المستعرب باولو برانكا: حضارات المتوسّط تغنّي الموسيقى نفسها

حضور الإسلام ما زال ضعيفا

المستعرب باولو برانكا: حضارات المتوسّط تغنّي الموسيقى نفسها

ميلانو: باولو برانكا (ميلانو، 1957) مستعرب ومترجم إيطالي، مختص بالشؤون الإسلامية، حاصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها في كلية اللغات الشرقية بجامعة "كا فوسكاري" في البندقية عام 1982. في عام 1989 أصبح باحثا في الإسلام في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو، وبدأ بتدريس اللغة العربية والأدب العربي منذ عام 1994، وهو محاضر في جامعات ومعاهد مختلفة، من بينها جامعة"أوربانيانا" البابوية التابعة للكنيسة الكاثوليكية، معهد العالم العربي في باريس، مركز الدراسات العليا للدفاع في جامعة روما، جامعة لوزان، جامعة بيزا، جامعة فلورنسة وجامعة عين شمس.

- تخرجت في قسم اللغة العربية وآدابها في كلية اللغات الشرقية بجامعة "كا فوسكاري" في البندقية في 1982. ما الذي دفعك إلى اختيار دراسة اللغة العربية وآدابها، ومن ثمّ تكريس جلّ وقتك لدراستها وتدريسها فيما بعد؟

اخترت دراسة اللغة العربية لأنني كنت أريد تعلّم لغة نادرة، وفي تلك الفترة، قبل أربعين عاما، لم تكن اللغة العربية محط جاذبية. فكّرت باللغة اليابانية، لكن اليابان بعيدة جدا عن إيطاليا، وفي الهند يتكلمون مئات اللغات، فاخترت العربية لأنها اللغة الشرقية الأقرب إلى إيطاليا، ولأن العلاقات بين شمال إفريقيا والشرق الأوسط وإيطاليا، قديمة ولها جذور ضاربة في التاريخ. في الحقيقة، كان طموحي في البداية إيجاد وظيفة ما في إحدى شركات النفط إلا أن هذا الأمر لم يتحقق. ربما أتقاضى الآن راتبا أقل ممّا كنت أتوقعه، مع ذلك، فإنني سعيد لأنني أكملت دراساتي وصعدت السلم الأكاديمي كباحث وأستاذ في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو. في هذه الأثناء، كان حضور الجاليات العربية والمسلمة في ميلانو وفي إيطاليا بشكل عام، قد ازداد عددا، مما أتاح لي الفرصة للعب دور ثقافي حتى خارج الجامعة، وذلك من خلال المؤتمرات واللقاءات الكثيرة في المكتبات العامة وفي المساجد وفي الكنائس لتوطيد الحوار بين الأديان وتعزيز الروابط بين حضارات دول المتوسط، فكلنا أبناء المنطقة نفسها منذ القدم.

- في عام 1984 حصلت على منحة من الحكومة المصرية، فواصلت من خلالها بحثك في القاهرة عن الفكر العربي المعاصر، كيف عشت هذه التجربة؟

طبعا هذا مهم، فقد تركّزت الدراسات الاستشراقية لمدة طويلة على الجغرافيا السياسية والاقتصاد دون الاهتمام بحياة المجتمعات العربية المحلية والمهاجرين العرب الموجودين في أوروبا وفي إيطاليا بشكل خاص لما تملكه من أواصر مع الدول العربية منذ عهد الإمبراطورية الرومانية. لقد اخترت منذ البداية دراسة اتجاهات الفكر العربي والإسلامي المعاصر.في عام 1988 أجريت أيضا مقابلة مع الأستاذ المرحوم محمد أحمد خلف الله، المفكر المصري وأحد رواد الحداثة الإسلامية، الذي كتب كتابا مهما جدا عن الفن القصصي في القرآن. كتب هذه الأطروحة في الجامعة لكنهم صادروها. لماذا؟ لأنه أشار فيها إلى أن النصوص القرآنية مجازية الهدف منها التوجيهات الأخلاقية. مثلا بعض الكلمات في سورة ما، لها معنى مختلف في سورة أخرى. وهو كان يتساءل: كيف يمكن ذلك؟ وعزا الأمر إلى أن أسلوب الفن القصصي وغايته تختلف من سورة إلى أخرى في القرآن الكريم. وبالتالي، إن دور الشخصيات وأقوالها قد يتغير حسب الهدف التربوي والروحاني للآيات المذكورة، وهذا يعني أنه ليس ثمة أخطاء تاريخية، بل مجرد اختلاف أسلوبي.

