الشرق الأوسط يفقد أهميته في الجدل السياسي الأميركي

يركز الأميركيون أكثر فأكثر على مشاكلهم الخاصة وانقساماتهم الداخلية والتحديات العالمية الأخرى مثل الصين وروسيا

Reuters
Reuters

الشرق الأوسط يفقد أهميته في الجدل السياسي الأميركي

لم يعد يفصلنا عن انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2024 سوى أقل من عام ونصف العام، ولا يزال المزاج العام للبلاد متشائما بشكل غريب، على الرغم من الانتعاش الاقتصادي القوي، الذي تشهده البلاد بعد الإغلاق القسري أثناء الوباء، وانخفاض معدل البطالة. وبينما بدأ الرئيس جو بايدن وفريقه حملته لإعادة انتخابه بثبات، لا يزال خصمه في الانتخابات عن الجمهوريين غير محسوم وثمة تساؤلات كبرى حول ما سيؤول إليه الحزب في المرحلة القادمة.

ومع ذلك، لا يزال الرئيس السابق دونالد ترامب يحتفظ بميزة قوية تجعله متفوقا على طيف واسع من معارضيه داخل الحزب الجمهوري، بينما تحوم فوق الرؤوس أسئلة كبيرة حول جملة من القضايا القانونية ضد ترامب وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على كيفية نظر الناخبين إليه كمرشح.

يتمحور التركيز الرئيس في مجال المناقشات السياسية الأميركية حول القضايا المحلية، لا سيما الصراعات الثقافية وسياسات الهوية، حيث يشارك كلا الجانبين اليميني واليساري بقوة في هذه المناقشات. وباستثناء الدور الريادي الذي تلعبه إدارة بايدن في معالجة العدوان الروسي على أوكرانيا وسعيها إلى التعاون مع الصين في مجالات محددة، لا تحظى المسائل العالمية الأوسع باهتمام كبير نسبيا في المشهد السياسي الأميركي اليوم. وفي الوقت نفسه، تُبذل الجهود لتعزيز موقف أميركا التنافسي ضد الصين على المدى الطويل من خلال الاستثمارات الاستراتيجية.

في هذه اللوحة المعقدة، لا يكاد الشرق الأوسط يعثر على موطئ قدم كنقطة صغيرة على شاشة رادار السياسة الأميركية، على الرغم من وقوع أمور خطيرة في المنطقة كل أسبوع. وتزداد الرؤية الأميركية الشاملة تجاه معظم الأشياء في الشرق الأوسط إهمالا ولامبالاة وجهلا، حيث تهمل الغالبية العظمى من الأميركيين ما يجري في الشرق الأوسط الكبير أو تجهله أو لا تأبه له.

من المهم أن نتذكر أن السياسة الخارجية لا تهيمن على نشرات الأخبار في أميركا اليوم كما كانت من قبل في السنوات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول وحرب العراق

تعتبر فترة سنة أو أكثر من سنة زمنا طويلا في السياسة الأميركية، حيث يمكن أن يحدث الكثير في غضون أسابيع قليلة قبل الانتخابات لقلب التوازن في الحملات الرئاسية. وحتى الآن تجد معظم استطلاعات الرأي العام لمواقف الناخبين الأميركيين أن الناخبين الأميركيين لا يزالون منقسمين بشدة على أسس حزبية مع تزايد أعداد الناس الذين يشعرون بالفزع من المواقف التي يتبناها كلا الحزبين. وأظهر استطلاع للرأي أجراه مؤخرا  مركزا "ذي ليبرال باتريوت"، و"يوغوف"، أن الرئيس بايدن يتفوق قليلاً على منافسيه الجمهوريين المحتملين دونالد ترامب وحاكم فلوريدا، رون ديسانتيس.

يتفوق الجمهوريون حاليا على الديمقراطيين من حيث الثقة بهم عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع القضايا الحرجة مثل تعزيز قدرات التصنيع الأميركية والتصدي للجريمة وضمان إجراءات أمنية ودفاعية قوية. مع ذلك، ينظر جزء أكبر من الناخبين إلى الرئيس بايدن على أنه أكثر اعتدالا وأقل تطرفا مقارنة بالرئيس السابق ترامب. وعلاوة على ذلك، فلدى الديمقراطيين بعض نقاط الضعف المحتملة في ما يتعلق بمسائل السياسة الرئيسة مثل الهجرة وسياسات المناخ والطاقة وحقوق المتحولين جنسيا. ولكن كيفية حدوث ذلك تعتمد على من سيتولى ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة وكيف سيحدد الحزب القضايا الرئيسة في العام المقبل.

