أردوغان...برغماتية الاستمرارية

السياسة الخارجية في مرحلة إعادة النظر، وسياسات اقتصادية جديدة بعد الاستماع لصوت العقل

Andy Potts
Andy Potts

أردوغان...برغماتية الاستمرارية

كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتعامل مع ما ورثه عن نفسه في ولايته السابقة في الحكومة على مدى السنوات الـ22 الماضية. وهذه المرة، ورث أردوغان اقتصادا يعاني من محنة. وخلال عملية الانتخابات، تباهى أردوغان بأن أداء الاقتصاد التركي كان حسنا للغاية، وإن كان ثمة بعض العوامل المسببة للتوتر، وأهمها زيادة التضخم. وأوضح للناخبين أن مرد هذه العوامل المثيرة للتوتر هو التطورات الجارية خارج تركيا، وأهمها الحرب في أوكرانيا.

وتعهد أردوغان بإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح، ووعد بـ"قرن تركي". وبقي عليه الآن أن يفي بوعوده، فقد صوّت له كثير من الأتراك ليس بسبب رضاهم عن سياساته، ولا سيما سياسته الاقتصادية، لكن لأنهم اعتقدوا أنه يستطيع إخراجهم من الصعوبات التي تواجهها البلاد. ولعل في ذلك بعض التناقض، لأن السبب الأساسي للصعوبات التي كانوا يعانون منها كان أساسا، سياسات أردوغان الاقتصادية.

أظهر أردوغان نهجا اتسم بمرونة أكثر نسبيا منذ فوزه في الانتخابات، وحتى الآن. والوزراء الرئيسون في فريقه الجديد ليسوا وجوها جديدة. إنه أشبه ما يكون بتحول داخل دائرته المقربة منذ فترة طويلة، حيث يضع في المقدمة المزيد من التكنوقراط السياسيين المنفتحين والمعروفين دوليا، كوزراء المالية، والشؤون الخارجية، والداخلية، والدفاع.

والآن، أمام أردوغان هدف جديد سيحاول تحقيقه في الانتخابات المحلية التي ستجرى في مارس/آذار من العام المقبل؛ فهو عازم على استعادة إسطنبول وأنقرة وأنطاليا والمدن الكبرى الأخرى التي خسرها أمام المعارضة في الانتخابات التي جرت عام 2018، وشكلت هذه الخسائر، وعلى وجه الخصوص إسطنبول، صدمة سياسية كبيرة له.

وسيستخدم أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" التابع له، مرة أخرى، الثروة التي راكموها خلال 22 عاما من وجودهم في الحكم، وسيستخدمون موارد الدولة لتمويل الحملة الانتخابية ضد المعارضة التي لا تزال في حالة من الدهشة من الهزيمة التي لحقت بها في انتخابات مايو/أيار الماضي.

تعهد أردوغان بإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح، ووعد بـ"قرن تركي". وبقي عليه الآن أن يفي بوعوده، فقد صوّت له كثير من الأتراك ليس بسبب رضاهم عن سياساته، ولا سيما سياسته الاقتصادية، لكن لأنهم اعتقدوا أنه يستطيع إخراجهم من الصعوبات التي تواجهها البلاد


وعلى صعيد المعارضة، افترقت أحزاب المعارضة التي كانت تشكل "تحالف الأمة"،  أخطاء استراتيجية قبل وبعد الانتخابات. فحزب المعارضة الرئيس، وهو حزب "الشعب الجمهوري"، يعاني من حالة اضطراب. ويدعي كمال كليشدار أوغلو رئيس الحزب، الذي احتفظ بمقعده في البرلمان على الرغم من خسارة الانتخابات الرئاسية مرة أخرى، أن عليه أن يبحر بسفينته إلى ميناء آمن بصفته القبطان.

يشعر الملايين من الأشخاص الذين صوتوا للمعارضة بالجزع لدرجة أنه إذا حصلت انتخابات في الغد فلن يذهب كثيرون منهم إلى صناديق الاقتراع.

وفي الأشهر التسعة التي تفصلنا عن الانتخابات المحلية المقبلة، يحتاج أردوغان إلى إضعاف المعارضة أكثر وتحسين أداء الاقتصاد قليلا. ومن ثم يدعو الناس إلى عدم منح ثقتهم في البلديات لمعارضة محطمة ليس لديها سوى ما تقدمه له لأنه يتسلم مقاليد السلطة.

