لبنان وتونس يتصدّران نجاحات السينما العربية في 2023

ما بين الألم والطموح

"أشكال" ليوسف الشابّي

لبنان وتونس يتصدّران نجاحات السينما العربية في 2023

مع بدء عروض فيلمي "قلق في بيروت" و"بنات ألفة" والاستقبال الجيد لفيلم "على فوهة بركان" يتبدّى حضور السينما في لبنان وتونس هذا العام أكثر تميزا من سينمات عربية أخرى.

حصد الفيلم اللبناني "قلق في بيروت" لزكريا جابر جائزة "مهرجان شنغهاي الدولي" وخرج الفيلم التونسي "بنات ألفة" بجائزة أولى من "مهرجان ميونخ السينمائي" ووقف جمهور "مهرجان كارلوڤي ڤاري" التشيكي تحية للفيلم اللبناني الآخر "فوق فوهة بركان" لسيريل عريس الذي عرض داخل المسابقة الرسمية.

في المقابل شهدت أفلام عربية أخرى حضورا مهمّا هذا العام في "مهرجان كان السينمائي" تمحور حول "كذب أبيض" لأسماء المدير (المغرب) و"عصابات" لكمال لزرق (المغرب) وإن شاء الله ولد لأمجد الرشيد (الأردن). وكان فيلم "كيوكو، موسم حصاد الأفلام" لحميد بن عمره (الجزائر) استقبل بحفاوة كبيرة حين عرض في "مهرجان موسكو السينمائي" قبيل منتصف هذا العام خارج المسابقة.

كل هذا، وربما سواه، لم يكن نتيجة حب جارف للسينما العربية ولا عطفا عليها، بل بسبب جهود مخرجيها ومنتجيها الفردية من ناحية وحقيقة أن بعضها (مثل "بنات ألفة") استند إلى تمويل أوروبي (ألماني أساسا)، مما أتاح له سبل دخول المحافل المذكورة بثقة.

وكانت كوثر بن هنية أخرجت قبل ثلاثة أعوام فيلمها المشهود "الرجل الذي باع ظهره" وخطف جائزتين من "مهرجان ڤنيسيا السينمائي" قبل أن تنتقل به إلى عرين الأفلام المتنافسة على أوسكار أفضل فيلم عالمي ("أفضل فيلم أجنبي" سابقا) في 2021 مسجلة بذلك، الحضور التونسي الأول في تلك المسابقة.

في فيلم سيريل عريس التقاط لمأساة المرفأ كنقطة بداية لانهيار جديد ونقطة نهاية لمرحلة سابقة. ليس أن الوضع لم يكن متأزما على كل صعيد قبل ذلك الانفجار، لكن الحدث كان أكبر من أن يُستوعب فورا بكل دلالاته وتداعياته

حال بلد

أن تنجز السينما اللبنانية هذا الحضور في ظروف اقتصادية وسياسية صعبة يمر بها لبنان، فهي شهادة مهمّة وذات قيمة بديعة. كلا الفيلمين، "قلق في بيروت" و"على فوهة بركان" (العنوان بالعربية يختلف عن الإنكليزية (Dancing on the Edge of a Volcano يتعامل مع موضوع واحد: حال لبنان ما بعد الحرب الأهلية حتى انفجار المرفأ الكبير.

في فيلم سيريل عريس التقاط لمأساة المرفأ كنقطة بداية لانهيار جديد ونقطة نهاية لمرحلة سابقة. ليس أن الوضع لم يكن متأزما على كل صعيد قبل ذلك الانفجار، لكن الحدث كان أكبر من أن يُستوعب فورا بكل دلالاته وتداعياته.

عندما كان سيريل عريس وزملاؤه من الفنيين يصوّرون مشاهد الفيلم لم يكن في البال أن انفجار المرفأ سيقع. يقول: "حال وقوعه ارتبكنا وتساءلنا عما إذا كان من الأفضل تكملة المشروع أو التوقف عنه".