لا يمكن إعادة المجتمع المثالي "المتخيّل"، المسيحي أو الإسلامي، مع صحابة الرسول أو مع حواريي المسيح بعد كل هذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، فلا بأس بالتجديد مع الحفاظ على المبادئ والقيم السامية، ولكن بأسلوب وتطبيق مناسبين لعصرنا

الحداثة والأديان

- كرّست أبحاثك عن العلاقة بين الإسلام والعالم الحديث، خاصة فيما يتعلق بالأصولية الإسلامية والإصلاحية. كيف ترى هذه العلاقة وما إذا كانت جهود العلماء المستعربين يمكن أن تغيّر المفاهيم النمطية عن العرب والمسلمين بشكل عام؟

أعتقد أن العلاقة بين الحداثة وكلّ الأديان الأخرى، ليس الإسلام فقط، ولكن المسيحية واليهودية وأديان الشرق الأقصى أيضا، لديها إشكاليات كبيرة. فكما نعرف، الحداثة موضوعة مادية علمية تكنولوجية، ولا تهتم كثيرا بالأبعاد الروحانية والفلسفية والحسّية، وقد غيّرت أسلوب حياة الناس في كل أنحاء العالم. ففي فترة قصيرة، انتقلنا من مجتمع زراعي بسيط إلى مجتمع صناعي وتكنولوجي متطور جدا، مما فرض نهجا حياتيا مختلفا في المدن وحتى في القرى النائية. لذلك، فالأديان، بلا استثناء، تواجه التحديات نفسها في العالم كلّه، وما يتبع ذلك من أزمات في العائلة بين الأب والابن، بين الرجل والمرأة، بين الفرد والجماعة، وبين أفراد المجتمع برمّته. إنها تحديات لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها، فلم يعد من مجال للأسلوب التقليدي الذي كنا ننتهجه قبل قرن من الزمان، بل حتى قبل عقدين، فلقد أفسحت التكنولوجيا المكان لأشياء جديدة بمستويات مختلفة بين الفرد والمجتمع وبين الذكر والأنثى، وهو ما دفع الكثير من المفكرين العرب والمسلمين لكتابة مجلدات حول هذا الموضوع، بهدف الإصلاح أو التجديد. برأيي، علينا أن نركز على المصطلحات في هذه الحالة. لماذا؟ لأن الإصلاح يعني إعادة النظر حتى في بعض المسلّمات، علمية كانت أم اجتماعية، ومن العبث ابتغاء إصلاح يستقي أفكاره من الماضي فحسب، دون اعتبار الحاضر ومكوناته الجديدة. لا يمكن إعادة ذلك المجتمع المثالي "المتخيّل"، المسيحي أو الإسلامي، مع صحابة الرسول أو مع حواريي المسيح. حسن، هذا يبدو معقولا إلى حد ما، ولكن كيف السبيل إلى ذلك بعد ألف أو ألفي سنة، وبعد كل هذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية؟ إذن، لا بأس بالتجديد مع الحفاظ على المبادئ والقيم السامية، ولكن بأسلوب وتطبيق مناسبين لعصرنا.     

- في عام 1989 أصبحت باحثا في العلوم الإسلامية بالجامعة الكاثوليكية في ميلانو، وتقوم بتدريس اللغة العربية والأدب العربي منذ عام 1994 في جامعات مختلفة، ومنذ عام 1998 أصبحت مسؤولا عن قسم اللغة العربية وآدابها. ما الذي يدفع الطلاب لهذا الاختيار اليوم؟

