النظام الدولي الليبيرالي يتفكك ببطء

قد يكون انهياره مفاجئاً ولا رجعة فيه

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
نشطاء من منظمة "الصوت الهيودي من أجل السلام"، يحيطون بساحة تمثال الحرية، في 6 نوفمبر 2023.

النظام الدولي الليبيرالي يتفكك ببطء

للوهلة الأولى، يبدو الاقتصاد العالمي مرناً في شكل مطمئن. تزدهر أميركا حتى مع تصاعد حربها التجارية مع الصين. وتصمد ألمانيا أمام فقدان إمدادات الغاز الروسية من دون أن تعاني من كارثة اقتصادية. ولا تتسبب الحرب في الشرق الأوسط بأي صدمة نفطية. وبالكاد يؤثّر المتمردون الحوثيون الذين يطلقون الصواريخ في التدفق العالمي للبضائع. أما التجارة، محتسبةً كحصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فتنتعش بعد الركود الذي تسبّبت به جائحة "كوفيد-19"، ومن المتوقع أن تنمو في شكل صحي هذه السنة.

لكن نظرة أعمق في الاقتصاد العالمي تكشف الهشاشة. منذ سنوات، في مقدور الأثر الذي تسبب به انهيار المعايير في الاقتصاد أن يكون سريعاً وكارثيا، حتى لو لم يصل الأمر أبدا إلى نزاع.

خلال كتابة هذه السطور، يتضح تفكك النظام القديم في كل مكان. فقد قفز استخدام العقوبات بمعدل أربعة أضعاف، مقارنة بما كان عليه خلال تسعينات القرن العشرين. وفرضت أميركا أخيراً عقوبات "ثانوية" على الجهات التي تدعم الجيوش الروسية. والآن تدور حرب في مجال الإعانات، إذ تسعى البلدان إلى استنساخ دعم الصين وأميركا الضخم للتصنيع الأخضر. وعلى الرغم من أن الدولار لا يزال مهيمناً، وأن الاقتصادات الناشئة لا تزال أكثر مرونة، فإن تدفقات رأس المال العالمية تبدأ بالتفكك، وفق ما يوضح تقريرنا الخاص.

يفرض التفتت والانحلال ضريبة خفية على الاقتصاد العالمي، يظهِر التاريخ أن حصول انهيارات أعمق وأكثر فوضوية ممكن– وقد يحدث ذلك فجأة بمجرد بدء الانحدار

المؤسسات التي حافظت على النظام القديم إما اختفت بالفعل أو تفقد صدقيتها بسرعة. تبلغ منظمة التجارة العالمية سنتها الـ30 في السنة المقبلة، لكنها ستكون قد أمضت أكثر من خمس سنوات في حال من الركود، بسبب الإهمال الأميركي لها. يعاني صندوق النقد الدولي من أزمة هوية، فهو عالق بين مطرقة الأجندة الخضراء وسندان ضمان الاستقرار المالي. مجلس الأمن الدولي مشلول. وخلال كتابة هذه السطور، تستخدم أطراف متحاربة، المحاكمَ العابرة للحدود القومية كسلاح بشكل متزايد، مثل محكمة العدل الدولية.

إقرأ أيضا: عاصفة الديون العالمية تطرق الأبواب

الشهر المنصرم، هدّد سياسيون أميركيون من بينهم زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل المحكمة الجنائية الدولية بعقوبات إذا أصدرت مذكرات اعتقال في حق قادة إسرائيل الذين تواجه دولتهم أيضاً اتهامات بارتكاب إبادة جماعية، وجهتها جنوب أفريقيا إليها أمام محكمة العدل الدولية.

سيناريوهات عودة ترمب وواردات الصين

فرض التفتت والتدهور ضريبة خفية على الاقتصاد العالمي: حتى الآن يمكن إدراكها، لكن فقط إذا عرف المرء أين يبحث عنها. لسوء الحظ، يُظهِر التاريخ أن حصول انهيارات أعمق وأكثر فوضوية ممكن – وقد يحدث ذلك فجأة بمجرد بدء الانحدار. قتلت الحرب العالمية الأولى عصراً ذهبياً للعولمة افترض كثيرون في ذلك الوقت أنه سيستمر إلى الأبد. في أوائل ثلاثينات القرن العشرين، بعد بداية الكساد الكبير وفرض الولايات المتحدة رسوم "سموت-هاولي" الجمركية [وفق قانون أعده عضو مجلس الشيوخ ريد سموت وعضو مجلس النواب ويليس هاولي وعُرِف باسميهما]، انهارت واردات أميركا بنسبة 40 في المئة خلال سنتين فقط. وفي أغسطس/آب 1971، علّق ريتشارد نيكسون في شكل غير متوقع العمل بقابلية تحويل الدولارات إلى ذهب. وبعد 19 شهراً فقط، انهار نظام "بريتون وودز" لأسعار الصرف الثابتة.

.أ.ف.ب
وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، تتحدث على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، في وزراة الخزانة في العاصمة واشنطن 16 أبريل 2024.

