أدب الداخل وأدب المهجر... مسافات قلصتها التكنولوجيا

أدب الداخل وأدب المهجر... مسافات قلصتها التكنولوجيا

لا يخفى أنّ الثورة التكنولوجية خلقت عالما موازيا للواقع، حتّى لكأنّه يكاد ينافس الواقع في واقعيته، وأحدثت تغييرات في شتّى المجالات، انعكست بدورها على ميدان الأدب وعلى حياة الأدباء وفضاءاتهم، بحيث انفتحت مفاهيم مثل البعد والاغتراب والعزلة على نوافذ ومسارات جديدة تكون متلائمة مع تغييرات العالم الجديد.

هناك أدباء يعيشون في حيّز محدود في أمكنتهم وبلدانهم، لكنّهم يحلّقون في جغرافيّات متخيّلة، يهاجرون بأخيلتهم عبر الأزمنة والأمكنة، يخلقون واقعهم المتخيّل ويسكنونه، يعيشون في تفاصيله التي يؤثثونها، ولكنّهم يظلّون مقيّدين بسلطة المكان، الداخل نفسه، في حين اضطر آخرون إلى ترك أمكنتهم الأثيرة وأوطانهم ليتنقّلوا من مكان لآخر، أو يستوطنوا مهجرا أو منفى، لكنّ أوطانهم تسكن كتاباتهم، فتراهم يرتحلون إلى ماضيهم وذكرياتهم وحكاياتهم ويعودون عبر الخيال والتذكّر إلى جغرافياتهم الواقعية الحقيقية السابقة. وهنا بين الداخل والخارج يكون تداخل الجغرافيات الحقيقيّة والمتخيّلة، بالتزامن مع تداخل الأخيلة والذكريات، والصراعات التي لا تهدأ في نفوس أصحابها.

استطلعت "المجلّة" آراء عدد من الأدباء الذين اضطرّتهم الظروف للخروج من بلدانهم والإقامة في أماكن أخرى، في منافٍ ومهاجر تحوّلت إلى أوطان بديلة لهم لكنّ كتاباتهم تظلّ تدور في فلك أمكنتهم السابقة، من دون أن تغفل تأثير الأمكنة الجديدة عليها وعليهم.

الأدب في الداخل يتميز عن أدب الخارج، فالداخل يضطرّ بحكم الرقابة إلى استخدام الرمز وعدم التفكير بمواجهة جدية ستكون مكلفة، بينما يتمتع أدباء الخارج بحرية التعبير عن الرأي، وكذلك حرية الكتابة

فواز حدّاد

الروائي السوريّ  فوّاز حدّاد، المقيم في لندن يعبّر عن اعتقاده أنّه "من المبكر الحديث عن أدب الداخل وأدب المهجر والمنفى، خاصة بالنسبة للسوريين، مع أنه مضت مدة كافية ليظهر هذا التقسيم بشكل جلي، لكنه مؤجّل، فالذين هاجروا ونزحوا منهم، ما زالت اثار الخروج السوري تظهر في ثقافتهم وأدبهم وتتعلق بظروف الهجرة ودروب الموت والشقاء، إضافة إلى ذكريات المعاناة في الداخل، كما أن الثورة ما انفكت الرقم الأول في نتاجاتهم، كذلك القمع والتنكيل ومآسي الحرب".

ويلفت صاحب "السوريون الأعداء" إلى أنهم "غادروا الوطن، لكنهم ما زالوا مسكونين به، فكأنهم لم يغادروه. عدا - وهو أمر مهمّ - تعتقد الأغلبية منهم رغم مضي اثني عشر عاما على الأزمة السورية، أنهم في انتظار العودة، كانت هكذا من عام لآخر. مع أنهم استقروا في البلد البديل، لكنهم غير جادين في الاندماج".

