كيف تستعد الجامعات العربية للذكاء الاصطناعي؟

أطلق نقاشات وفرصاً في القطاع التعليمي في المنطقة

ناش ويراسيكيرا
ناش ويراسيكيرا

كيف تستعد الجامعات العربية للذكاء الاصطناعي؟

يكابد المدرسون في مختلف أنحاء العالم من أجل فهم ماهية الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي أطلق في نهاية العام المنصرم، وقد اغتنمت المحاضرة في اللغة الإنكليزية والفنون الحرة في لبنان رين قزي هذه الفورة للمساهمة في النقاش العالمي.

بعد وقت قصير من إطلاق "تشات جي. بي. تي." في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2022، شاركت قزي في مؤتمر متنوع عن التكنولوجيا الجديدة في الجامعة اللبنانية الأميركية، انضم إليه أعضاء هيئات تدريس من مؤسسات أميركية، وبدأت بتطبيق ما اكتسبته من معرفة في لبنان والخارج.

وتقول: "شكلتُ على الفور مجلس مراجعة مؤسسية لإجراء بحوث عن الفصول الدراسية في الجامعة اللبنانية الأميركية. للمرة الأولى، لم أشعر بأنني في حاجة الى الانتظار للحصول على خبرة من الخارج. كنا جميعاً في الخندق نفسه". لدى المؤسسة الآن لجنة من 15 عضواً يعملون على تطوير بيان على مستوى الجامعة حول سياسة استخدام الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي، خلال الفصل الأكاديمي في الخريف المقبل.

واضافت: "ذهبتُ إلى برلين في برنامج تبادل في أبريل/نيسان الماضي وكنت أدرّس مجموعة من الطلاب الألمان عن الذكاء الاصطناعي التوليدي، وكان معظمهم ممن لم يستخدموه قط. في وقت كان طلابنا في الجامعة اللبنانية الأميركية يسيئون استخدامه منذ البداية".

Shutterstock

منذ إطلاق "تشات جي. بي. تي." الذي لاقى رواجا كبيرا، وانتشار الذكاء الاصطناعي في المجتمع، تبدو وسائل الإعلام مشبعة بالنقاشات عن كلفة التكنولوجيا الجديدة، ومنافعها وتحيزاتها والبيانات والمخاوف التي تثيرها في شأن خصوصية المستخدم، ولا سيما مع التركيز على كيفية تأثيرها في الطريقة التي نعمل بها. ومع ذلك، تندر المقالات التي تناقش هذه الأمور في العالم العربي، ولا سيما في مجال التعليم.

يظهر مشهد الذكاء الاصطناعي في أوروبا، حيث أُقِرَّ في يونيو/حزيران الماضي مسودة مشروع قانون يعرف باسم "قانون الذكاء الاصطناعي"، من شأنه تقييد الاستخدامات الأكثر خطورة لهذه التكنولوجيا، تناقضا حادا مع غياب سياسة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، حيث تتسم الميزات التكنولوجية بسجل من عدم الاكتراث للأثمان الاجتماعية والمخاوف المتعلقة بالخصوصية، كما يتضح في شعار مارك زوكربيرغ الشهير "تحرك بسرعة واكسر التقاليد"، مما يعكس انقساماً أعمق حول استخدامات التكنولوجيا وقضاياها الأخلاقية، في حين يوفر ذلك فرصة للعالم العربي يمكن من خلالها التعلم من وجهات نظر مختلفة.

على الرغم من أن الولايات المتحدة مركز رائد لبحوث الذكاء الاصطناعي، لم يتمكن أعضاء هيئات التدريس في كثير من الحالات من التعامل مع هذه التكنولوجيا الجديدة (التي فرضها "تشات جي. بي. تي.")

فلاور داربي، المديرة المساعدة لمركز التعليم في جامعة ميسوري في كولومبيا

في الإمارات العربية المتحدة، وهي أول دولة تعين وزيرا للدولة للذكاء الاصطناعي عام 2017، خضع مئات الموظفين الحكوميين إلى تدريب مكثف على الذكاء الاصطناعي التوليدي من خلال "أكاديمية دبي للمستقبل". كما تفخر البلاد بجامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، المكرسة حصرا لبحوث الدراسات العليا في هذا الحقل. 

وكشفت المملكة العربية السعودية، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، عن الاستراتيجيا الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، بعدما أنشأت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي والمركز الوطني للذكاء الاصطناعي العام السابق. وفق هذه الرؤية، تخطط الحكومة لتدريب 20 ألف متخصص في البيانات والذكاء الاصطناعي في حلول عام 2030، علماً بأن كثيرا من أهداف رؤية 2030 تنطوي على بعض جوانب البيانات والذكاء الاصطناعي. تحقيقاً لهذه الغاية، وضعت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في المملكة، بعد إطلاق "تشات جي. بي. تي."، برنامجاً للطلاب الجامعيين بهدف تدريب الطلاب الموهوبين ليصبحوا قادة في مجال الذكاء الاصطناعي. 

وكانت مجلة "رحلة" اللبنانية الثقافية، التي تصف نفسها بأنها "تجريبيّة، عميقة، وحرّة"، خصصت أحدث إصداراتها لموضوع الذكاء الاصطناعي مع منحى سوداوي. وصورت على غلافها مراهقا، رأسه مفتوح جزئياً، ويظهر أجزاء من رقائق الكترونية، في صورة مماثلة لداخل هاتف "آيفون". وفي مقال كتبته يمان طعمة بعنوان "حوائج الخيال"، وصفت الطبيعة المتناقضة للذكاء الاصطناعي التوليدي في العالم الناطق بالعربية: "في هذه الهرمية الرقمية، ما يُحرّرنا من تأثيرها لأنها تجهل وجودنا. لن تستطيع تلك الخوارزميات الجاهلة للغة العربية ومكوناتها أن تستعبد حروفها وتطوّعها في مسارها لتحقيق الربح وفرض سلطتها. لنا الحق في أن نحلم بإمكانات الإبداع الذي تعد به موجة الذكاء الاصطناعي، لا لشيءٍ سوى لأننا في عالمٍ يتغذى من يأسنا في إحداث التغيير". 

Shutterstock
ذراع روبوت آلي صناعي

وتشير قزي، التي تحاضر باللغة الانكليزية، الى أن الأداة الجديدة تساعد أيضاً الطلاب في لبنان، الذين ليست الإنكليزية لغتهم الأولى، على تجاوز العقبات اللغوية في مجالات مثل البحوث المخبرية. ووفق بيانات مستخرجة من "اتجاهات بحوث غوغل"، احتل لبنان المرتبة الخامسة عالمياً في عدد عمليات البحث في "تشات جي. بي. تي."، وهي دلالة إيجابية على تبني البلاد لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.

الارتباك في التعليم العالي الأميركي

على الرغم من أن الولايات المتحدة مركز رائد لبحوث الذكاء الاصطناعي، لم يتمكن أعضاء هيئات التدريس في كثير من الحالات من التعامل مع هذه التكنولوجيا الجديدة (التي فرضها "تشات جي. بي. تي.")، كما تقول فلاور داربي، المديرة المساعدة لمركز التعليم من أجل التعلم في جامعة ميسوري بكولومبيا: "كثر من أعضاء هيئات التعليم، إن لم يكن معظمهم، يتجاهلون الأمر تماماً. يبدو صراحة، أن أعضاء هيئات التعليم استنزفهم التدريس المرهق عبر الإنترنت خلال السنوات الثلاث المنصرمة. من ثم يأتي هذا التحدي الكبير الذي يلوح في الأفق ولا يمكنهم فهمه أو التعامل معه". بالإضافة إلى ذلك، فإن المؤسسات التعليمية لا تعمل على إصدار بيانات وتوجيهات في هذا الصدد، على الرغم من انتشار استخدام هذه الأداة بين الطلاب، بحسب داربي.