الفيلم اللبناني "قلق في بيروت"

يحتل الانفجار أيضا جزءا مهمّا في فيلم زكريا جابر الذي نال قبل نحو أسبوعين جائزة مهرجان شنغهاي (الصين).  لكنه فيلم- ملف كبير لما مرّ به لبنان منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الصراع المسلّح، ويدور حول عدّة قضايا ومواقف مرّت بلبنان منذ ذلك التاريخ: التشرذم السياسي، مرحلة رفيق الحريري وابنه سعد، رئاسة ميشيل عون، القرارات الإقتصادية التي اتخذها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والمظاهرات الشبابية التي اندلعت في بيروت مندفعة في سبيل تغيير الوضع القائم على الفساد والطائفية والمحسوبية، وصولا إلى الانفجار الذي لم يدمّر المنازل والأحياء والمرفأ فحسب، بل القناعات بأن هذا البلد يستطيع الخلاص من المأزق المراد له أن يستمر على حاله.

تبدو مدينة بيروت في هذا الفيلم مثلما بتنا نعرفها حزينة كئيبة، تعيش على الفوضى وتراكم اللاحلول. لا يستخدم المخرج إلا الصور الواقعية لتصوير ذلك الوضع. يلتقط مشاهد كثيرة للمظاهرات والمواجهات بين المتظاهرين الرافضين للأمر الواقع وبين رجال الأمن والجيش. كذلك، يمنحنا بانوراما وافية للحديث عن اقتصاد البلد والدور الذي قام به من فرض النظام المصرفي الجديد وعمليات تهريب الثروات الى الخارج ثم الإطباق على حسابات المواطنين المصرفية ورفع سعر الدولار الذي تسبب بدوره في المزيد من المآسي.

فيلم "على فوهة بركان"

لكن "قلق في بيروت" ليس كلّه عن حال البلد بل هو، بالتناصف تقريبا، عن حال المخرج وعائلته. هو ابن الشاعر والمسرحي والصحافي يحي جابر الذي وبعد نهاية عهد الصحف المطبوعة التزم البيت بينما التزم ابنه الكاميرا. صوّر والده ووالدته والأصدقاء وتركهم يتحدّثون عن الحال كما يرونها. لا أحد منهم هرب من التساؤلات وإن لم يكن يعرف أجوبتها.

يدور فيلم زكريا جابر حول عدّة قضايا ومواقف مرّت بلبنان وصولا إلى الانفجار الذي لم يدمّر المنازل والأحياء والمرفأ فحسب، بل القناعات بأن هذا البلد يستطيع الخلاص من المأزق المراد له أن يستمر على حاله

بين نقيضين

هذان الفيلمان وثائقيان بوضوح، لكن فيلم "بنات ألفة" سُمى لأسباب تسويقية غربية بـ(Four Daughters) هو مزيج بين التسجيلي والروائي وعلى نحو جريء لكنه ليس بالناجح تماما. الفيلم التونسي بالهوية هو ألماني بالتمويل قامت به شركة "تونتي تونتي" في برلين، وهي الشركة نفسها التي انتجت لكوثر بن هنية فيلمها السابق "الرجل الذي باع ظهره".

للفيلم جوانب إيجابية عديدة من بينها رغبة المخرجة في الخروج من الحكاية الروائية إلى مدار الفيلم غير الروائي. لذلك جمعت ما بين الجانبين وانتقلت بين السردين فإذا بنا نشاهد هند صبري تمثّل دور الأم والأم الفعلية (ألفة) تقوم بدورها الفعلي أيضا وهذا ينطلي على البنات الأربع وخصوصا الفتاتان اللتان تطوعتا للقتال في ليبيا قبل أن تهب الأم لإنقاذهما من مصير سوداوي.

تمنح المخرجة وضعا استثنائيا حين تمزج بين المعادلة الروائية وتلك التسجيلية. لا تقدم على شيء لم يسبقها إليه سواها لكنها تمضي فيه إلى حيث لم تعهد السينما فيلما مثله على صعيد حجم ذلك المزج وفعاليّته.

يختلف الفيلم الأردني "إن شاء الله ولد" اختلافا جذريا كونه يؤمن بالفصل بين الناحيتين ويقدم على سرد حكاية روائية بالكامل. سرد خال من المغامرات الفنية، ولو أنه شديد الوعي بالنسبة للكيفية التي يعالج فيها حكايته.