فواز حداد

ويرى فوّاز حدّاد أنّه "من جانب آخر، لم تعد الهجرة، تحمل المعنى المتعارف عليه، وهو انقطاع الصلة بين الداخل والخارج، فإمكانية التواصل بينهما متوافرة وبلا كلفة تذكر، فبينما كانت الرسالة البريدية تأخذ شهرا وأكثر بين الذهاب والعودة، بات التواصل يوميا والمدة مفتوحة. ويستطيع الكاتب الاطلاع على الفعاليات الثقافية، وكذلك الهموم الأدبية وما يحصل من دون عوائق. وبالوسع المشاركة فيها ولو بشكل محدود".

ويشير إلى حيّز الحرّية الأكبر الذي يتمتّع به الكاتب في الخارج: "الأدب في الداخل يتميز عن أدب الخارج، فالداخل يضطرّ بحكم الرقابة إلى استخدام الرمز وعدم التفكير بمواجهة جدية ستكون مكلفة، بينما يتمتع أدباء الخارج بحرية التعبير عن الرأي، وكذلك حرية الكتابة. إن التمايز بين الأدبين لا شك سيظهر إن لم يعودوا، وحتى في حال العودة سيضيف شيئا ثمينا، وهو الاعتياد على الكتابة من دون رقيب".      

 تمكن الهمذاني، ومن دون لابتوب وإنترنت ووسائل تواصل اجتماعي، ومن خلال تنقله بين الأمكنة، من تقديم صنف أو شكل أدبي مُبتَكر ومميَّز عدا عن كونه صورة خالدة لزمانه


دنى غالي

مصدر تراثيّ

في حين تعود الروائية والمترجمة العراقية دُنى غالي، المقيمة في الدنمارك، إلى التاريخ لتستلهم بعض الأحداث والمواقف وتسقطها على واقعنا اليوم بين أدب مرتحل وآخر في الداخل، وتقول إنّ "المقامة التي تعد من أبرز فنون الكتابة ومن أغنى مصادر التراث العربي ومراجعه كان صاحبها عربيا قد وُلِد في همدان، ومنها طوى ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل ما بين عتبتي نيسابور وجرجان، إذ تنقّل ما بين مدن بلاد فارس وأفغانستان حتى توفي في هراة، إحدى مدنها. كان متمكنا من الثقافتين العربية والفارسية وضالعا في أدبهما".

دنى غالي

وتتساءل دُنى غالي: "كيف نصنّف اليوم مأثرته هذه التي اتبعها من بعده عدد من الكتّاب المتميزين، وانتقلت بفضله إلى الفارسية والعبرية والسريانية، ونالت حظّا من الشهرة، وتُرجمت الى ما لا يُحصى من اللغات؟ هل هي من أدب الداخل أم المهجر والمنفى؟ وهل حالت الحضارة الإنسانية في القرن الرابع الهجري دون أن يُنجَز هذا العمل؟ هل اقتصر التراكم المعرفي على زمن الثورة المعلوماتية؟

وتراها تؤكّد أنّه ليس هناك من تقسيم جلي لهذا المنتج الأدبي، والأهم من ذلك هو أن التقسيم لا يشكّل أهمية في تقييم هذا العمل الأدبي. كما تؤكد أنه "بغض النظر عن العدد الكبير الذي ضاع من المقامات، ولكن الهمذاني، ومن دون لابتوب وإنترنت ووسائل تواصل اجتماعي، وغوغل وتشات جي بي تي، وعبر تنقّله في الأصقاع، من مدينة إلى مدينة، سواء كان بقصد لقاء علاّمة أو مجلس، أو هروبا من غضب فقيه أو حاكم أو سلطان (أي سواء هجرة طوعية أم جبرية) تمكّن من تقديم صنف أو شكل أدبي مُبتَكر ومميَّز عدا عن كونه صورة خالدة لزمانه، بما ينطوي عليه تاريخه من أحداث وسياسات وعادات وأخلاق. أي هي التجربة الأدبية برمتها، بمناخها الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي عاشه الكاتب ونقله إبداعيا".