لا، لا، الاهتمام موجود منذ فترة طويلة، ولكن كما قلنا من قبل، كان هناك مدينتان فقط في إيطاليا توجد فيهما كلية الألسن الشرقية، حيث يمكن دراسة اللغة العربية أو كل المواد المتعلقة بها. أجد هذا طبيعيا، لأن العلاقات بين الجمهوريات البحرية (أمالفي وبيزا وجنوة والبندقية)وشمال إفريقيا والشرق الأوسط كانت متينة منذ القدم. أما فيما يتعلق بتعليم اللغة العربية أو تاريخ البلدان العربية باللغة الإيطالية عن طريق الترجمات الكثيرة الموجودة في الكليات والمعاهد الإيطالية، فعدد الطلاب ليس كبيرا، واختيارهم ينبع بالدرجة الأولى من اهتمامهم باللغة العربية. ثمة أسباب عديدة لهذا الاهتمام، كأن يكون لديهم أصدقاء من العرب، أو لأنهم زاروا بعض البلدان العربية بقصد السياحة، ويريدون أن يعرفوا المزيد عن طريق دراسة اللغة وقراءة بعض النصوص العربية. فنحن نجد أحيانا صورة بلد مجسّدة في رواية بشكل أدق وأفضل مما تجده في دراسة أكاديمية. في فيلم مصري أو في رواية لنجيب محفوظ، تجد صورة مصر حيّة وناطقة. ولذلك بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل، ازدهرت ترجمة الأدب العربي المعاصر وازداد انتشاره في إيطاليا...

وبدورك ساهمت في ترجمة رواية "زقاق المدق"..

نعم، لأن معرفة الأدب العربي قبل ذلك، كانت محصورة بألف ليلة وليلة، وأحيانا بترجمات من اللغة الإنكليزية أو الفرنسية.

لا يوجد اتفاق أو تعاون فيما بين المجموعات المسلمة في إيطاليا، فكل واحدة منها تقدّم نفسها ممثلا وحيدا للإسلام أمام الهيئات العامة، وهذا غير معقول، ويسبّب تأخيرا كبيرا في الحصول على نتائج محدّدة

الإسلام في إيطاليا

- أنت عضو في لجنة "Oasis" العلمية، وجمعية دراسات الشرق الأوسط"SeSaMo"، التي كنت أحد مؤسسيها ورئيسا لها، ولجنة الإسلام الإيطالي، التي أنشأتها وزارة الداخلية. هل تعتقد أن هذه اللجان كان لها أي تأثير على العلاقة بين المهاجرين العرب المقيمين في إيطاليا أو المسلمين بشكل عام؟

للأسف الشديد، اهتمام مؤسسات مثل وزارة الداخلية بشؤون الأجانب في إيطاليا لم يحالفه الحظ رغم مرور سنوات عديدة على إصدار قوانين لتنظيم حضور الدين الإسلامي في إيطاليا. ثمة سببان لذلك: الأحزاب السياسية كلها، سواء كانت يسارية أو يمينية، تخشى هذا الموضوع. ومع انتشار مقولة "إرهاب الإسلاميين" في العالم، ولكن ليس في إيطاليا، لأنهم لم يقوموا بأي عملية هنا، عمّت في الغرب، للأسف الشديد، صورة سلبية عن الدين الإسلامي. والحال أن السياسيين يتلافون الخوض في هذا الموضوع، خوفا من فقدان أصوات الناخبين. أما السبب الآخر، وهو مهم جدا أيضا، فنجده في تفرّق المسلمين، فلا يوجد اتفاق أو تعاون فيما بينهم، وكل فرقة إسلامية في إيطاليا تقدم نفسها كممثل وحيد للإسلام أمام الهيئات العامة، وهذا غير معقول، ويسبب تأخيرا كبيرا في الحصول على نتائج محدّدة. لقد بات الأمر وكأننا نشهد مسرحية بلا بداية وبلا نهاية، وهذا ما يحزنني كثيرا. نجد مثلا في شارع فابيو تيستي في ميلانو، كنيسة لمعتقد السيَنتولوجيا (أو العِلمولوجيا، كما في بعض الترجمات التقريبية، وهي مجموعة من المعتقدات والممارسات الدينية، أنشأها كاتب الخيال العلمي الأميركي رون هوبارد 1911-1986). أنا لا أعتقد شخصيا أن السينتولوجيا ديانة، ولا توجد اتفاقية بينهم وبين الدولة الإيطالية. أما الإسلام، فهو دين إبراهيمي، أسوة باليهودية والمسيحية، ولديه زهاء مليار ونصف المليار من الأتباع، وهذا يعني نسبة كبيرة من المؤمنين في العالم، لديهم علاقات معنا منذ القدم، ومع ذلك، ليس لهم الحق في تسمية المسجد باسمه، بل يسمونه مركزا ثقافيا إسلاميا أو جمعية ثقافية فقط. هذا طبعا إهمال كبير من قبل إيطاليا، بينما في فرنسا وألمانيا وبريطانيا نجد مساجد رسمية دون مشاكل مع الهيئات العامة والناس معتادون على رؤية المعابد من كافة المعتقدات.  

