باريس كما رأيتها بعد هبّة "أطفال الغضب"

قلق وحيرة ونظريات مؤامرة

AFP
AFP
الشرطة تقف في حالة تأهب بينما تنفجر مواد في منطقة سايت بابلو بيكاسو في نانتير، شمال غرب باريس، 30 يونيو/ حزيران 2023.

باريس كما رأيتها بعد هبّة "أطفال الغضب"

قبل نحو ثلاثة أسابيع غادرت باريس في زيارة إلى تونس. لكن هناك كانت الحرارة مرتفعة، ورطوبتها مرهقة. فاستعجلت العودة إلى باريس التي لا ينتهي التسكع في شوارعها. باريس ساحة السوربون، وذكريات عبد القادر الجنابي الذي لا يزال جالسا لا مرئيا في الركن الداخلي لمقهى السوربون، يحرّر مجلته السريالية الاستفزازية التي سماها "الرغبة الإباحية".

أعلن كابتن طائرة "ترنزافيا" وصولنا إلى مطار أورلي. كان المطار هادئا شبه فارغ. سرت في الأروقة شبه الخالية. عبرت تدقيق الجوازات وخرجت إلى الشارع في اتجاه الحافلة التي تمضي إلى محطة "دونفير روشرو" القريبة من المدينة الجامعية الدولية. كان كل شيء يوحي بأن الأمور غير عادية. وهذا ما لمحته على وجوه الفرنسيين.

شارفت الحافلة على الوصول إلى حزام باريس. كانت الزحمة على الطريق السريع على أشدّها. السيارات تصطف شبه متوقفة على مسافة مئات الأمتار. بعد لحظات بدت لي طويلة، سألت الرجل الذي يجلس قربي عن المظاهرات العارمة التي اجتاحت باريس. "لقد تغيرت باريس في لحظة واحدة، بل تغير العالم"، قال ثم غرق في صمت مطبق.

نزلت في أول محطة قرب "بارك مونتسوري" لأستقلّ الحافلة إلى الدائرة 16 الباريسية. مررت بشوارع مضطربة. حركة غير عادية. متوترة. وطوابير شاحنات الشرطة مصطفة على جانبي الطريق. رجال الشرطة منتشرون في المحطات.

لم أتوقع أن تكون باريس أخرى في انتظاري. باريس لم يسبق أن رأيتها، بعد أن سال كل ذاك العنف الذي لا تزال آثاره بارزة بقوة في شوارعها. فأنا عشت دائما مع صور باريس أبولينير وبودلير وهنري ميلر وعبد الكبير الخطيبي... أين كان مختبئا كل هذا العنف الذي انفلت قبل أيام، وكنت قرأت عنه في أحداث مايو/ أيار 1968؟

صحيح أن موجة الحرق وتحطيم السيارات والمتاجر والمنشآت والمؤسسات العامة في باريس وسواها من مدن فرنسية كبرى، تراجعت. لكن فرنسا لا تزال تحبس أنفاسها، وسوف تستمر في حبسها أياما وأسابيع مقبلة


أطفال الغضب وجيلهم السابق

صحيح أن موجة الحرق وتحطيم السيارات والمتاجر والمنشآت والمؤسسات العامة في باريس وسواها من مدن فرنسية كبرى، تراجعت. لكن فرنسا لا تزال تحبس أنفاسها، وسوف تستمر في حبسها أياما وأسابيع مقبلة. وسوف يستمر النقاش طويلا لتشخيص ما حصل في الأيام الأخيرة من شهر يونيو/حزيران المنصرم ومطلع يوليو/تموز الحالي.

ماذا حصل ليتغير مشهد المدينة إلى هذا الحد؟

كثيرون في فرنسا يسمّون من عصفت بهم موجة غضب وحملتهم على الحرق وتحطيم السيارات والمنشآت العامة بـ"أطفال الغضب". ومعظمهم يضيف: "الفرنسيون المندلع غضبهم على غير هدى ولا هدف واع ومدرك في الشوارع". وأطفال الغضب هؤلاء فرنسيون لأنهم من أبناء جيل رابع، إن لم يكن خامسا، وهاجر أجدادهم الأوائل إلى فرنسا. وأحفاد  أولئك الأجداد القدامى لا يعرفون سوى فرنسا بلادا. وهي عندهم ليست بلادا، بل أحياء - معازل أو شرانق سكنية، فيها ولدوا ونشأوا، ولا يعرفون من فرنسا شيئا سواها إلا في الصور وفي سورات الغضب الداهم والمفاجئ. 

AFP
والدة نائل، الذي قتل برصاص شرطي، تلوح بمصباح خفيف وهي تقف على متن شاحنة خلال مسيرة إحياء لذكرى ابنها، في ضاحية نانتير الباريسية، في 29 يونيو/ حزيران 2023.

