغتراب العربي

رحيل عالم الاجتماع والروائي البارز

عالم الاجتماع والروائي السوري حليم بركات

حليم بركات... المرتحل في فضاء الاغتراب العربي

رحل عن عالمنا عالم الاجتماع المثقف والروائي الكبير حليم بركات عن عمر يتجاوز التسعين عاما، قضى جلها في محاولاتٍ جادة لدراسة المجتمعات العربية، ومحاولة الكشف عن ما تعانيه من مشكلاتٍ تتعلق بالتشرذم والبحث عن الهوية، وما ترزح تحته من حالات القهر والاستغلال والاغتراب، وغيرها من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي لا يخلو منها مجتمع عربي.

ولد حليم بركات بقرية الكفرون بسوريا عام 1933، توفي والده صغيرا وانتقلت أسرته للعيش بلبنان، وهناك حصل على الماجستير في علم الاجتماع من الجامعة الأميركية ببيروت، والدكتوراة في علم النفس الاجتماعي من جامعة متشيغان بالولايات المتحدة الأميركية عام 1966.

لفت بركات انتباه النقاد بروايته "ستة أيام" المنشورة عام 1961، والتي اعتبرها الكثيرون بمثابة استشراف لأحداث هزيمة يونيو/حزيران 1967

من الهزيمة إلى التحليق مع طائر الحوم

كتب حليم بركات روايته الأولى في سنواته الأولى بالجامعة فصدرت رواية "القمم الخضراء" عام 1956، ولكنه لفت انتباه النقاد بروايته التالية "ستة أيام" المنشورة عام 1961، والتي اعتبرها الكثيرون بمثابة استشراف لأحداث هزيمة يونيو/حزيران 1967، وتدور أحداث الرواية حول مدينة متخيلة أسماها "دير البحر" تتعرض لحصار كبير من الأعداء، ولا يبقى أمامها إلا الاستسلام للعدو أو الدمار. 

إلا أن حليم بركات يتوقف بشكل أكثر تفصيلا، ويواجه تلك النكسة وما حدث فيها في روايته التالية "عودة الطائر إلى البحر" المنشورة 1969، وفيها نجد توثيقا لأحداث المأساة وإن كانت مقدمات الفصول جاءت شاعرية، ولكنه يحكي فيها بشكل مباشر وبعيدا عن الترميز ما حدث في أيام حرب 1967 في فلسطين ولبنان على التوالي، ويتحدث عن تلك العلاقة الملتبسة بين المواطن داخل المجتمع والدولة التي تريد أن تؤطر حركته ودوره، ويوجه بالتالي نقدا لاذعا للأنظمة العربية التي يرى أنها السبب في كل ما حدث من نكسات متتالية للعالم العربي.

بعد ذلك بأعوام وفي روايته "طائر الحوم" (دار توبقال 1988) يعود بركات إلى قريته "كفرون" ويسعى لاستعادة حياته التي يبدو أنه فقدها هناك، فيكتب رواية تنبض بالحنين إلى تلك الحياة التي تركها عالم الاجتماع الكبير ورحل إلى أميركا مدفوعا بشغفه العلمي وأبحاثه الأكاديمية، إلا أن المبدع أراد أن يعود إلى مسقط رأسه ويستعيد مواطن الطفولة والصبا، فجاءت "طائر الحوم" سيرة روائية ومحاولة للخلاص من حالة الرتابة الأكاديمية التي لحقت به في الغربة والمنفى، وينتقل في حكايته من الخاص إلى العام، ومن العلاقات بين المواطنين والمقيمين في أميركا إلى ما يجده العائد من منفاه إلى بلاده من تغير في المعاملة واختلاف في أساليب الحياة.

 

الروائي وعالم الاجتماع

يشير حليم بركات في حوار أجرته معه "الشرق الأوسط" إلى ربطه الدائم بين مهمته كعالم اجتماع واهتمامه الخاص بالأدب فيقول: "أعتبر الأدب مصدرا معرفيا مهما. فروايات نجيب محفوظ عن القاهرة لا تضاهيها أي دراسات اجتماعية ومثلها تلك الروايات التي كتبت في أوروبا أثناء الثورة الصناعية. شخصيا كان عندي دائما اهتمام بالأدب وتحديدا الرواية. لا بل درست علم الاجتماع ليفيدني في كتابة الأدب. وقد قمت بدراسة عن المخيمات الفلسطينية. لكنني شعرت بعد صدور الدراسة في كتاب أن شيئا إنسانيا كان ناقصا فسجلته في رواية".

