انطلقت مع جولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخليجية التي استهلها بزيارة المملكة العربية السعودية في مطلع الأسبوع المنصرم، مرحلة مختلفة ونوعية من العلاقات الخليجية التركية من بوابة الرياض. مرحلة لا يمكن اختصارها بالبعدين الاقتصادي والاستثماري بين الدولتين بل بإرساء الأسس لشراكة حقيقية بالمعنى الشامل لهذا المفهوم.
لقد قارب البيان المشترك كل القضايا الدولية والإقليمية بما يؤكد المسؤولية المشتركة لتركيا والمملكة في مواجهة تحديات الاقتصاد العالمي من خلال التكامل الاقتصادي واستقرار أسواق الطاقة وتعزيز التعاون المشترك في القطاع الصناعي والاقتصاد الرقمي وبما يحقق النمو المستدام.
كما حاز الجانبان الأمني والدفاعي جزءا كبيرا في البيان المشترك، من خلال التأكيد على الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وتوقيع الخطة التنفيذية للتعاون في مجالات القدرات والصناعات الدفاعية والأبحاث والتطوير، لا سيما عقدي الاستحواذ بين وزارة الدفاع وشركة "بايكار" التركية للصناعات الدفاعية لتوطين صناعة الطائرات المسيَرة والأنظمة المكونة لها داخل المملكة، وبما يؤمن نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك. هذا وقد بدا واضحا التكامل بين الجانبين فيما يتعلق بالتماهي في المواقف حيال القضايا الإقليمية لا سيما الأزمة اليمنية والملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية والوضع المتفجر بالسودان والحرب في أوكرانيا ودائما من خلال قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة وبما يحافظ على السلم والأمن الدوليين.
ففي أي سياق تأتي الزيارة الرئاسية التركية؟ وهل أصبحت تركيا شريكا في المنظومة الأمنية في الخليج العربي؟ ما هي تطلعات أنقرة وقدرتها على لعب هذا الدور؟ كيف يمكن للجهات الإقليمية الفاعلة (دول مجلس التعاون الخليجي وإيران) أن ترى دورا أمنيا تركيا معززا في الخليج؟
أمن الخليج العربي، تحولات دولية وتغيّرات بنيوية
شهدت منطقة الخليج العربي في العام 1971 التحول الأول في بنيتها الأمنية مع تراجع النفوذ البريطاني وانتهاء دور المملكة المتحدة ووجودها العسكري وصعود الدور الأميركي في الخليج. استكملت السيطرة الأمنية الأميركية على منطقة الخليج العربي مع سقوط شاه إيران وسيطرة نظام إسلامي متشدد على الحكم عام 1979 وغزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في نهاية ذلك العام عبر تطوير الولايات المتحدة لما أصبح يعرف فيما بعد بــ"عقيدة كارتر".
وقد كان لهذه العقيدة أهداف أولية عدة: احتواء امتداد الثورة الإيرانية، منع الاتحاد السوفياتي من الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج، حماية آبار النفط في المنطقة وتشجيع تعاون دول المنطقة تحت المظلة الأميركية. كما تقدمت فكرة التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة واستخدام الأسلحة النووية لحماية المصالح الأميركية.
لقد بقي أمن الخليج العربي حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين خاضعا لثوابت ثلاثة. أولها، استمرار التهديد الإيراني لدول الخليج العربي وأمن منطقة الخليج ما دفعها إلى صياغة سياساتها الخارجية تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي. ثانيا، وجود كثير من الثغرات ونقاط الضعف لدى دول الخليج لا سيما على المستويين العسكري والدفاعي. وأخيرا استئثار الولايات المتحدة بدور الضامن الأمني لدول ومنطقة الخليج العربي.
وبالتزامن مع انطلاق الاحتجاجات في أكثر من بلد عربي عام 2011، ظهرت أشكال جديدة من التهديدات وارتفعت الحاجة لمزيد من الضمانات الأمنية في ظل ظروف دولية غير ملائمة وتبدل في الأولويات الأميركية؛ فبالإضافة إلى التهديد التقليدي الذي تشكله إيران، واجهت حكومات دول الخليج العربي أشكالا جديدة من التهديدات الناجمة عن تصاعد أشكال الإرهاب والتطرف والقرصنة البحرية، وانتشار الميليشيات على حدودها وترددات الانتفاضات في الشارع العربي التي أدت إلى تباينات في المواقف بين دول مجلس التعاون الخليجي. كما أدى الفراغ الإقليمي الناشئ عن تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى تنافس إقليمي شرس على النفوذ عبّرت عنه كل من إيران وإسرائيل وتركيا بمزيد من التفرد في سياساتها الخارجية وبتنامي أنشطتها العسكرية. هذا وقد كثفت روسيا من وجودها العسكري وتدخلها في المنطقة في حين كثفت الصين والهند من وجودهما الاقتصادي.
أدى كل ذلك إلى تراجع غير مسبوق في ثقة دول مجلس التعاون الخليجي بواشنطن كضامن أساسي للأمن. وقد ساهمت تطورات مهمة ومواقف أميركية عدة بشكل كبير في هذا التراجع لا سيما خلال إدارتي باراك أوباما (2009-2016) ودونالد ترامب (2017-2020)، حيث بدا من الضرورة لدول الخليج العربي البحث عن أساليب جديدة لسد الفجوة المتسعة بين التهديدات المتزايدة وانخفاض الالتزامات الأمنية الأميركية. وقد باشرت دول مجلس التعاون الخليجي بداية باتباع سياسات خارجية وأنشطة عسكرية غير تقليدية استجابة للتوجهات الأمنية الناشئة حديثا، وربما اعتقدت الولايات المتحدة أن هذا التطور الإيجابي من شأنه أن يخفف الأعباء عن كاهلها ويعزز الأمن الجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي.