مخيم جنين بين الماضي واليوم... ماذا تغير؟

التمسك بالهوية الفلسطينية

يقع مخيم جنين الذي أُنشئ عام 1953 لإيواء اللاجئين، شمال غرب مدينة جنين، والتي هُجر سكانُ قراها المجاورة إلى مخيم بداخلها بعد تعديلات على خط الهدنة عقب النكبة الفلسطينية عام 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل في ذات العام، ولا تتجاوز مساحة المخيم النصف كيلومتر مربع، ويسكنه حوالي 15 ألف نسمة.

خضع المخيم كباقي الضفة الغربية للاحتلال الإسرائيلي، بعد العام 1967، حتى توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، ليصبح فيما بعد خاضعا للسيطرة الأمنية الفلسطينية. ويتميز سكان المخيم بترابطهم اجتماعيا، ولم يشهد حالة انقسام سياسي، يفسر ذلك إبراهيم ربايعة، الباحث الفلسطيني في التحولات السياسية، ويقول في تصريحات لـ "المجلة": "مخيم جنين هو القضية السياسية الاجتماعية المتماسكة، ويتميز عن باقي المدن والقرى في الضفة الغربية بعدم وجود بُعد عشائري بين سكانه مثل الريف الفلسطيني، ويعتبر المخيم نفسه هو القبيلة السياسية، قبيلة لكن محدداتها سياسية متماسكة، وليس محددات إثنية عرقية، بمعنى أن المخيم كتلة واحدة على جميع المستويات".

ويعود الثقل الأساسي في مخيم جنين تاريخيا إلى حركة فتح، إذ كان النقطة المركزية التي انطلقت منها مجموعات "الفهد الأسود" التابعة للحركة خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، واستمر على هذا الحال، حتى برزت حركة الجهاد الإسلامي كثاني أقوى حضور داخل المخيم خلال الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، لكن ذلك لم يؤثر على هوية سكانه الذين تمسكوا بهويتهم الفلسطينية والمشروع الوطني، ونقل ذلك إلى سكان المدينة كافة أيضا.

بين الأمس واليوم

ربما انصهار التنظيمات سياسيا وعسكريا وتجانسها بين سكان المخيم بكافة فئاته، هو ما ساهم في وجود حالة من التماسك والترابط الاجتماعي، حتى خلال العملية العسكرية الأخيرة، يدلل على ذلك ربايعة بقوله "بسبب عملية الانصهار السياسي والعسكري، لاحظنا نداءات وخطابات أهالي المخيم موجهة للمقاومة وليس إلى تنظيم بشكل محدد، وهذا يعود إلى كون أفراد المقاومة هم من أبناء السكان بغض النظر عن انتماءاتهم".

وفي عام 2002، خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأثناء عملية "السور الواقي" التي شنتها إسرائيل على المدن والقرى الفلسطينية، بسبب تصاعد العمليات المسلحة، تعرض المخيم لأكبر عملية اجتياح إسرائيلي استمر لـ 10 أيام، وعُرف بـ "معركة جنين" وأسفرت عن مقتل 53 فلسطينيًا و 23 جنديا إسرائيليا، وجرى تجريف وتدمير 150 منزلاً ليتشرد قرابة 435 عائلة من عائلات المخيم.

في ذلك الوقت، قاد العمليات في المخيم عام 2002، جيل ممتد من جيل الانتفاضة الأولى، كان عددهم محدود وتشكلوا من النشطاء الميدانيين واللجان الشعبية وآخرين من الأذرع العسكرية للتنظيمات، إلا أنه كان لديهم تجربة وخبرة عسكرية التي اكتسبوها من نشاطهم السابق، أو عملهم في الأجهزة الأمنية بعد تشكيل السلطة الفلسطينية عام 1994.

الذاكرة الحية

بعد ذلك الاجتياح الكبير، ساد نوع من الهدوء في المخيم، ليس بسبب تخلي الفلسطينيين عن فكرة المقاومة، لكن بسبب حالة الدمار والقتل والاعتقال لشباب المخيم. واستمر الهدوء النسبي إلى عام 2015 عندما وقعت أول عملية اشتباك بين مقاومين والجيش الإسرائيلي، وتدرجت فيما بعد عمليات اعتقال وقتل للفلسطينيين وازداد التوتر، ما دفع إسرائيل، بصفتها قوة احتلال عسكري، لتهدئة الموقف من خلال تقديم تسهيلات اقتصادية لجنين، منها دخول قرابة ثمان آلاف سيارة من الداخل المحتل إلى جنين أسبوعيا لتنشيط الحركة التجارية. 

كما نشط تصدير المنتجات الزراعية إلى الداخل في إسرائيل، وسمحت بدخول عدد كبير من العمال الفلسطينيين، لكن تلك الحلول الاقتصادية لم تفلح في كسر إرادة ورغبة جارفة في إنهاء الاحتلال، إذ إن الأولوية لدى الشباب كانت دوما العيش في حرية وبكرامة. 

هنا نشأت فكرة الرفض لدى شباب مخيم جنين، خاصة صغار السن، لسياسات الاحتلال، بالإضافة إلى ارتباطهم بذاكرة المكان، التي تطرق لها، جمال حويل أحد قيادات جنين في الاجتياح الكبير، في كتابه بعنوان "الذاكرة الحية"، والتي تحدث فيها عن تسمية الأبناء والمواليد من الأجيال الجديدة بعد العام 2002، بأسماء أعمامهم وأخوالهم وأقاربهم من القتلى الذين سقطوا في ذلك العام، الأمر الذي أبقى على ذاكرتهم الحية حتى لو لم يعيشوا التجربة بشكل فعلي.