فيلم عن المرأة وبطلته هي نوال (منى حوا) التي تستيقظ في أحد الأيام لتجد أن زوجها (محمد الجيزاوي) ميت في فراشه. يفتح هذا الموت المفاجئ الباب أمام تداعيات كثيرة. ليس فقط أن الزوجة وابنتها نورا (سالينا ربابة) لا تجدان معيلا، بل هناك حقيقة أن المنزل الذي تعيش فيه والذي ساعدت زوجها في شرائه ليس ملكها. وثيقة الشراء لا تحمل أسمها لذلك تجد نفسها في وضع صعب عندما يطرق شقيق زوجها رفقي (هيثم عُمري) الباب ذات يوم لكي يطلب منها بيع المنزل لأن الشرع يحتم أن يرث أهل الزوج كل شيء طالما أن الزوجة لم تنجب ذكرا. ترفض نوال البيع ما ينتج عنه تداول الاحتمالات المختلفة.

 

عودة تونسية

بالعودة إلى السينما التونسية التي تستفيد من علاقاتها مع شركات الإنتاج الأوروبية أكثر من سواها بين دول المغرب العربي، شاهدنا شواهد مهمّة ما بين نهاية العام الماضي وهذا العام.

مشهد من فيلم "جزيرة الغفران"

المخرج التونسي رضا الباهي عاد بفيلم "جزيرة الغفران" حول كيف كان أهل جزيرة جربة، من مسلمين ومسيحيين ويهود متآلفين في تلك العقود الأولى من القرن العشرين. يحيك المخرج استعراضا لحياة عائلة إيطالية سكنت جزيرة جربة في العقود الأولى من القرن الماضي. نتعرّف عليها وعلى الأحداث التي عايشتها من وجهة نظر الصبي. لن يعني ذلك التزام الكاميرا بوجهة النظر تلك فهناك أحداث تقع بعيدا عن الصبي. لكن الحكاية التي نشاهدها هي نوع من الذاكرة المزدوجة. ذاكرة الصبي الذي يعايش ما يدور وذاكرة الباهي كما استوحاها من حكايات والده. تجد العائلة الإيطالية نفسها أمام تحديات مفاجئة بسبب محاولة الدعاة دفع الأب وابنه لاعتناق الإسلام. بذلك تنهار فكرة التعايش أمام الرغبات المتطرّفة ما يدفع العائلة في نهاية المطاف لشدّ رحالها والعودة إلى موطنها الأصلي. هذه خسارة لفكرة التعايش في مفاد الفيلم. أيضا هناك شقيق الأب الذي قرر أن يبيع الأرض والبيت لمستثمرين من المافيا رغم ممانعة العائلة. حين تفشل عملية البيع تقوم المافيا بتصفيته. هذا الخط ليس أساسيا لكنه يطرح حبكة ملائمة خلال استعراض المخرج للحياة العائلية وأفرادها وما يحدث لهم. تبعا للمتغيرات تفقد العائلة الوداعة التي عاشتها من قبل وتتحول الجزيرة من نموذج تعايش إلى فقدان البيئة الحاضنة له.

"حرقة" للتونسي لطفي نَتان هو أحد فيلمين تونسيين استلهما من قيام محمد البوعزيزي بحرق نفسه في الشهر الأخير من سنة 2010. الحدث الذي تسبب في اشتعال بضع ثورات أخرى أطفئت في بعض الدول وأدت إلى حرب ضارية في أخرى.

كتب المخرج سيناريو فيلم يستعير من وضع البوعزيزي عدة حقائق في محاكاة مقصودة كونه لم يرد (وربما لم يستطع) إعادة سرد الحكاية الواقعية. بطله هو أيضا بائع على الرصيف والشرطة تمر به كل يوم فيلقّمها بالرشوة، يحتج علي، كما احتج البوعزيزي من قبل، على معاملة الشرطة وكلاهما يحرق نفسه أمام مقر البلدية. عند هذا الحد تتوقف المحاكاة لأن السيناريو اختار هنا دروبا أخرى، إذ يعيش علي من بيع البنزين المهرّب ثم يحاول زيادة دخله بالإشتراك في عملية التهريب ذاتها، هذا في الوقت الذي يصر فيه المصرف على استعادة دين كان الأب استدانه قبل وفاته.