المستعرب الإيطالي باولو برانكا يتصفّح "المجلة"

- هناك دراسات قام بها باحثون عرب حول دوافع المستعربين المعاصرين، وبالأخص في تكوين وتثبيت الصور النمطية عن العرب والحضارة الإسلامية. هل ما زالت هذه الشكوك قائمة بعد أفول الاستشراق القديم أم أن الأمور تغيّرت نوعا ما؟ أي أن أسلوب الهيمنة والاستئثار لم يعد قائما؟ 

نعم، نعم، هذا مفهوم. فكما كتب إدوارد سعيد في كتابه المشهور "الاستشراق"، تلك المعرفة وتلك الأساليب التي استخدمت في فترة التمدد الاستعماري كانت مفيدة للسيطرة على شعوب العالم الثالث وبلدانه. لكن الحمد لله نجد أخيرا الكثير من المستشرقين المتخصصين في اللغة والأدب والثقافة العربية، ينظرون نظرة إيجابية إلى هذه الحضارة، وثمة دراسات كثيرة وجديدة في الأسلوب وبالهدف. مع ذلك، هناك صعوبات جمّة في تغيير فكر رجل الشارع، لأنه يقرأ من الجرائد عناوين المقالات فقط، ويشاهد برامج تلفزيونية غالبا ما تكون موجهة، بمحتواها وأغراضها، لكسب أصوات الناخبين. وبالطبع، العالم العربي والإسلامي يعاني من مشاكل كبيرة، مع آثار كارثية. بالطبع، هذه الشعوب ليست مسؤولة عما يحدث في الشرق الأوسط أو في البلدان الأخرى. فبعد الربيع العربي مثلاُ، اندلعت حروب دامية في ليبيا وفي سوريا وفي العراق واليمن، وكانت هذه الشعوب ضحية لعبة سياسية دولية بين القوى العظمى، ودائما ما تجري هذه الحروب في الحيز العربي أو الإسلامي. إذن، الإمكانات موجودة، لكن علينا أن نبذل جهدا أكبر في تنمية الثقافة. على سبيل المثال، لا توجد باللغة الإيطالية كتب أساسية من الثقافة العربية، مثل "مقدمة ابن خلدون"، كما لا نجد كتبا تراثية مثل "صحيح البخاري" أو "صحيح مسلم" أو "السيرة النبوية" وغيرها، أي أن الكتب الإسلامية الأساسية غير متوفرة بعد باللغة الإيطالية. ما أعنيه، أننا الآن على الطريق الصحيح، ولكنه ما زال طويلا بعد.

الوجود العربي

- استمر الوجود العربي في صقلية أقل بكثير مما عليه في إسبانيا، لكن الثقافة العربية الإسلامية، الغنية بالمساهمات الشرقية واليونانية، وجدت أرضية مواتية للغاية في الجزيرة، التي استمدت منها طاقة جديدة وحيوية استمرت حتى بعد انتصار النورمانديين. كيف يقيّم الإيطاليون هذا الحضور؟

لا بالعكس، نجد في تاريخ العرب في صقلية إيجابيات كثيرة. على كل حال، فيما يتعلق بتاريخ الحضارات في حوض البحر الأبيض المتوسط، علينا أن نعترف بأن انتقال المعرفة من حضارة إلى أخرى، قديم قدم التاريخ. كان هناك دائما تأثير متبادل بين الشعوب. فلا يمكننا أن نفهم الكتاب المقدس دون التماس الحضارة المصرية القديمة. كان موسى مصريا إلى حد ما، يهوديا، ولكن مصريا. أو حضارات بلاد الرافدين قبل اليهودية والمسيحية والإسلام. على فكرة، في بداية الخلافة، بعد وفاة النبي (ص)، أي مع الخلفاء الراشدين، بقيت الخلافة فترة قصيرة في الجزيرة العربية، ثم انتقلت إلى دمشق، وبعد ذلك إلى بغداد، وبالنظر إلى تجارب الإمبراطوريات القديمة، التي كانت موجودة في المنطقة، كان الوقت مؤاتيا لتأسيس دولة إسلامية جديدة.