ويقول الفرنسيون إنهم أطفال الغضب، لأن غالبية المشاركين في هبة من الاضطرابات والعنف الأخيرة تتراوح أعمارهم بين 13 و18 سنة، وقلة تجاوزوا الفتوة وبلغوا الخامسة والعشرين.

وليس شبان الضواحي وحدهم هم الغاضبون - حسب شهادات عدة -  بل شمل الغضب كثيرين سواهم من سكان الضواحي المتراكم غضبهم بلا علاج، أقله منذ سنة 2005، عندماقتل شاب وفتى فرنسيان من أصول شمال إفريقية. لقد صعقهما التيار الكهربائي بعد فرارهما من عسف الشرطة واختبائهما في محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في ضاحية "كليشي سوبوا" الباريسية. وأشعلت الحادثة موجة هائلة من الصدام العنيف مع قوات الأمن، وشملت معظم ضواحي المدن الفرنسية، واستمرت أسابيع، وأعلنت الحكومة حال الطوارئ مدة 3 أشهر آنذاك. وكانت حصيلة تلك الحودث مقتل 3، وتوقيف حوالي 3 آلاف، وحرق 87 ألف سيارة وعشرات المباني والمؤسسات.

أسباب هذا الغضب متنوّعة: الفقر، والتهميش، الإحباط، وتمزق الهوية التراجيدي الذي يعيشه أبناء الضواحي.. كثيرون من فتيان الضواحي وشبانها صار ينتهي بهم الحال إلى مصحات عقلية 

رؤوف الرايسي

استهداف الثراء والسلطة

واليوم يجب ألا نتحدث عن ضواحي الغضب، أو غضب الضواحي فحسب. "لا، لا، ليس الغضب في الضواحي وحدها. فرنسا كلها غاضبة، لأسباب كثيرة ومتعارضة"، يقول صديقي الفرنسي (66 سنة) في الحي الذي أسكنه. و"هناك من يعبر بالحرق والتخريب عن غضبه المكبوت والمندلع فجأة. وهناك من يغضب بل يحقد على من يحرقون ويحطمون"، تابع قائلا.

شارع "رين" الذي يربط بين ميدان "سان جيرمان" وميدان "مونبارناس" لا تستطيع تبين ملامحه. النيران التي اشتعلت وخمدت في محطة "الهال" في قلب دائرة باريس الأولى خربتها تخريبا كبيرا. "سخام الحرائق لا يزال في كل مكان. حطموا واجهات المحلات. حرقوا المدارس، والمكتبات العامة، وسيارات المواطنين. أكلت النيران المؤسسات العمومية"، قال لي سائق الحافلة التي أقلتني من المطار إلى باريس.

شاكر اللبناني الذي يعمل في فرع مصرف بضاحية "لو روز" تحدّث عن حرائق المركز التجاري في الضاحية وعن التخريب في حيّه. وهو أحد أرقى أحياء باريس في الدائرة 15، فقال: "حرقوا مطعما تابعا لسلسلة مطاعم 'جي 20'. وأضرموا النيران في سيارات صادف توقفها في الشارع. ولم يوفروا واجهات المحال من التحطيم. وأكثر ما استهدفوا كل ما يرمز إلى الثراء والسلطة".

AFP
متظاهر يسير بجوار سيارة محترقة خلال اشتباكات مع الشرطة في لو بورت، جزيرة لا ريونيون الفرنسية في 30 يونيو/ حزيران 2023.

الشرطة والفصام

لكن لماذا كل هذا الغضب؟

الجواب كثير التشعّب وتلابسه آراء عدة مختلفة. الناشر والمثقف التونسي رؤوف الرايسي - صاحب دار "أركنتير"، والمقيم في باريس منذ أكثر من 40 سنة، ويتعامل مع الكتاب والمثقفين الفرنسيين ودور النشر في باريس - يقول: "أسباب هذا الغضب متنوّعة: الفقر، والتهميش، الإحباط، وتمزق الهوية التراجيدي الذي يعيشه أبناء الضواحي من أصول مهاجرة ومسلمة بعيدة، وشبه منسية". والجديد الذي فاجأني به الناشر: "كثيرون من فتيان الضواحي وشبانها صار ينتهي بهم الحال إلى مصحات عقلية".

فإضافة إلى "العنف المادي الفيزيقي الذي تمارسه عليهم الشرطة الفرنسية، لأن الحكومات المتعاقبة من سنين طويلة أطلقت يد جهاز الشرطة لحل المشاكل السياسية والاجتماعية بالقمع، هناكالعنف الثقافي المتمثل في الاعتداء على هوية المتحدّرين من أصول غير فرنسية قديمة. علما أن تلك الأصول لا تعني شيئا لمن تقع عليهم تلك الاعتداءات، كما لا يعني لهم شيئا ما يسمى الهوية الفرنسية".