سياسات اقتصادية عقلانية

يقود فريق أردوغان الاقتصادي الحالي محمد شيمشك، وزير المالية الجديد، الذي تسلم المنصب أيضا في الفترة التي امتدت من 2009 إلى 2015. وكان شيمشك قد تخلى عن ممارسة السياسة بدعوى أسباب أخرى، لكن ساد التكهن على نطاق واسع بأن سبب تركه أنه اختلف مع السياسات الاقتصادية التي طلبها أردوغان منه.

أقنع أردوغان شيمشك بالعودة واعدا إياه بعدم التدخل في عمله هذه المرة.

وكان أول تصريح لشيمشك عندما تولى منصبه، أن تركيا يجب أن تعود إلى سياسات اقتصادية عقلانية. وكانت تلك إشارة مباشرة إلى سياسات أردوغان غير التقليدية وبيانا واضحا يلقي باللوم على تلك السياسات.

رفع البنك المركزي التركي أسعار الفائدة لأول مرة منذ أكثر من عامين، تحت قيادة الفريق الاقتصادي الجديد، من 8.5 في المئة إلى 15 في المئة. وكانت حركة أسعار الفائدة الصاعدة متوقعة، ولكن اعتبر كثير من المحللين الاقتصاديين أن الزيادة كانت غير كافية. ومنذ ذلك الحين، انخفضت قيمة الليرة التركية.

AP
بلغ التضخم 39.59 في المئة. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن النسبة تصل إلى 110 في المئة، وهي نسبة أقرب إلى الحقيقة

وفي نهاية يونيو/حزيران، بلغ التضخم 39.59 في المئة. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن النسبة تصل إلى 110 في المئة، وهي نسبة أقرب إلى الحقيقة.

وبصرف النظر عن الاقتصاد، يشعر كثير من الـ25 مليون شخص الذين صوتوا ضد أردوغان بالقلق من أنه سيستخدم ولايته الأخيرة في المنصب لإكمال بناء نظام "تركيا الجديدة" الذي يفكر فيه والذي يتمثل بالتدخل في أنماط الحياة، واتباع نهج أكثر محافظة، وهذا هو المصدر الرئيس للقلق.

أمام أردوغان هدف جديد سيحاول تحقيقه في الانتخابات المحلية التي ستجرى في مارس/آذار من العام المقبل؛ فهو عازم على استعادة إسطنبول وأنقرة وأنطاليا والمدن الكبرى الأخرى التي خسرها أمام المعارضة في الانتخابات التي جرت عام 2018


السياسة الخارجية في مرحلة إعادة النظر

حشد أردوغان جماهيره طوال العقد الماضي تحت شعار تحويل تركيا إلى قوة عالمية. وقد أعطى هذا الأمر العلاقات الدولية والسياسة الخارجية مكانة متقدمة في السياسة الأردوغانية.

ولكن سياسة أردوغان الخارجية اتسمت بالتوتر على عدة جبهات منذ عام 2013. وكان عليه أن ينتظر حتى 2021، قبل أن يبدأ التقارب مع الدول التي توترت العلاقات معها، بعد أن شعر بألم العزلة السياسية.

ويشير اختيار أردوغان لوزير الخارجية الجديد، هاكان فيدان، إلى عزمه الاستمرار في هذه السياسة، أقله في الوقت الحالي. ذلك أن وزير الخارجية المنتهية ولايته مولود جاويش أوغلو لم يكن أكثر من ناطق رسمي.

أما وزير الخارجية المعين حديثا، والذي شغل سابقا منصب رئيس المخابرات، فلديه خبرة واسعة في مسائل السياسة الخارجية الحساسة ومعترف به لقدرته على تقديم حججه بفعالية إلى الرئيس.

ولا تزال العلاقات مع الدول الغربية متوترة، فداخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، هناك تصور سائد عن الرئيس أردوغان كزعيم استبدادي لديه مشاعر معادية للغرب وعقلية قوية الإرادة. ويعتقد كثيرون أن تركيا، في ظل قيادة أردوغان، تبتعد تدريجيا عن تحالفاتها الغربية التقليدية، ولا يعتبرونه شريكا يمكن الاعتماد عليه. وهذا شعور متبادل؛ إذ يعتقد أردوغان أيضا أن الغرب كان يعمل ضده على الدوام. ومن وجهة نظره، كانت الولايات المتحدة وراء محاولة الانقلاب التي حصلت عام 2016، ولا يعترف الاتحاد الأوروبي بتركيا كعضو فيه، ويدعم حلفاء الناتو وحدات حماية الشعب/حزب العمال الكردستاني في سوريا.

وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الأتراك، بمن فيهم أولئك الذين لا يدعمون أردوغان، يعتبرون أن الغرب يدفع تركيا بعيدا، بدل أن تبتعد هي من تلقاء نفسها. وعلى الرغم من عدم الثقة والكره المتبادلين بين الطرفين، فإن أيا من الطرفين لا يريد أن يخسر الآخر تماما.

فالغرب لا يريد تنفير أردوغان تماما، بل يريد أن يبقيه على مقربة منه. ومن ناحية أخرى، تركيا تحاول أن تستفز الغرب قليلا، دون أن تصل إلى حد قطع الصلات به.

وقد عُقد اجتماعان بين تركيا والولايات المتحدة بعد الانتخابات التي جرت في مايو/أيار الماضي؛ إذ التقى وزيرا الخارجية فيدان وبلينكن في لندن على هامش مؤتمر إنعاش أوكرانيا، كما اجتمع نائباهما في واشنطن بعد أيام قليلة من ذلك الاجتماع في إطار الآلية الاستراتيجية التركية الأميركية.

يشعر الملايين من الأشخاص الذين صوتوا للمعارضة بالجزع لدرجة أنه إذا حصلت انتخابات في الغد فلن يذهب كثيرون منهم إلى صناديق الاقتراع


من بين عدد من المشاكل الخطيرة بين الحليفين في الناتو، ثمة قضية رئيسة، حيث تقف الآن عقبتان في الطريق، هما: عضوية السويد في الناتو، وشراء تركيا الذي طال انتظاره لطائرات "إف-16".

وسواء تمكن الحلف من حل قضية عضوية السويد أم لا قبل قمة الناتو في فيلنيوس منتصف يوليو/تموز، فإن نتيجة ذلك ستشير إلى أي اتجاه تنحو العلاقات بين تركيا والغرب.

يدرك حلفاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أن القرار يعود بالكامل لأردوغان، فإذا رغب في ذلك، فسيتم رفع اعتراضات تركيا على الفور.

وقد تم تجميد محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2018 بسبب مخاوف بشأن سيادة القانون والديمقراطية في تركيا، فضلا عن العراقيل التي تعترض قبرص واليونان وفرنسا.

EPA
فاز رجب طيب أردوغان بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة التركية على منافسه كمال كليجدار أوغلو، بعد أن حصد 52.15 من إجمالي الأصوات، مقابل أقل من 48 في المئة لمنافسه

وما لم يحدث تحول جذري في أي من الجانبين، فليس من المرجح أن يتغير الوضع. بل الغالب هو أن تتحول قبرص، التي تعد بالفعل عقبة رئيسة في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، إلى مشكلة أكبر، إذ لا تزال تركيا، التي تشعر بالإحباط من الموقف القبرصي اليوناني، مصممة على الاعتراف بالجمهورية التركية لشمال قبرص لتشكيل أساس لأي مفاوضات في المستقبل.

لا تزال العلاقات مع الدول الغربية متوترة، فداخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، هناك تصور سائد عن الرئيس أردوغان كزعيم استبدادي لديه مشاعر معادية للغرب وعقلية قوية الإرادة


ثم جاء تقارب تركيا المتزايد مع روسيا ليثير حفيظة الغرب وغضبه. وعلى الرغم من الإشادة بتركيا لدورها في صفقة الحبوب، إلا أن المعروف أن الحكومات الأميركية وبعض الحكومات الغربية الأخرى حريصة على التنبيه من أن لا تؤدي تركيا دور شريان حياة لروسيا لتجاوز العقوبات.

العلاقات التركية- الروسية تحكمها العلاقة الشخصية بين أردوغان وبوتين، ورغم أن الرجلين يختلفان في شخصيتهما، فإنهما يتعاملان جيدا كقائدين لبلديهما. كلاهما منبوذ من بعض الدول، كل على طريقته الخاصة، ولديهما أسلوب متشابه جدا في إدارة شؤون الدولة بالإضافة إلى الاقتصاد والأعمال.

تماما كما دعم بوتين أردوغان خلال عملية الانتخابات في تركيا، اتصل أردوغان على الفور ببوتين وقدم دعمه عندما واجه تمرد فاغنر.

ولقيت إيماءة أردوغان استحسانا كبيرا، ولسوف تعزز بالتأكيد علاقات أقوى بين الزعيمين. قد يسهل هذا الحلول في أماكن مثل سوريا، لكنه سيزيد من الضغط على علاقات أردوغان غير المريحة بالفعل مع الغرب. هذا ما لم يتصرف الغرب بطريقة برغماتية ويحاول الاستفادة من العلاقات بين أردوغان وبوتين.