-إذن، هل كان الوجود العربي في صقلية إيجابيا أم سلبيا؟

في كل الأشياء، هناك دائما إيجابيات وسلبيات، ولكن كما حدث في الأندلس، الفترة الإسلامية في صقلية لم تكن قط سلبية. فقد شهدت الجزيرة في تلك الفترة تطورا مشهودا في كل المجالات. جلب العرب الثقافة والشعر والفن والرياضيات والطب وعلم الفلك إلى الجزيرة. الآثار والمباني التي تعد اليوم من بين أهم المواقع العالمية لليونسكو، كما يتضح من جمال حلبة باليرمو والكاتدرائيات العربية-النورماندية. بالإضافة إلى منتجات زراعية جديدة مثل الأرز والحمضيات. ثم أن القديس أغوسطين، وهو من أهم الشخصيات المؤثرة في المسيحية الغربية، كان من الجزائر، وأصبحنا نحن الأوربيون مُوَحِّدين ومسيحيين بفضل من وصل من الشرق الأوسط للتبشير بالإنجيل. إذن لماذا ننظر سلبا إلى مناطق وصل منها ديننا، ناهيك عن المعرفة والطعام. القمح من مصر مثلا. حتى أن قيصر كان يفكر بنقل العاصمة من روما إلى الإسكندرية بسبب القمح، وبسبب الموقع الإستراتيجي للإسكندرية، كما نقل قسطنطين العاصمة إلى قسطنطينية بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية.   

ينتمي المستشرق كارلو ألفونسو نالينو (1872-1938) إلى التراث التاريخي والثقافي العظيم للمستعربين الإيطاليين. نالينو هو أحد أعظم أساتذة الدراسات العربية والشرقية وقد كرس حياته كلها للغة العربية والدراسات القرآنية، والمعاجم، واللهجات، والأدب. من بين هؤلاء العمالقة يمكننا أن نذكر أيضا ميكيل أماري (1806-1889)، إنياسيو غويدي (1834-1935)، تشيليستينو سكياباريللي (1841-1919)، وغيرهم. هل يسير المستعربون الجدد على خطى هؤلاء أم أنهم اختاروا، نظرا لتغير الظروف، طريقا مختلفا تماما عن الماضي؟

هناك بعض المستشرقين من الشباب يتبعون هذا النهج، ولكن هذا صعب لأنه بحاجة إلى تخصص دقيق في اللغة وتاريخ اللغة وفي المخطوطات القديمة. والبعض الآخر يهتم بالحياة اليومية في المجتمعات العربية والإسلامية، وبين المهاجرين. أحيانا ينظر البعض إلى هؤلاء بعين الشك ويقولون: أنت صحافي، أو أنت أخصائي اجتماعي ولست مستشرقا أو مستعربا كما في الصورة التقليدية. أنا أعتقد أننا بحاجة إلى الاثنين. من يتابع الدراسات حسب الأساليب الكلاسيكية القديمة، مع المخطوطات واكتشافات آثار الماضي، ومن يهتم أيضا برجل الشارع، الإيطالي أو العربي، المسيحي أو المسلم، هنا أو في البلدان الأخرى.

 - أي أن يكون على تماس مع الواقع...

بالطبع. فكما في شخصية الفرد أبعاد مختلفة، نجد أبعادا مختلفة في الحضارات أيضا، تكون أحيانا قريبة من الفلسفة والدين، وأحيانا أخرى متعلقة بقضايا الحياة اليومية والاجتماعية والاقتصادية.

مع ازدياد الفتوحات، أخذت الحضارة الإسلامية من الحضارات المجاورة كل ما هو مفيد لبناء الدولة، إداريا وماليا وعسكريا، واستمر هذا لثمانية عقود مع بني أمية


شكوك

- العرب ما زالوا ينظرون حتى الآن بعين الشك إلى المستشرقين بسبب الماضي حيث لعبوا دورا كبيرا في تمهيد الطريق للاستعمار..