ربما يكون هناك ما هو متخثّر أو متحجّر في ما يسمّى الهوية الفرنسية. فالمجتمع الفرنسي، حسب الناشر الفرنسي التونسي الأصل، بات "لا يعترف بتعدّد القيم ومعايير السلوك، رغم حديثه صباح مساء عن الحق في الاختلاف. لذلك تكثر مثلا بين أبناء المسلمين الفرنسيين حالات فصام حادّة ترتبط بأزمة الهوية الثقافية".

ذكرني حديثه بأنني صحبت يوما أحد معارفي في زيارة لابنه (16 سنة) في قسم الأمراض العقلية بمستشفى "سانت آن" في باريس الذي دخله الابن بعدما أصيب بنوبات هلع وهلوسة متكررة جرّاء تخيله أن رجال الشرطة يهاجمونه. وروى لي الوالد أن تهيؤات ابنه المرضيّة دفعته مرة إلى الهجوم على رجل شرطة صادفه في الشارع. وراح يصرخ "الله أكبر، الله أكبر". وذلك كعنوان "هوية مفترضة لا يعلم عنها شيئا سوى سماعه هذا النداء كأنه نداء استغاثة". ألا يعني هذا أن الفصام وهلوساته، ومن ثم هجوم الفتى الفعلي المفاجئ على رجل الشرطة، تعبير عن صدمة نفسية عميقة مزمنة؟

ورأيت أثناء تلك الزيارة شابا كئيبا، منطفئا يهيم في أروقة المستشفى. شاب تفكك ذهنيا ولم يعد يعرف من هو. وقالت ممرضة في المستشفى إن بعضا من أبناء الجيل الرابع والخامس من أبناء المهاجرين الجزائريين مصابون بما يشبه هذه الحالة.

رأيت شابا كئيبا منطفئا يهيم في أروقة المستشفى. شاب تفكك ذهنيا ولم يعد يعرف من هو. وقالت ممرضة في المستشفى إن بعضا من أبناء الجيل الرابع والخامس من أبناء المهاجرين الجزائريين مصابون بما يشبه هذه الحالة

شرطة الأنظمة التسلطية

وقال صديقي الناشر والكاتب الفرنسي التونسي الأصل عن مسلسل العنف والتخريب الذي شهدته باريس طوال نحو أسبوع: "إنها هبّة غضب ضد الشرطة الفرنسية التي لم تعد تلك الشرطة الجمهورية التي نعرفها. لقد صارت تشبه شرطة الأنظمة التسلطية. وما يقوله الساسة الفرنسيون عن المساواة والعدالة ليس سوى كلام أجوف تردّده قوى اليمين واليسار على حدّ سواء. فاليمين يعيش في شرنقة حنين إلى ماضٍ فرنسي آفل، إلى عصر الإمبراطورية الكولونيالية. وهؤلاء الفتيان والشبان الغاضبون والمنفلت غضبهم في الشوارع ليسوا قط جزائريين يعيشون في فرنسا، بل فرنسيون يعيشون في فرنسا أخرى معزولة".

نعم إنهم فرنسيون مهمشون – مثلما تجمع شهادات وتقارير استقصائية فرنسية -  ولا يتمتعون بأي حقوق. ويعيشون داخل أحياء مسوّرة، هي نوع من الغيتوات الاجتماعية أو "التاون شين" كما في أيام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. والبعض يرى أن ماكرون "ابن غير شرعي لليبرالية الأميركية، واغتال الجمهورية الخامسة التي أسسها ديغول".

والاستقصاءات الصحافية الفرنسية الأخيرة تتحدّث، بناء على شهادات مدرّسين في مدارس الضواحي، عن أن مخافر الشرطة في تلك الأحياء لا تمثل لفتيانها وتلامذتها سوى مراكز قمع وعدوان "طبقي - عنصري" عليهم. وحتى المدارس كانت مدارا لغضب الفتيان وعنفهم.

واتخذ أولئك الفتيان مناسبة مقتل الفتى نائل المرزوقي مناسة لانتقام طبقي مزدوج: من رجال الشرطة ورموز الثراء في المدن، إضافة إلى حرق وتحطيم مدارس وبلديات في أحيائهم نفسها. ومعظم المشاركين في تلك الأعمال العنيفة نسوا تماما اسم الشاب القتيل، وبعضهم لم يسمع به أصلا، بل اندفع بالعدوى وعبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى الشوارع وشارك في الهبّة العنيفة.

متظاهرون يشتبكون مع الشرطة خلال الاحتجاجات الأخيرة في شوارع باريس.