كتب حليم بركات العديد من المقالات والدراسات والأبحاث التي تتناول تشريح المجتمع العربي ودراسة ظواهره وتغيراته المختلفة، وكان أول إصداراته في هذا المجال كتابه "المجتمع العربي المعاصر" عام 1984 والذي تناول فيه بشكل مفصّل الهوية العربية بين التنوع والتجانس، وتوقف عند ما يمكن أن يجمع العرب من ثقافة ومصالح اقتصادية وعادات وتقاليد اجتماعية، كما تحدث عن أنماط المعيشة وتغيرها من البداوة إلى الحضارة، وأشار فيها منذ وقت مبكر إلى أن المجتمع العربي يشهد تداعي الحدود الفاصلة بين هذه الأنماط، كما أن ذلك سينهي تدريجيا حالة العزلة والاستقلال الذاتي التي كانت تتميز بها المجتمعات الصغيرة نسبيا، وخصص قسما من الكتاب للتوقف عند الثقافة العربية فتحدث عن مصادر القيم وتنوعها بين الإبداع والاتباع، كما انتقل إلى الحديث عن الاتجاهات الأدبية في العالم العربي وعلاقتها بالواقع الاجتماعي، فتحدث عن ما أسماه بالأدب التوفيقي الذي ينطلق من تصور الواقع في حالة انسجام وتوازن ومصالحة، وأكثر ما يمثل هذا الاتجاه الأدب التقليدي (الكلاسيكي) ويجمع فيه بين رؤية العقاد الأدبية وتوفيق الحكيم في كتاباته، أما الاتجاه الآخر فهو الأدب النقدي الليبرالي الذي ينطلق من رؤية إصلاحية ويسعى إلى فضح النظام القائم، وإلى التجديد في اللغة والأسلوب، وفي الوقت نفسه يضم الكتاب نماذج مستسلمة منسحبة من الواقع تشعر بالغربة واللامبالاة (مثّل لها بروايات جبرا إبراهيم جبرا)، ونموذجا آخر يسمه بالخضوع فهو يفضح الواقع ويعدد مثالبه ولكنه لا يتمرد عليه ولا يدعو إلى الثورة عليه (ومثّل له بروايات محفوظ)، ونموذج ثالث يسعى إلى فرض التمرد الشخصي الفردي (مثّل له برواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح).   

 أما الاتجاه الثالث فهو الأدب الثوري، الذي يعد مغامرة في الشكل والمضمون والرؤية، يرى المجتمع العربي في حالة تناقضات وصراع في الداخل ومع الخارج، كما أنه يصوّر الإنسان في حالة اغتراب عن مجتمعه ومؤسساته ومصيره، ويرفض الثقافة السائدة ويُعنى بالخلاص المجتمعي وليس الفردي، ويرى حليم بركات أن جبران خليل جبران من أوائل من قدّموا هذا الحسّ الثوري في الأدب العربي المعاصر، وكذلك يوسف إدريس في عدد من أعماله مثل "الحرام" و"سره الباتع" ومسرحيتي "الفرافير" و"الجنس الثالث"، كما يشير إلى أعمال محمد ديب وكاتب ياسين والطاهر وطّار كنموذج آخر لهذا الأدب الثوري في الأدب العربي.

 كما يتحدث بعد ذلك عن الاتجاهات الفكرية العربية المعاصرة وتاريخها بشكل موجز، وينتقل في الفصل الأخير إلى ما يراه من استشراف المستقبل، وضرورة انطلاق المجتمع العربي من حالة الاغتراب إلى التنمية والثورة وإقامة نظام عربي جديد.

 "طائر الحوم" تنبض بالحنين إلى تلك الحياة التي تركها عالم الاجتماع الكبير ورحل إلى وهي سيرة روائية ومحاولة للخلاص من حالة الرتابة الأكاديمية التي لحقت به في الغربة والمنفى

المجتمع العربي

بعد ذلك ببضع أعوام، يطوّر حليم بركات أفكاره ورؤاه ويطرح  كتابه "المجتمع العربي في القرن العشرين" في مطلع عام 2000 عن "مركز دراسات الوحدة العربية" في أكتر من ألف صفحة، والذي يعد واحدا من أهم المؤلفات التي قدمت رؤية شاملة للمتجمع العربي وتعقيداته وتحولاته وتناقضاته وعلاقاته المختلفة، ويعد مرجعا لا غنى عنه لكل دارس في علم الاجتماع الحديث، بل لعله الكتاب الذي جعل من يتحدث عن دكتور حليم بركات يصفه بأنه "دوركهايم العالم العربي" في إشارة إلى الفرنسي إميل دوركهايم مؤسس علم الاجتماع الحديث.

ولم يتوقف عطاء حليم بركات عند هذا الحد في إطار دراسة المجتمع العربي وتجلياته المختلفة، فقدم في 2006 كتابه "الاغتراب في الثقافة العربية" الذي يبحث من خلاله في مصادر الاغتراب وتنويعاته في الحياة العربية بدءا من حالة الاغتراب السياسي حتى الاغتراب داخل العائلة والاغتراب عن الدين وفيه، ويرصد نتائج ذلك الاغتراب من الانسحاب والرضوخ إلى التمرد ومحاولة الثورة، ويفرد للرواية العربية فصلا خاصا يتناول الروايات التي تناولت الغربة والمنفى، فيتحدث عن "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، ويتناول تجربة الطاهر بن جلون لاسيما كونه يكتب بالفرنسية وآسيا جبار وغيرهما، كما يتحدث عن الروايات التي تتمظهر فيها غربة الذات عن عالمها، ويعرج على تجربته الخاصة في كتابة الرواية في "طائر الحوم" و"عودة الطائر إلى البحر"، كما يتحدث عن روايات الخضوع التي يمثل لها بعدد من روايات نجيب محفوظ.    