لوي ماسينيون كان مستشرقا كاثوليكيا فرنسيا مشهورا، وكان ضد السياسة الفرنسية في الجزائر مثلا. كان بين المستشرقين في الماضي من هم ضد انتهاك حقوق الشعوب العربية والإسلامية من قبل السلطات الاستعمارية الأوروبية أو الأميركية فيما بعد. ولكن البعض منهم ساهم بمعارفه في تمهيد الطريق لهم. أحيانا ثمة علاقة بين المثقف والسلطة السياسية وفي خدمتها. يبقى الحل المثالي هو التعاون بين المتخصصين من الجانبين. الناحية السلبية في الاستشراق كانت تكمن في نظرتهم، التي كانت تشبه نظرة شخص إلى حوض أسماك: نحن الباحثون وأنتم الأسماك. لا، أنتم لستم أسماكا، أنتم بشر. إذن التعاون بين الباحثين من الجانبين هو الحل المثالي والوحيد برأيي لإزالة هذه الشكوك.

 - حتى لمن هم على دراية سطحية باللغة والثقافة العربية الإسلامية، يبدو واضحا منذ البداية أن هذه اللغة كانت وستظل في الأساس لغة القرآن، فهل تعتبر هذا الأخير أساسيا في هذه العلاقة؟

دون معرفة القرآن الكريم لا يمكن أن نفهم شيئا عن الأدب والفن والحياة اليومية في المجتمعات العربية والإسلامية. والشيء نفسه ينطبق على الكتاب المقدس بالنسبة إلى المجتمعات الغربية. اليوم، كلا الطرفين يواجهان خطرا كبيرا وهو الأمية الدينية. أعني أن الجيل الجديد من الشباب لا يعرف الكتاب المقدس، حتى في الجامعة الكاثوليكية التي أُدَرِّسُ فيها. فمثلا، عندما أخبر طلابي أن في القرآن الكريم سورة يوسف وأسألهم: من هو يوسف؟ البعض منهم يقول إنه يوسف النجار، خطيب مريم العذراء، وأنا أوضّح لهم، كلا، هناك النبي يوسف الابن الحادي عشر من أبناء يعقوب، وهو مهم لليهود وللمسلمين وللمسيحيين أيضا. توماس مان كتب رواية بعنوان "يوسف وإخوته" (ثلاثية كتبها توماس مان ما بين أعوام 1933-1943). إذن، أقول لهم: أنتم لستم متدينين، أنتم جهلة، أنتم أميون تقريبا، لا تفقهون شيئا في الثقافة. بالله عليكم، ماذا تفهمون من اللوحات عندما تزورون المتاحف، وهي، بالإضافة إلى التماثيل، تتحدث عن قصص الأنبياء في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم. إذن، في النهاية، الجيل المعاصر يركّز جلّ اهتمامه على الموبايل والإنترنت، وبالتالي تبقى ثقافتهم سطحية. إذن، الدراسة وإعادة الدراسة وتفسير الكتب الرئيسية للحضارات والأديان المختلفة، أمور ضرورية للاستمرار في الاتجاه المستقيم. وهذا يعني أنه دون جذور، لا يمكن الوصول إلى أيّ نتيجة.

 

معاوية

- في عام 661 أصبح معاوية بن أبي سفيان خليفة، الذي يعتبر، حسب المؤرخين، أول من أرسى دعائم الإمبراطورية العربية الإسلامية. ما رأيك حول هذا الموضوع الذي ما زال مثار جدال شديد؟