واليوم، يبدو أن تمزقاً مماثلاً يمكن تخيله. إن عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، بنظرته إلى العالم المستندة إلى الاستئثار بالمكاسب كلها، من شأنها أن تواصل تآكل المؤسسات والمعايير. ويمكن للخوف من موجة ثانية من الواردات الصينية الرخيصة أن يسرّع ذلك. أما الحرب الصريحة بين أميركا والصين حول تايوان، أو بين الغرب وروسيا، ففي مقدورها أن تتسبب بانهيار عظيم.

إقرأ أيضا: البنوك الصينية مثقلة بالقروض الهالكة المخفية

في العديد من هذه السيناريوهات، ستكون الخسارة أكثر عمقاً مما يعتقد كثيرون من الناس. من المألوف انتقاد العولمة غير المقيدة باعتبارها سبباً لعدم المساواة والأزمة المالية العالمية وإهمال المناخ. لكن إنجازات تسعينات القرن العشرين وأواخر القرن العشرين – حين وصلت الرأسمالية الليبيرالية إلى ذروتها – لا مثيل لها في التاريخ. لقد نجا مئات الملايين من الفقر في الصين مع اندماج البلاد في الاقتصاد العالمي. وبلغ معدل وفيات الرضع في أنحاء العالم كله مستوى يقل عن نصف ما كان عليه عام 1990. وبلغت النسبة المئوية لسكان العالم الذين قُتِلوا بسبب النزاعات بين الدول أدنى مستوى لها بعد الحرب العالمية الثانية عند 0.0002 في المئة عام 2005؛ وبلغت النسبة عام 1972 نحو 40 ضعف هذا المستوى. وتظهر أحدث البحوث أن عصر "إجماع واشنطن"، الذي يأمل زعماء اليوم في أن يستبدلوا به نظاماً آخر، كان عصراً بدأت فيه البلدان الفقيرة تتمتع بنمو أتاح لها اللحاق بركب الدول الغنية، مما قلّص الفجوة بينها وبين العالم الغني.

في نظر الحزب الشيوعي الصيني، أو فلاديمير بوتين، أو غيرهما من الأطراف المدفوعة بمصالحها فقط، لن يشكل نظام تكون فيه القوة هي الحق شيئاً جديداً

يهدد تراجع النظام بإبطاء هذا التقدم، أو حتى دفعه في الاتجاه المعاكس. وبمجرد انهياره، من غير المرجح أن تُستبدَل به قواعد جديدة. بدلاً من ذلك، ستنحدر الشؤون العالمية إلى حالتها الجامحة من الفوضى التي تتيح اللصوصية والعنف. ومن دون الثقة والإطار المؤسساتي للتعاون، سيصبح من الصعب على البلدان التعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين، من احتواء سباق التسلح الجاري في مجال الذكاء الاصطناعي إلى التعاون في الفضاء. ستعالج المشاكل تجمعات البلدان ذات التفكير المماثل. وقد ينجح ذلك، لكنه سينطوي في غالب الأحيان على إكراه واستياء، كما هي الحال مع الرسوم الجمركية الحدودية المفروضة على الكربون في أوروبا أو الخلاف بين الصين وصندوق النقد. وعندما يفسح التعاون المجال للتسلح القوي، سيقل الحافز لدى البلدان للحفاظ على السلام. 

في نظر الحزب الشيوعي الصيني، أو فلاديمير بوتين، أو غيرهما من الأطراف المدفوعة بمصالحها فقط، لن يشكل نظام تكون فيه القوة هي الحق شيئاً جديداً. لا تعتبر هذه الأطراف النظام الليبيرالي تطبيقاً لمثل عليا بل ممارسة للقوة الأميركية الغاشمة – القوة التي تشهد الآن تراجعاً نسبياً.

صندوق النقد العاجز

صحيح أن النظام الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية حقق تزاوجاً بين مبادئ أميركا الدولية ومصالحها الاستراتيجية. ومع ذلك، جلب النظام الليبيرالي أيضاً منافع ضخمة لبقية العالم. يعاني العديد من فقراء العالم بالفعل من عجز صندوق النقد عن حل أزمة الديون السيادية التي أعقبت جائحة "كوفيد-19".

إنفوغراف: ديون العالم تسابق النمو الاقتصادي

وتستغل البلدان المتوسطة الدخل مثل الهند وإندونيسيا التي تأمل في تحقيق ثروة وطنية من التجارة، الفرص التي أتاحها تفكك النظام القديم، لكنها ستعتمد في نهاية المطاف على بقاء الاقتصاد العالمي متكاملاً وذا اتجاهات يمكن توقعها. ويعتمد ازدهار قسم كبير من بلدان العالم المتقدم، ولا سيما الاقتصادات الصغيرة المفتوحة مثل بريطانيا وكوريا الجنوبية، اعتماداً تاماً على التجارة. وبدعم من النمو القوي في أميركا، قد يبدو الاقتصاد العالمي قادراً على النجاة من التحديات كلها. لكنه غير قادر على ذلك.

font change

مقالات ذات صلة