ويرى ربايعة أنّ كل تلك الأسباب، خاصة استمرار الممارسات والمضايقات الإسرائيلية، نبشت الذاكرة وأعادت إحياء التجربة لدى أجيال جديدة رافضة للواقع، أعمارهم ما بين الـ 16 والـ 25 عامًا، وهو ما دفهم لبناء تجربتهم بنفسهم من الصفر، معتمدين على نماذج صنعوها بأنفسهم، مثل الشاب نبيل العموري الذي قتلته قوات إسرائيلية أثناء عملية اشتباك مع الجيش عام 2021، ويُنسب له تأسيس "كتيبة جنين".

كتيبة جنين والعلاقة مع السلطة

ما قبل العام 2020، كانت الأجهزة الأمنية الفلسطينية، تعتمد التسويات في حل الإشكاليات داخل المخيم، متجنبة الاحتكاك المباشر مع المخيمات، لكن في ذلك العام، ومع انتشار فيروس كورونا، لم يعد للأجهزة الأمنية أي تدخل بأي شكل من الأشكال في مخيم جنين، خاصة في حالة المقاومة، أي لا يوجد أي قيود أو تقييد.

في ذات العام، بدأ اسم "كتيبة جنين" بالظهور من خلال عدد أفراد قليل، ولم يكن تنظيما عسكريا بالمفهوم التقليدي، بل نشأ كفكرة أساسها الرفض للواقع، وجاء المسمى جامعًا للكل المقاوم الرافض، بعيدا كل البعد عن التنظيمات الفصائلية الفلسطينية التقليدية، وبخبرة عسكرية ضئيلة، وأصبح لدى التنظيم المسلح رؤية واضحة برفض الواقع الحالي المفروض عليه، وبات يبحث عن الحرية من خلال المقاومة المسلحة من خلال التصدي لعمليات الاعتقال والاجتياحات المتكررة للجيش الإسرائيلي.

مع تنامي الاسم وعدد أفراد الكتيبة، امتلكت "كتيبة جنين" حاضنة شعبية كبيرة من أهالي المخيم، وهي عائلاتهم بالأساس، وكونهم من أبناء السكان، ليس من جيل ثاني أو ثالث، بل من الأبناء، ومن فئات عمرية صغيرة بالسن، أبدت التزامها الأخلاقي اتجاه مجتمعها بكافة فئاته، وحافظت على ابتعادها عن الرموز التقليدية والتنظيمات السياسية الفلسطينية.

بسبب حالة المقاومة التي تنامت داخل المخيم، وحتى ما قبل ظهور "كتيبة جنين"، كانت إسرائيل تنتقد قادة السلطة الفلسطينية بسبب مشاركتهم في بيوت العزاء لمن قُتل من عناصر الفصائل الفلسطينية المسلحة، لكن، يعتقد الباحث في التحولات السياسية ربايعة، أن السلطة لا تستطيع أن تفعل أو تغيّر من الواقع الحالي في جنين ومخيمها، وذلك بسبب الحاضنة الشعبية الكبيرة التي تدعم حالة المقاومة الموجود حاليًا.

وتابع ربايعة "أعتقد أنّ تدخل السلطة الفلسطينية، وانتقاد إسرائيل لها، مرتبط أيضا بحالة الرغبة والإرادة وليس القدرة فقط، فإسرائيل تريد سلطة تؤدي خدمات وظيفية أمنية منزوعة الصلاحيات والسيادة، ودون أفق سياسي أيضًا، في اعتقادي أن ذلك ليس مريحا وليس مقبولاً لأي سلطة، خاصة في حالة مخيم جنين، الذي يمتاز بحاضنته الشعبية".

لماذا مخيم جنين؟

في عام 2005، عندما قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون، الانسحاب من قطاع غزة، قرر أيضا إخلاء بعض المستوطنات الإسرائيلية من مدينة جنين، وهو ما ميز المدينة عن باقي مدن ومخيمات الضفة الغربية، وأصبح الاحتجاج السلمي الشعبي غير متاح في مناطق قريبة، وكان أحد الأسباب التي دفعت أجيال المقاومة الجديدة الانتقال من حالة الهجوم كما في السابق إلى حالة الدفاع، وربما ذلك ما يفسر ذهاب جنين للاشتباك المسلح بشكل أكبر، خاصة في ظل استمرار دخول الدوريات العسكرية بهدف التفتيش أو الاعتقال.

وفي ظل سعي اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى زيادة عدد المستوطنين والمستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وتحجيم تواجد الفلسطينيين في أقل مساحة جغرافية وأكبر كثافة سكانية محاطة بالمستوطنات، تراجع الحديث عن عمليات التهويد ومصادرة الأراضي الفلسطينية كما يعتقد ربايعة، وقال "اليوم يجري الحديث والتخطيط لدولة مستوطنين كاملة الأركان داخل الضفة الغربية ودولة إسرائيل، أما الحديث عن دولة فلسطين أصبح هامشيا".

وأضاف "بالتالي يمكن فهم العملية العسكرية الأخيرة ضد مخيم جنين، في إطار أنها تهدف لإنهاء وقتل حالة الرفض، تلك الحالة المشاكسة التي تزعج مخططات حكومة اليمين المتطرف، التي تسعى بشكل متسارع لإنشاء دولة مستوطنين هدفها الوصول إلى مليون مستوطن في الضفة الغربية المحتلة مع حلول العام 2030".