 

 علاقات خاصة مع أدباء جيله

 وانطلاقا من اهتمام حليم بركات بدراسة الواقع والمجتمع العربيين، جاء كتابه "غربة الكاتب العربي" (الصادر عن "دار الساقي" 2011) وثيقة هامة تضم عددا من الشهادات والقراءات لعدد من أدباء ومثقفين عرب كانت الغربة خلفية لمشوارهم في الإبداع والحياة، فتحدث عن جبرا إبراهيم جبرا وكيف ربطته به علاقة قديمة منذ أن كتب له مقدمة مجموعته القصصية "الصمت والمطر" عام 1958، وكيف كانت تلك المقدمة معبرة لا عن المجموعة القصصية فقط، وإنما عن توجه جبرا في الكتابة بشكل عام حتى من عنوانها "الحرية والطوفان"، كما يتحدث عن عبد الرحمن منيف وكيف أثرت الغربة والمنفى في حياته وكتابته، ويقدم رؤية وقراءة نقدية جادة لأعماله بدءا بـ "مدن الملح" وما فيها من خصوصية حتى ينتقل إلى التجربة الإنسانية في عمومها وتجليها الأكبر في "شرق المتوسط"، ويتوقف عند تجارب روائيين آخرين مثل الطيب صالح وكيف صوّر حالة اغتراب المثقف العربي في الغرب، وتجربة سعد الله ونوس، وغيرهما من المبدعين، كما يتوقف بشكل خاص عند تجربة إدوارد سعيد ومروان قصّاب.

والجميل في كتاب بركات أنه ينتقل فيه من الخاص إلى العام، ومن علاقته الشخصية وخطاباته ومذكراته التي كتبها عن هؤلاء الكتاب والمثقفين إلى قراءة أعمالهم سواء الإبداعية أو الفكرية وتجربة حياتهم منذ بداية تعرفه بهم وحتى رحيلهم، كما يحوي الكتاب عددا من المقالات الهامة التي تناولت علاقة المثقفين العرب بالسلطة والإبداع العربي والغربة وكيف يرى هيمنة الدولة على المجتمع والشعب في الدول العربية، وأسس المواجهة في علاقة العرب بالغرب كما يراها، وهي أبحاث ومقالات شديدة التأثير والأهمية تحمل وعيا خاصا ورؤية شاملة ينطلق بها حليم بركات من دراسته الواسعة للمجتمع العربي الذي تعمق فيه وسبر أغواره.  

يعد "المجتمع العربي في القرن العشرين" من أهم المؤلفات التي قدمت رؤية شاملة للمتجمع العربي وتعقيداته وتحولاته وتناقضاته وعلاقاته المختلفة، ويعد مرجعا لا غنى عنه لكل دارس في علم الاجتماع الحديث

أن تمشي على غيمة

منذ وقت مبكر امتلك حليم بركات إحساسا خاصا بالكتابة، وكانت رواياته خير شاهد على ذلك، والذي يقرأ كتابه "غربة الكاتب العربي" يلمس ظلالا من رثاء النفس وانعكاسات مختلفة لما يحكيه عن الكتاب والأدباء على نفسه وحكاياته عنهم، ففي هذا الكتاب يكشف عن جزء خاص من مذكراته ويومياته، فنجده يتحدث عن الكتابة وعلاقته بها فيقول:

"وجدت نفسي أكتب في يومياتي لدى تلقيّ نسخة من الكتابين 'أستطيع لشدة فرحي أن أمشي على غيمة' ولم تخفف من فرحي تداعياتٍ اجتاحتني وأنا أمشي على غيمةٍ شفافة وأقفز منها إلى غيمة أخرى على ارتفاع شاهق... وكان أن بدأت أتساءل لماذا الكتابة؟ ما هو عشق الكتابة هذا؟ هل يمكن أن تكون الكتابة مجرد عشق؟ ولماذا تجتاحني هذه الأسئلة في زمن الكهولة؟ .. أول ما خطر لي في بحثي عن معنى الكتابة أنها في حقيقتها نوع من الولادة، لكن دون عسر، وقد تقبلت هذه المقولة باعتبار أننا ننظر إلى الكتابة على أنها عملية إبداع وخلق .. الكتابة نوع من الولادة، والكتاب طفل لا ينمو كاملا بل ينمو باستمرار من خلال التفسيرات العديدة وحتى المتناقضة التي يقدمها القراء والنقاد، ومن خلال التفاعل مع كتابات أخرى، ومن خلال الإيحاء أو التأثير".

تجدر الإشارة إلى أن حليم بركات كرم عام 2017 من خلال صندوق القدس والمركز الفلسطيني بواشنطن.

font change

مقالات ذات صلة