في بعض الحالات، يأسف الأساتذة لاندثار التعليم التقليدي ويصفون التكنولوجيا الجديدة بـ"الطاعون"، ويتخوفون من سرقة حقوق الملكية الفكرية والغش بمساعدة التكنولوجيا. إلا أن القدرة على اكتشاف أي تعدٍّ على الملكية الفكرية بواسطة الذكاء الاصطناعي أثبتت صعوبتها. 

"الغش الخاطىء"... وظلم طلاب

في الواقع، في إحدى الحالات غير الموفقة في جامعة "تكساس إيه اند إم الزراعية والميكانيكية" في مايو/أيار، استخدم مدرّس زراعة برنامج كشف السرقة والغش على نحو خاطئ، مما شكل تهديدا لنيل أحد الطلاب شهادة الديبلوم. 

تتابع المديرة داربي عن كثب حال الذعر والفوضى المفرطة في مشهد التعليم العالي، ولديها العديد من التوصيات، أوجزتها في مقالة في مجلة "وقائع التعليم العالي"، ركزت فيها خصوصا على المخاوف الأخلاقية لطلب إنشاء حساب من الطلاب، وبالتالي الموافقة على التبرع ببياناتهم للشركات التي تطلق هذه الأدوات. يتضمن أحد الاقتراحات استخدام الأداة على نحو جماعي، على أن يستعان بحساب قائم لأحد الطلاب. وينطوي اقتراح آخر على استخدام الأستاذ للأداة.

التوصية الأخيرة هي بالضبط ما يفعله بيري كليبان، وهو رجل أعمال، والرئيس السابق للمبيعات والتسويق في "باتاغونيا"، والعضو المؤسس المشارك في كلية التصميم ف جامعة "ستانفورد". في أوائل مايو/أيار، شارك كليبان في ندوة تدريس عبر الإنترنت مع سيباستيان كراكوفسكي، الباحث في كلية ستوكهولم للاقتصاد الذي يجري بحوثاً في قدرة الذكاء الاصطناعي على المساعدة في تنمية الإبداع لدينا. استقطبت أول ندوة عامة عبر الإنترنت أربعة آلاف شخص. قال كليبان: "في المواضيع السابقة، كنت أتلقى 50 سؤالاً فقط، لكننا تلقينا 500 سؤال وكان معظمها مشوباً بالقلق البالغ، منها: هل سيسلبني الذكاء الاصطناعي وظيفتي؟ هل الذكاء الاصطناعي آمن؟ هل سيتسبب الذكاء الاصطناعي في اختراق حسابي المصرفي؟".

نحن في حاجة إلى مواقف نقدية تنبثق من الفكر الإنساني، ولا سيما أن مجالاً مثل التاريخ المرتبط بالحاضر الواقعي والماضي المؤرشف، يُعَدّ ضرورياً لدرس كيفية تعامل الناس مع هذه التكنولوجيات

ميرف تكغورلر، مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ في جامعة "ستانفورد"

ما استخلصه كليبان من تلك التجربة، هو العمل مع طلابه لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي، أي وضع نفسه في موقف التعلم إلى جانبهم: "كنت أوصل هذه الشاشات الكبيرة بعضها ببعض وننشئ حرفياً مكالمة جماعية بواسطة تقنية الـ"زوم" في الفصل الدراسي حتى يتمكن الجميع من العمل في وقت واحد، وتمكنا من مشاركة الشاشات. يبدو الأمر بعيدا من التقدير الشخصي لكل طالب، وكان كذلك في بعض الأحيان. لكن هذا يمثل تحولا مزلزلا، وعلى كل طالب أن يدركه وأن يستخدمه بمسؤولية". 

