مسرح الحرية في جنين... شاهد على بطش الاحتلال وقوة الأحلام

تعرّض للقصف خلال الحملة العسكرية الأخيرة

مدخل مسرح الحرية في جنين

مسرح الحرية في جنين... شاهد على بطش الاحتلال وقوة الأحلام

فلسطين: على المسرح هنالك صوت آخر للحياة، مساحة ذاتية تفتح على المزيد من الاحتمالات والتجارب الشعورية، وخطى تضيء الغرف المعتمة في عقل الإنسان.

ولطالما كان المسرح لاعبا أساسيا، محركا للوعي البشري لمسح الغبار عن العالم، ورؤية المشهد بنسبة أقل من الضباب.

تقول الممثلة الأميركية أودرا ماكدونالد: "حين وجدت المسرح، وجدت منزلي"، لكن هل يبقى هذا المنزل آمنا، في ظلّ وجود احتلال يهدّده، يهدّد الإنسان؟

أتذكر لحظات من الزمن، وقفت فيها أقرأ الشعر على خشبة مسرح المسحال، في مدينة غزة، في عام 2018، وبعدها بأيام قليلة، تشتعل الحرب، ويقوم الاحتلال الإسرائيلي بقصف مبنى المسرح، وإحالته إلى خراب كامل، ركام من الحجارة وقضبان الحديد الملتوية.

لقد سمع معظم سكان مدينة غزة صوت دوي انفجار هائل، في منتصف النهار، وكان الخبر بعد قليل: تحويل مبنى مسرح المسحال إلى ركام، بعد قصفه بمقاتلات إف 16.

شعرت حينها بالحسرة، إذ أن جزءا من ذاكرتي مع الأماكن في غزة تحطم، فلم يعد من الممكن تجسيد لحظة أخرى مع هذا المسرح من بعد. كان الإحساس بأن قصائدي قُصفت مع المبنى، وتناثرت العبارات الشعرية بين الركام. ورحت أردّد داخلي مع الغصة، جزءا من قصائدي التي شهدها المكان المقصوف، ولعلها كانت المفارقة، في أني كنت أقرأ للمكان والحجارة والإنسان، قبل قصف المسرح بأيام: "تعلمي معي المشي لنجمع بكاء الحائط، فالمدينة بحاجة إلى نهر، تلقي فيه حزنها". لقد انتابني بعد وقت شعور طاغ بأنني فقدت أحد أماكني الخاصة، وكأنما الاحتلال عمد إلى اجتثاث جزء من ذاكرتي.

في مخيم جنين، وبعد أعوام قليلة، يكرر الاحتلال الإسرائيلي الإيذاء والجرم، بطريقته المعتادة، يهاجم الإنسان والحجارة والأماكن، ويتمادى في تسخيف الحياة، وإفراغها من جوهرها، عبر القتل والتدمير والهدم والإقصاء، وترهيب الأمهات والأطفال والشيوخ. فتداهم قواته المخيم بعشرات الدبابات ومئات الجنود المهووسين بالعنف والقتل، وتنقضّ على كل معنى للحياة داخله.

فلطالما حاولت الشعوب المحتلة أن تصنع للحياة تأويلات أخرى، من خلال الفنون والمسرح، ولربما هذا يتحقق في المجتمع الفلسطيني على استحياء، نظرا لقلة الإمكانات والمقدرات المالية، الموجهة في ذلك الإطار.

لكن الاحتلال مصمم على اقتلاع هذه النبتة، من خلال مواصلة الاعتداء على المسرح الفلسطيني، بشكل مستمر، فهو يعرف مقدرته على مخاطبة الوعي الجمعي، والتأثير فيه.

كانت اللحظة الأولى لسماع خبر قصف المسرح مرعبة حقا، وقد تخيلت صورا مؤلمة، للمكان الذي يحمل الفكرة والهوية، وتربطني به ذكريات مؤثرة

مصطفى شتى

بؤرة نقاش

في جنين يقع "مسرح الحرية"، في عمق المخيم، يشارك أهل المخيم يومياتهم، من خلال الأنشطة المستمرة مع الأطفال والأهالي، ولطالما كان المكان بؤرة للنقاش، حول تثبيت الإنسان في الأرض، ودعم قدراته للحفاظ على الهوية الفلسطينية.