علينا أن نكونَ حذرين من أنّ "الحرية" التي أتاحها "المكان ــ المنفى" أكثرتْ من "المكتوب المتماثل" والتجارب المتسرّعة. وإذا سلمّنا بتأثيرات الفضاء السوسيو ــ ثقافي قد نجد تمايزا في أدب الحالتين إذ يظلّ "الاختلاف" القانون الجوهري للفعل الإبداعي

خالد حسين

وسوم فارقة

أمّا الناقد والأستاذ الجامعي السوري خالد حسين المقيم في سويسرا، فإنه يسير في اتّجاه آخر ويبحر في جهة مختلفة وهو يلفت إلى أنّ "السُّؤال المطروح ذاته يبحث عن اصطياد (أو يدور حول)"اختلاف"، عن "تقسيم" بين أدب المهجر(المنفى) وأدب الداخل أم (لاـ اختلاف)، فالأمر سيان بين الخارج والداخل بفعل الانعطاف المعلوماتي في المجتمعات البشرية. في واقع الحال ومهما بلغ "الانعطاف المعلوماتي" في زخمه وحضوره فهو لا يضع المنفيَّ كاتبا، شاعرا، ناقدا، فنانا... إلخ في قلب "المكان"، لا ينغمر بمكانه الأوّل وبكائناته، ذاك المكان المقيّد بشروطه، الخاضع لسّلطة فاقعة أصلا، المكان الذي حدّ ويحدُّ من "الاختلاف ذاته"، إذ يعمُّ التماثلُ في كلّ شيء".

خالد حسين

ويذكر الدكتور خالد حسين أنّه "هنا تنهض نعمةُ المنفى على أنه الفضاء السوسيوـ ثقافي الذي يطلق المخيّلة الأدبية، مقوّضا الشرط السّلطوي المحدق بالمكان، ويتيح من ثمّ لأول مرة قراءة المكان الأول في انفساح ذاكراتي. ربما هذه السّمة تتراءى لي في الأعمال الروائية التي ضَمّنْتَها في كتابي "سميائيات الكون السردي" وفي كتابي الآخر (العلامة الشّعرية) الذي لم يصدر بعدُ. هذا التحرّر للمخيّلة بفعل المكان ــ المنفى (وله إكراهاته كذلك) هو شرطٌ أساسيٌّ للفعل الإبداعي لكن الأمر في الحالتين مرتبط بصناعة "الاختلاف" ذاته، فلا أدب من دون اختلافٍ، وهو الذي يُعيّن انتماء المكتوب إلى نطاقِ الأدب من عدمه".

ويستدرك خالد حسين بالتشديد على أنّ "علينا أن نكونَ حذرين من أنّ "الحرية" التي أتاحها "المكان ــ المنفى" أكثرتْ من "المكتوب المتماثل" والتجارب المتسرّعة، بل المشتبه فيهما كذلك. وإذا سلمّنا بتأثيرات الفضاء السوسيو ــ ثقافي، وتبعا لإكراهاته المختلفة، على صناعة وسوم المنتج الإبداعي قد نجد تمايزا في أدب الحالتين إذ يظلّ "الاختلاف" هو القانون الجوهري للفعل الإبداعي. لكننا في الحالة السورية نحتاج إلى وقت أطول لكي يسهم المنفى بما هو فضاء مغاير مكانا ولغة وثقافة وكينونة في صناعة أدب له وسومه الفارقة".

صحيح أن التكنولوجيا حولت العالم إلى قرية صغيرة ولكن ما يعيشه الكاتب على أرض الواقع يؤثر بشكل كبير عليه، حيث يتفاعل هذا الأخير مع محيطه القريب بطريقة مباشرة في قالب من الأخذ والعطاء