وحسب إحصاءات فرنسية عدة اشتعل في المدن فرنسا حوالي ألف حريق في مبان ومؤسسات عامة وخاصة. ونحو 10 آلاف بؤرة حريق في الشوارع. وشارك في هبّة الغضب عشرات الألوف. وموجة العنف هذه تفوق مثيلتها في العام 2005 بأضعاف. فتلك لم تكن رقعة عنفها على النحو الذي شهدته الهبّة الأخيرة التي لم تستغرق أكثر من ليال أربع، فيما استمرّت حوادث 2005 طوال أكثر من أسبوعين، ولم يبلغ عنفها هذا الاتساع والكثافة. 

وتكثر الشهادات والتحليلات الفرنسية التي تعتبر أن هبّة العنف الأخيرة لا يمكن أن تسمّى هبة أبناء مهاجرين، انطلاقا من دوافع هوية ثقافية أو دينية سابقة على الهجرة. فأبناء الضواحي المنتفضون، ليسوا أبناء مهاجرين، بل هم فرنسيون أبا عن جد. ذلك أنهم جيل فرنسي رابع وخامس لأولئك المهاجرين الأوائل المنسيين تماما. وليس بين المنتفضين فتى يتحدّث عن أي نوع من هوية، فرنسية أو غير فرنسية. وربما تتمثل مشكلة هؤلاء الفتيان بغياب الهوية الناجم عن العزلة والقطيعة وقمع رجال الشرطة في أحياء الضواحي.

 

العنف ووهن الدولة

ويتحدّث كثيرون عن وهن الدولة الفرنسية وضعفها. وثمة خوف من انزلاق البلاد نحو حرب أهلية. وهناك شكوى من ليبرالية متوحشة وغلاء المعيشة.

وبلهجة تشي بالخوف تقول جوزيان العاملة في مخبزة الحي: "ما يحدث اليوم خطير. خطير جدا. الأسعار مستمرّة في الارتفاع. والفقر يتوسّع. أصحاب السترات الصفراء الذين تظاهروا طويلا في باريس مطالبين بما يقيهم العوز والفقر قبل سنتين لم يأتوا من فراغ. وجرى قمعهم بالعنف. وقد انطفأت عيون كثرة منهم جراء القمع البوليسي. أنا خائفة من توسع العنف. كما أننا لم نعد ندري ما يدور حولنا. صرنا ضحايا الإعلام الكاذب والشائعات التي يزخر بها الفضاء الافتراضي. إذا نشرت معلومة عبر هذه المنصات الاجتماعية يصير من الصعب إيقافها. وهؤلاء الفتيان الذين أحرقوا أماكن كثيرة من باريس يعتمدون في تواصلهم على الشبكات والمنصات الاجتماعية".

يرى بعضهم أن ما حدث في فرنسا شبيه بـ "الربيع العربي". ويخشون من تدحرج كرة الثلج إلى باقي الدول الأوروبية. وسمعتُ هذا الصباح أن الشرطة السويسرية فضّت تجمعا لأكثر من مائة شخص في لوزان. ويقال إن الظاهرة بدأت تنتقل إلى البلدان الأخرى.هناك تململ وصمت وتغطية على هذا التململ.

AFP
رجال الشرطة يواجهون المتظاهرين خلال الاشتباكات التي اندلعت بعد مسيرة لإحياء ذكرى ابن 17 عاما الذي قتل برصاص شرطي، في ضاحية نانتير الباريسية في 29 يونيو/ حزيران 2023.

وتقول صفية المقيمة في فرنسا منذ أكثر من عشرين سنة: "قلت لك من زمان إن فرنسا تنزلق لتصير دولة من العالم الثالث. باريس لم تعد باريس التي عرفتها منذ عشرين سنة. النفايات في كل مكان، والخدمات تتراجع".

وظهرت في فرنسا شائعات تقول إن هناك نوايا دولية مناهضة للمهاجرين تبث معلومات خاطئة، وتهول من أعمال الشغب في فرنسا، بهدف تشويه التعدّد الثقافي في المجتمع الفرنسي. وهذا ما يعزّز نظرية المؤامرة التي تقول إنّ مخابرات بعض الدول تعمل لزعزعة استقرار فرنسا، كما كان الشأن في بلدان الربيع العربي.

والأرجح أنه ليس غضبا فحسب، بل أيضا عجز الدولة والطبقة السياسية الفرنسية التي تعيش داخل ما يشبه غيتوات اجتماعية وثقافية. وهي سادرة تسبح في إحساسها العميق الموهوم بالتفوق واحتقار الثقافات الأخرى، في زمن عودة هويات المستعمرات المقموعة إلى الظهور.

font change

مقالات ذات صلة