أصبحت السياسة الخارجية التركية في عهد أردوغان أكثر تنوعا. وقد احتلت منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وكذلك أفريقيا، الصدارة، كل بسبب وضعها وميزاتها. أما آسيا التي باتت محور السياسة العالمية، فقد غدت أقل وضوحا إلى حد ما على رادار تركيا. وقدم وزير الخارجية السابق جاويش أوغلو "مبادرة آسيا من جديد"، لكنها كانت وعاء دون محتوى. وخلال الفترة المقبلة، قد تقرر تركيا تفعيل هذه المبادرة وإشراك نفسها أكثر مع الصين واليابان ودول آسيوية أخرى. ويبقى أردوغان مرتبطا عاطفيا ودينيا وتاريخيا وآيديولوجيا بالشرق الأوسط.

بعد "الربيع العربي"، انحازت تركيا بقيادة أردوغان إلى الإسلاميين السياسيين، ما أدى إلى انهيار العلاقات مع عدد من الدول العربية، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وأصبحت تركيا ملاذا للفارين من نشطاء الإخوان المسلمين الذين واصلوا أنشطتهم، بما في ذلك البث والدعاية، من هناك.

ولكن مع فشل جماعة الإخوان المسلمين في جهودها وتحقيق المصالحة بين العرب، انضم أردوغان أيضا إلى الركب، وأعاد ترتيب علاقاته مع جماعة الإخوان المسلمين، بما في ذلك تقليص- وفي بعض الحالات إنهاء- أنشطتهم في البلاد.

مكنت هذه الخطوات من المصالحة مع الدول العربية التي كانت العلاقات معها إشكالية. وسيرغب أردوغان الآن في الاستفادة من العلاقات المحسنة.

يضع الرئيس التركي عينه على رأس المال والاستثمار الخليجيين، ومن المرجح أن تشكل المساعي والفرص الاقتصادية العمود الفقري للعلاقات المستقبلية بين تركيا ودول الخليج التي تبحث عن فرص استثمارية وتجارية جديدة بهدف التنويع الاقتصادي


وفي المقابل، يضع الرئيس التركي عينه على رأس المال والاستثمار الخليجيين، ومن المرجح أن تشكل المساعي والفرص الاقتصادية العمود الفقري للعلاقات المستقبلية بين تركيا ودول الخليج التي تبحث عن فرص استثمارية وتجارية جديدة بهدف التنويع الاقتصادي. وقد زار رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد تركيا مؤخرا، حيث شاهد نهائي دوري أبطال أوروبا في إسطنبول جنبا إلى جنب مع أردوغان. وبعد أيام قليلة، استقبل محمد بن زايد في أبوظبي نائب رئيس تركيا، جودت يلماز، ووزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، وليس سرا أن الحديث بين الطرفين تركز على فرص التعاون الاقتصادي.

أما فيما يخص الملفات العربية الرئيسة الثلاثة الأخرى، فمن المتوقع أن يعقد أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قمة في المستقبل القريب، خاصة بعد أن أعلنت وزارة الخارجية المصرية عن رفع علاقات البلدين الدبلوماسية لمستوى السفراء.

وكانت العلاقات المتوترة بين تركيا وبعض الدول العربية، بما في ذلك مصر، قد تراجعت إلى حد ما، خاصة فيما يتعلق بقضية ليبيا، حيث تُظهر تركيا اهتماما أكبر بمخاوفهم.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة من أجل التقارب مع سوريا، فإن كثيرا من التحديات لا تزال قائمة، مما يجعل الطريق أمامنا وعرا للغاية. إن مشاركة جهات فاعلة متعددة ذات أجندات وأولويات مختلفة ومشاكل مترابطة، إضافة إلى صمود الرئيس الأسد، كل ذلك ساهم في تعقيد الوضع.

إحدى نقاط القوة البارزة لأردوغان هي البرغماتية التي يعتبرها أنصاره عبقرية سياسية، بينما ينتقدها خصومه باعتبارها انتهازية لرجل يرغب في إعطاء الأولوية لتحقيق مكاسب شخصية. وقد أظهر أردوغان القدرة على إجراء تحولات استراتيجية وتبريرها بشكل مقنع لناخبيه، وغالبا ما يتجنب المساءلة عن العواقب.

في المقابل، يعزز غياب معارضة قوية وقادرة من احتمال استمرار أردوغان في الحكم بطريقته الخاصة، حيث يظل بلا رادع ودون منازع.

font change

مقالات ذات صلة