آسين شلهوب

على أرض الواقع

أمّا الكاتبة والروائية اللبنانية الكندية آسين شلهوب المقيمة في كندا، فتعبّر بدورها عن اعتقادها "أن هناك اختلافا بين أدب المهجر وأدب الداخل، وهذا الاختلاف يتجلّى في الإنتاج الأدبي المتعلق بشخصية الكاتب وبالظروف المحيطة به. إن الخبرات اليومية والأجواء المتفاوتة التي يعيشها الكاتب تترك أثرا كبيرا على عملية الخلق والإبداع لديه، صحيح أن التكنولوجيا حولت العالم إلى قرية صغيرة ولكن ما يعيشه الكاتب على أرض الواقع يؤثر بشكل كبير عليه، حيث يتفاعل هذا الأخير مع محيطه القريب بطريقة مباشرة في قالب من الأخذ والعطاء مما يُتيح له تغيير أو خلق قناعات جديدة ورؤية مختلفة".

آسين شلهوب

كما ترى آسين شلهوب "أنّ مُنتج الكاتب في الداخل أو في المهجر يعكس معرفته الثقافية مع خبرته الحياتية وقدرته الإبداعية التي تكون مستقاة من الجو العام الذي يُحيط به، بالإضافة إلى عوامل أخرى مهمة مستمدة من ماضيه وحاضره المتأثر بمحيطه".

وسائل التواصل لم تشفِ من الحنين ولم تخفف من وطء الغربة فحسب، بل ساهمت بجعل العالم صغيرا جدا. ستجد الإنسان العادي المقيم في أصغر قرية على تخوم بلادنا، يعلم بما يجري في الأقاصي المختلفة عنه


رزان نعيم المغربي

الجودة هي الفيصل

وتدخل الروائية والقاصة الليبية رزان نعيم المغربي في صلب السؤال مباشرة، دون الإشارة للتنظيرات حول أدب المهجر والمنفى والداخل والتقسيمات الحادة في العملية الإبداعية، التي ترى أنها وجدانية فيما يتعلق بالكتابة عن مشاعر الحنين والغربة، أو تناول فكرة وجود الكاتب خارج بلده سواء باللجوء أو التهجير القسري والطوعي.

وترى رزان نعيم المغربي "أن علاقة المكان بما يبدعه الكاتب في السابق وقبل عصر الحداثة والاتصالات، كانت علاقة شاقة وشائكة، ولو عدنا للروايات الكلاسيكية التي كتبت في الخمسينات وحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي، نجد تشابها في النظرة إلى الغرب ومقارنة حادة (حداثة، ثقافة، مجتمع منفتح) وموضوعها الذكورة والأنوثة كما كتب عنها جورج طرابيشي".

وبالحديث عن واقعنا المعاصر تقول صاحبة "نساء الريح": "اليوم المشهد والرؤية بعيدان تمام البعد عما اهتم به أسلافنا الذين هاجروا وكتبوا. وسائل التواصل لم تشفِ من الحنين ولم تخفف من وطء الغربة فحسب، بل ساهمت بجعل العالم صغيرا جدا. ستجد الإنسان العادي المقيم في أصغر قرية على تخوم بلادنا، ولم يسبق له السفر، يعلم بما يجري في الأقاصي المختلفة عنه في كل شيء".

رزان نعيم المغربي

وتلفت الليبية رزان المغربي أنّه "لهذا طرح الموضوع بالشكل التقليدي أصبح خاليا من المعنى. التعقيدات التي تواجه المهاجر اليوم تختلف كثيرا عن القرن الماضي، ولم يعد الغرب يشكل صدمة حضارية، وصار الاندماج مع المكان أسرع، والتواصل مع مكانه الأول أسهل، ولهذه الأسباب لست منحازة إلى التصنيفات، مع الأخذ بالاعتبار أن أدباء الغرب أصبحوا يكتبون حتى عن الهجرة غير الشرعية ويتعايشون مع الشخصيات التي عانت حتى تصل إلى شواطئهم والأمثلة كثيرة، وتبقى حساسية المبدع وجودة العمل هي الفيصل لأن الأدب ليس مرهونا بمكان وزمان فقط، بل الرهان فقط على جودته أو رداءته".

font change

مقالات ذات صلة