يعود إنشاء مسرح الحرية إلى آرنا مير خميس، وهي ناشطة يهودية متزوجة من المناضل الفلسطيني صليبا خميس، إذ أرادت التخفيف من معاناة الأطفال، فأنشأت المسرح بالتزامن مع انطلاق انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987، وسمّي حينها "بيت الطفولة"، ومن بعدها أطلق عليه اسم "مسرح الحجر"، نسبة إلى انتفاضة الحجارة.  وقد تغيّر اسمه إلى مسرح الحرية عام 2006. وعلى الرغم من وفاة آرنا، إلا أن فكرتها تواصلت عبر شخصيات مختلفة، فأطلق ابنها جوليانو من خلال المسرح فيلمه الوثائقي، "أولاد آرنا"، واغتيل من بعدها على بوابة المسرح، برصاص مجهولين، وجاء من بعده آخرون يحملون الفكرة، منهم زكريا الزبيدي.

صورة تظهر الدمار عند مدخل المسرح بعد القصف الاسرائيلي على مخيم جنين

ومن أبرز أعمال المسرح، قيامه في 2017، بتقديم فيلم "الحصار"، الذي جسد قصة احتجاز الاحتلال للأفراد المدنيين داخل كنيسة المهد، ومنعهم من المغادرة، وقد حظي العمل بانتشار عالمي، وتغطيات إعلامية موسّعة.

 

المسرح ثكنة عسكرية

قبل أيام، وخلال الحملة العسكرية على مخيم جنين، تتقدّم قوات الاحتلال إلى بوابة المسرح، وتقصف بوابته، وتدميرها بالكامل، ومن ثم تدخل المكان، تلقي داخل جدرانه القنابل اليدوية، فيما تحتجز العديد من سكان المخيم داخله، للاستجواب والإيذاء والتحقيق، وهكذا أصبح المسرح ثكنة عسكرية، تستغلها قوات الاحتلال، لإطلاق النار على المدنيين، وقتل الإنسان، فتحول من أداة فائقة للحياة، إلى مكان للقتل وإبادة الإنسان.

مصطفى شتى، المسؤول الإداري عن المسرح

يقول مصطفى شتى، المسؤول الإداري عن المسرح، لـ "المجلة": "لقد كانت اللحظة الأولى لسماع خبر قصف المسرح مرعبة حقا، وقد تخيلت صورا مؤلمة، للمكان الذي يحمل الفكرة والهوية، وتربطني به ذكريات مؤثرة".

ويضيف شتى: "لقد كنت قلقا بشدة، وأحمل مخيلة سوداوية، حول مصير الأمهات والأطفال، الذين أتوا ليحتموا بمبنى المسرح من القصف، لكنهم وجدوا بأن الاحتلال أحاله لثكنة عسكرية".

يتابع شتى: "ما زاد من قلقي، وجود صحفي برازيلي ساكنا بيت الضيافة في المسرح وقت الهجوم، وقد حاولنا جاهدا التواصل مع سفارته، من أجل حمايته والحفاظ على حياته".

يخبرنا المسؤول الإداري في مسرح الحرية نقلا عن الصحافي البرازيلي "إدريان ستيفز" الذي بقي لوقت طويل محتجزا داخل المسرح بأن الصحافي يقول:" لقد قمت بتغطية أحداث حرب أفغانستان، وشهدت أحداث زلازل تركيا الأخيرة، لكني لم أشعر بلحظات من الرعب والمأساوية، كما حدث في الاعتداء الإسرائيلي على مسرح الحرية في مخيم جنين، لقد خضت تجربة عصيبة، هدّدت حياتي في ذلك المكان".

لم أكن أتصور أن يقصف المسرح ويُحرق، فلقد حاول الاحتلال تصدير رسالة عكسية لرواد المسرح، تحمل نية التدمير والملاحقة، وهذا ما يؤكد أن المسرح يحقق أثرا كبيرا في نفوس أبناء المخيم

محمود أبو عيطة

تشويه

ولأن أماكن الفن تحمل قدسية شعورية لدى الإنسان، وخيوطا ترتبط باللحظات المؤثرة في الوعي البشري، فإن شتى يخبرنا عن معاناته من فقدان جوهر المكان الذي يرتبط بحواسه، ويمثل له البيت والهوية، فيقول: "كنت مشغولا بفكرة أن هذا المكان المنتج للجمال، يتعرض للتشويه في لحظات، ويتحول إلى مكان للقناصة الإسرائيليين... لقد هدِف الاحتلال إلى اجتثاث الحياة من المخيم، والمسرح، عبر فعل العقاب الجماعي، وزرع الإحباط داخل نفوس السكان، والفنانين".

يفيدنا شتى كذلك بأنه منع من السفر خارج فلسطين، هو وفنانون آخرون، واعتقل رئيس مجلس إدارة المسرح بلال السعدي، من دون أسباب واضحة، ويرجع ذلك إلى انتماء الفنانين للمكان الذي يعمل على توعية الناس بأهمية الثبات على الأرض.