المسؤولية جسيمة وفادحة تدفع عليا إلى دروب مسدودة. يطرق أبوابا كثيرة بحثا عن حلول في الوقت الذي تمتهن فيه كرامته عندما لا يملك الرشوة لدفعها لرجل الشرطة.

كل ما يعرضه المخرج نتان قريب جدا من الواقع من دون أن يكون سيرة ذاتية لأحد. في الحقيقة، تمر قرابة ساعة من العرض قبل أن يتأكد المشاهد من أن الفيلم يحاكي ما حدث لمحمد بوعزيزي. خلال ذلك، يدير المخرج الأحداث والشخصيات بقدر متساو من الاهتمام. إدارته هذه كلاسيكية في إطارها العام. الكاميرا ثابتة. همّها الكشف وليس التدخل. السرد مقتصد في أم.اكن عدّة وكأسلوب سرد، لكن ذلك لا يمسّ  إيجاز الحالة الاجتماعية والفردية لبطله. التعليق الصوتي لشقيقته لا يأتي فقط ليزيد من جرعة الشعور مع بطل الفيلم بل أيضا كمراجعة لتاريخ حياته.

يتناول "حرقة" و"أشكال" الواقع التونسي انطلاقا من حادثة حرق البوعزيزي لنفسه، لكنّ كلا منهما ينحو منحى مختلفا في معالجة هذا الواقع 

أمر مختلف

الفيلم الثاني هو "أشكال" ليوسف الشابّي المصنوع بقدر كبير من الذكاء. يبتعد عن حادثة البوعزيزي ليطرح قصّة بوليسية مذكّرا بأنه في عهد الرئيس الأسبق زين الدين بن علي، بوشر ببناء صرح معماري كبير باسم "حدائق قرطاج". كمن وراء الرغبة في تحقيق هذا المشروع بناء حي كامل من المباني التي من شأنها تطوير المساحة الكبيرة من المدينة إلى ما يشبه مدينة دبي واقتصادياتها المشهودة. هذه الخطّة لم تكتمل وما منع اكتمالها قيام البوعزيزي بحرق نفسه في العام 2010 احتجاجا على الوضع البائس الذي عانى منه وسواه. أدت الحادثة، بين ما أدت إليه، إلى إيقاف العمل في "حدائق قرطاج" وإقفال مباني المشروع ليتحوّل المكان إلى مدينة أشباح مقفرة في النهار وموحشة في الليل.

في الفيلم هناك جرائم قتل تتوالى يقوم خلالها البعض بحرق أنفسهم لأسباب مجهولة. التحريان فاطمة (فاطمة بوسيفي) وبطل (محمد حسين قراعة) يحاولان تحرّي الوقائع بالرغم من أن المسؤولين يحاولون قفل التحقيقات على أساس أن الضحايا انتحاريون وليس هناك من قضية أبعد من ذلك. ترفض فاطمة التأويلات الجاهزة وتستمر في تحقيقاتها لتكتشف أن الضحايا دفعوا إلى ارتكاب ما قاموا به بفعل شكل ما (تلتقطه كاميرا فيديو من دون وضوح) يشعل النار بهم من دون لمسهم. هذا الاكتشاف لا ينم عن الإجابة عن أي سؤال بل يكثّف الأسئلة حول الأسباب والغايات والدوافع.

لم تصل هذه الأفلام التونسية الممتازة إلى ما وصل إليه فيلما كوثر بن هنية الأخيرين "الرجل الذي باع ظهره" و"بنات ألفة". كذلك وعلى الرغم من إنتاجات لبنانية عديدة خرجت في الفترة ذاتها ولم تشهد النجاح الذي يشهده حاليا "قلق في بيروت" و"على فوهة بركان".

الحاصل دوما أن المخرج يستطيع تحقيق فيلم جيد ومثير للاهتمام كحرفة أو كموضوع، لكن نجاحه في سبر غور المهرجانات الدولية، ناهيك عن الفوز بجوائزها، أمر مختلف تماما. من ناحية، هناك الموضوع المُنتخب ومن ناحية أخرى، هناك العلاقات الوثيقة مع شركات التمويل الأجنبية، وبين هذين السببين هناك بالطبع مدى شهرة المخرجين خارج حدود بلادهم.

font change

مقالات ذات صلة