قبل كل شيء، أود أن أذكّر أن الفتنة الكبرى حدثت بين عثمان وعلي بن أبي طالب قبل تأسيس الدولة الأموية في دمشق على يد معاوية (41 - 132 هـ/ 662 - 750 م). بالإضافة إلى أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين قضوا اغتيالا.  إذن، المشاكل كانت موجودة حتى قبل الدولة الأموية، التي كانت ضرورية لتأسيس إمبراطورية جديدة، حيث بلغت ذروة اتساعها في عهد الخليفة العاشر هشام بن عبد الملك، إذ امتدت حدودها من أطراف الصين شرقا حتى جنوب فرنسا غربا، أي أكبر دولة في تاريخ الإسلام. كيف كان لبدوي وصل من الجزيرة أن يدير هذه الإمبراطورية وهو لا يعرف شيئا عن الزراعة وإدارة الدولة. لذلك، أول ما بادر إليه معاوية في هذه الفترة هو تشكيل الهيئات الإدارية والضرائبية والقانونية والعسكرية الضرورية لبناء دولة كاملة المقومات، دون أن يغفل الاستعانة بالسكان المحليين كمتخصصين في علم الفلك أو كمترجمين للكتب اليونانية في الفنون والعلوم. أي أن الأمر لم يعد حلفا أو ائتلافا بين قبائل، كما كان الأمر في أثناء الخلافة الأولى. ومع ازدياد الفتوحات، أخذت الحضارة الإسلامية من الحضارات المجاورة كل ما هو مفيد لبناء الدولة، إداريا وماليا وعسكريا، واستمر هذا لثمانية عقود مع بني أمية. بعد ذلك، انتقلت إلى العباسيين في الشرق، بسبب الموالي، أي المسلمين الجدد المنحدرين من أصول فارسية أو بيزنطية أو آسيوية، وكمسلمين، كانوا يريدون لعب دور يناسبهم في الدولة الإسلامية. كان هذا السبب الذي انتقلت بموجبه السلطة من بني أمية إلى بني عباس، وهم من أهل البيت، وذلك بمساعدة كبيرة من الموالي. هنا، أود أن أنوّه أننا في الإسلام نجد النهضة قبل الانحطاط، أما في الغرب فنجد الانحطاط في القرون الوسطى وبعد ذلك النهضة، وربما لهذا السبب نجد صعوبة في التفاهم فيما بيننا، لأن تجربتينا مختلفتان. وفي النهاية، مع النهضة الحديثة في العالم الإسلامي، أصبح اللقاء مع أوروبا والغرب أساسيا، وذلك بوجود عقول مستنيرة، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما من أعلام الإصلاح والنهضة في كل المجالات. فنجد أن الكثير منهم درسوا في فرنسا، مثل الطهطاوي، وفي أوروبا بشكل عام، وأخذوا الأحسن لإنشاء دولة معاصرة مع ترجمة الكثير من الكتب العلمية والأدبية، بما في ذلك فن المسرح. ونضجت كتابة الرواية والمسرحيات بفضل كتاب مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم. إذن، في النهاية، علينا أن نعترف أننا نعيش في قرية واحدة، خصوصا بين حضارات المتوسط، حتى أبجدياتنا لها الترتيب نفسه: ألف، باء، جيم، دال – بالعربية .....، ألفا بيتا غاما دلتا، باليونانية، آ بي تسي دي، باللاتينية، أي كلّها "أبجد"، وهذا يعني أننا نغني الموسيقى نفسها، ثم ننكر أننا أبناء الحضارة نفسها، التي بناها البشر، جميعهم، بلا استثناء.

مؤلفاته:

من الربيع العربي إلى الخلافة – منشورات مائِيوتيكا، 2015

الإسلام – منشورات إيمي، 2012

نحن والإسلام، من استقبال اللاجئين إلى الحوار، بعد عشرين عاما – منشورات إي. إم. بي.، 2010

الحرب والسلام في القرآن – منشورات إي. إم. بي.، 2009

صفحات من الأدب العربي – منشورات الجامعة الكاثوليكية، 2009

محمد – منشورات إيمي، 2008

يالّا إيطاليا! التحديات الحقيقية لاندماج العرب والمسلمين في بلدنا – منشورات لافورو، روما، 2007

مساجد مضطربة – منشورات إلمولينو, بولونيا 2003

القرآن – منشورات إلمولينو, بولونيا 2002

المسلمون – منشورات إلمولينو, بولونيا 2000

مدخل إلى الإسلام – منشورات سان باولو، ميلانو 1995

أصوات من الإسلام الحديث. الفكر العربي الإسلامي بين التجديد والتقليد، منشورات مارييتي، جنوة 1991

font change

مقالات ذات صلة