ويؤكد شتى أن العمل لن يتوقف، وبدأ المسرح بالفعل باستقبال الفنانين من جميع أنحاء فلسطين، لتقديم الأعمال الفنية المجانية، من أجل استعادة المفقود من الأمل لدى أطفال وعائلات مخيم جنين، من خلال المسيرات الجوالة في المخيم، والأنشطة الفنية داخل المسرح، الذي يجري العمل على إعادة تأهيله من جديد.

الفنان محمود أبو عيطة على خشبة المسرح

رسالة عكسية

أما الفنان محمود أبو عيطة، وهو من المشاركين في أنشطة "مسرح الحرية"، فيقول لـ "المجلة": "هذا حدث غريب، لم أشهده من قبل، فلم أكن أتصور أن يقصف المسرح ويُحرق، فلقد حاول الاحتلال تصدير رسالة عكسية لرواد المسرح، تحمل نية التدمير والملاحقة، وهذا ما يؤكد أن المسرح يحقق أثرا كبيرا في نفوس أبناء المخيم".

يكمل أبو عيطة: "كنت أخشى الخسارة.. خسارة المكان والهوية والفكرة، عند استهداف المسرح خلال الحملة العسكرية، كنت أخشى مسح الخشبة الفنية التي أقف عليها، كان الألم الداخلي يحمل الفظاعة، حول احتمالية انتهاء اللحظات الجميلة مع أهل المخيم، وقت تنفيذ العروض الفنية".

ولأن المشهد المعتاد لم يعد كما هو، يسرد الفنان أبو عيطة من مخيلته، لحظة اللقاء الغصة، مع المسرح، بعد انتهاء الحملة العسكرية، فيقول: "لقد عشت لحظات مؤلمة، مليئة بالتناقاضات الشعورية، خلال دخولي للمكان، إذ اعتدت رؤية صور إعلانات المسرحيات والأفلام المعروضة في المسرح، لكن المشهد كان شاحبا موحشا، فكانت الصور محترقة، والحائط في مدار مبنى المسرح، ممتلئا بسواد القنابل، وعلى الأرض تراكمت حجارة المسرح المهدومة، لقد كانت صورة سيئة للعالم، أن يهدم الجمال بهذه الطريقة".

 

دويّ القنابل أم صوت المسرح

يكمل أبو عيطة: "من المأساوي أن يتحكم صاحب القوة بالعالم، ويستطيع أن يلغي صوت المسرح في أي وقت، فيصبح دويّ القنابل أعلى من صوت الفن، لكننا نراهن على الأثر، فأثر الكلمة القصيرة على المسرح، يحمل استدامة أكبر من صوت القنابل مجتمعة".

ويشير أبو عيطة إلى عمق ارتباط مسرح الحرية بأهل المخيم، ويخبرنا بأنه خلال يومياته في المخيم، يلمح أثر ما يقدّم على الخشبة مع الأطفال والأهالي، من خلال ملاحقة الأطفال له بالأسئلة عن مواعيد عرض الأعمال المقبلة.

هذا المسرح يشكل مساحة آمنة لنا وللأطفال وللأهالي، من أجل حياة ممكنة يبحث عنها الجميع. أننا نحمل الأفكار سوية، من أجل إيصال الرسالة بأننا متواجدون على هذه الأرض، ولن نتوقف عن الركض نحو الحرية


مؤمن السعدي

قصص ذاتية

أما الفنان مؤمن السعدي، المشارك في أنشطة المسرح، فيخبرنا: "لقد أصابني سيل من الصور السيئة، فور الاعتداء على المكان، فتخيلت المكان ترابا متطايرا، وبأن خشبة المسرح تحولت إلى هباء".

ويفيدنا السعدي:" لقد كانت الخشية من ضرر لحق المعنى أكثر مما لحق مبنى المسرح، إذ شعرت للحظة بأننا على وشك أن نفقد قصصنا الذاتية، الصوت الحر الذي اعتدنا تقديمه على خشبة المسرح".

الفنان مؤمن السعدي

ويكمل السعدي: "هذا المسرح يشكل مساحة آمنة لنا وللأطفال وللأهالي، من أجل حياة ممكنة يبحث عنها الجميع. أننا نحمل الأفكار سوية، من أجل إيصال الرسالة بأننا متواجدون على هذه الأرض، ولن نتوقف عن الركض نحو الحرية".

font change

مقالات ذات صلة