يوازي نهج كليبان ما اتبعته قزي في الجامعة اللبنانية الأميركية، وكلاهما اعتمد الذكاء الاصطناعي التوليدي مع الطلاب في الفصل الدراسي، في حين لم يتوانيا عن انتقاد المخاوف الأخلاقية وعدم الدقة، وعن مقاربة المسألة بوعي. يصف كليبان الذكاء الاصطناعي التوليدي بأنه "محرك خيارات" رائع بدلاً من "محرك إجابات"، لأنه "جيد بقدر ما تغذيه بالمنطق الاستنتاجي"، وحتى عند ذلك، يبقى احتمال عدم الدقة قائما.

 وأعربت ميرف تكغورلر، وهي مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ في جامعة "ستانفورد"، عن حماستها للذكاء الاصطناعي التوليدي خصوصا في البحوث التي تتضمن تدريب نموذج التعرف على النص المكتوب بخط اليد للغة التركية العثمانية في القرن الثامن عشر، على الرغم من أن البيانات متحيزة لصالح اللغات الأوروبية. وهي تعتقد بأن للعلوم الإنسانية دورا في توجيه النقاش في وقت ترتبط فيه معظم وظائف الذكاء الاصطناعي إما بالهندسة أو بالسياسات: "نحن بحاجة إلى مواقف نقدية تنبثق من الفكر الإنساني، ولا سيما أن مجالاً مثل التاريخ المرتبط بالحاضر الواقعي والماضي المؤرشف، يُعَدّ ضرورياً لدرس كيفية تعامل الناس مع هذه التكنولوجيات". 

الذكاء الاصطناعي التوليدي "محرك خيارات" رائع بدلاً من "محرك إجابات"، لأنه "جيد بقدر ما تغذيه بالمنطق الاستنتاجي"، وحتى عند ذلك، يبقى احتمال عدم الدقة قائما

بيري كليبان، رجل أعمال والرئيس السابق للمبيعات والتسويق في "باتاغونيا"

يُعَاد النظر حاليا في وسائل التعليم التقليدي، ليس فقط في فصول كليبان الدراسية، لكن في سائر أنحاء العالم، في حين يقدم بعض الأساتذة على إصلاح برامجهم التعليمية تماماً. في الجامعة اللبنانية الأميركية، سيشمل جزء من سياسة المؤسسة مزيداً من التركيز على الامتحانات الشفوية والعروض التقديمية، وفقا لجوردان سرور، مساعد وكيل الجامعة للموارد التعليمية والابتكار: "نعمل أيضاً على سياسة مرنة تسمح بالحصول على نحو 25 في المئة من الدرجات من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي". 

وقالت رزان أبي المنى، وهي طالبة شؤون مالية في الجامعة اللبنانية الأميركية، تبلغ من العمر 19 سنة، إنها تعلمت من فصل التكنولوجيا والأخلاق والمجتمع العالمي الذي تقدمه قزي كيفية "استخدام الذكاء الاصطناعي بوعي" كلما واجهت عقبة. "في بعض الأحيان كان مفيداً، وفي أحيان أخرى لم يكن كذلك. انتهى بي الأمر إلى الإعجاب بأفكاري الخاصة واستخدامها بدلاً من ذلك. في بعض الأحيان، دفعني إلى التفكير بشكل أفضل، ولا سيما عندما كانت الإجابات عامة للغاية. الذكاء الاصطناعي هو ما نصنعه، وكيف نستخدمه، ونتحكم فيه، ولا يتحكم بنا". واضافت: "سيكون الاستخدام الواعي والأخلاقي للذكاء الاصطناعي في لبنان أمراً رائعاً. في رأيي، هو ليس مدمراً للوظائف، بل مجال تكنولوجي جديد. مع معدلات البطالة الحالية، يمكن أن يشكل ذلك دفعا كبيرا".
 

font change

مقالات ذات صلة