AP
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي قرر مطلع العام الجاري الترشح للانتخابات المقبلة

بالنسبة إلى السياسة الخارجية، يتمتع الجمهوريون بميزة مع الناخبين في مسائل الأمن القومي الحرجة، مثل تبني نهج أكثر استراتيجية في التعامل مع الصين. بالإضافة إلى ذلك، ينظر إلى الحزب من قبل المزيد من الناخبين على أنه يجسد الوطنية، مما يثير إحساسا بالفخر في أميركا كدولة. ولكن المثير للاهتمام، بين الناخبين، أنهم يعتبرون الرئيس بايدن أقوى في شؤون السياسة الخارجية مقارنة بالأعضاء الآخرين في حزبه. ويمكن اعتبار ذلك أمرا إيجابيا محتملا، في ميدان المقارنة، وقوة يمكنه التركيز عليها في الأشهر المقبلة.

ومع ذلك، يبقى من المهم أن نتذكر أن السياسة الخارجية لا تهيمن على نشرات الأخبار في أميركا اليوم كما كانت من قبل في السنوات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول وحرب العراق. فحتى مع الأحداث الدراماتيكية في الغزو الروسي لأوكرانيا والارتباطات عالية المخاطر بين الولايات المتحدة والصين، فإن الناخبين الأميركيين لا يتابعون الأحداث في بقية أرجاء العالم كما كانوا من قبل. لكن ذلك يمكن أن يتغير في أي لحظة. زد على ذلك أن هذا لا يعني أن الناخبين انعزاليون أو يريدون أن تنسحب أميركا من الأجزاء الرئيسة في العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، بل يعني فقط أنه بالنسبة للأولويات الأخرى التي تشكل تفضيلاتهم السياسية، فإنهم لا يتابعون عن كثب غير قضايا السياسة الخارجية كما كانوا في السابق.

لا يكاد الشرق الأوسط يعثر على موطئ قدم كنقطة صغيرة على شاشة رادار السياسة الأميركية، على الرغم من وقوع أمور خطيرة في المنطقة كل أسبوع

قد لا يكون للرأي العام الحالي والمشهد السياسي في الولايات المتحدة تأثير كبير على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. على مر السنين، كان رؤساء الولايات المتحدة يتمتعون بهامش واسع في وضع أجنداتهم وسياساتهم في المنطقة، بغض النظر عن الرأي العام أو الديناميكيات السياسية. كان هذا واضحا في سلوك الإدارات السابقة، مثل سعي إدارة جورج دبليو بوش لاتخاذ إجراءات في العراق على الرغم من افتقارها إلى الدعم الواسع.

هناك تصور بأن الرأي العام الأميركي يتغير تجاه قضايا محددة مثل القضية الإسرائيلية الفلسطينية، وبخاصة بين الأجيال الشابة. ولكن هذه الحجج غالبا ما تتجاهل الأهمية السياسية المحدودة لهذه القضايا خارج دوائر النخبة الضيقة. علاوة على ذلك، فإن النقاشات بين كثير من أصوات النخبة حول دور أميركا في المنطقة أصبحت على نحو متزايد لاذعة ومثيرة للانقسام، وتفتقر إلى الارتباط الحقيقي بالحقائق الفعلية التي يعيشها معظم الناس الذين يعيشون في المنطقة.

يمكن النظر إلى هذا الانفصال على أنه شكل من أشكال الاستشراق الجديد، حيث ينخرط كل من اليسار واليمين في مناقشات مدفوعة بالمناصرة، ونادرا ما يكون لها صدى لدى الناخبين الأميركيين العاديين. ويعكس كثير من النقاشات الحالية حول إسرائيل وفلسطين أو إيران والمملكة العربية السعودية، التي تظهر في مراكز الفكر ووسائل الإعلام الأميركية، في المقام الأول الانقسامات الاجتماعية والسياسية الأوسع داخل الولايات المتحدة.

كان الاتجاه العام للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، في الأعوام الخمسة عشر الماضية، تقليل الالتزامات العسكرية ذات النهايات المفتوحة الكبيرة التي تصاعدت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. ويتشارك الرؤساء أوباما وترامب وبايدن بأوجه شبه كبيرة في مقاربتهم للمنطقة أكثر مما هو معروف في النقاشات السياسية والإعلامية. وكان القاسم المشترك بين الثلاثة سياسة غير مستقرة وغير متسقة إلى حد كبير تجاه المنطقة من حيث الدبلوماسية والنهج الاستراتيجي الشامل، وهو الأمر الذي يترك لدى الدول والشعوب في المنطقة أسئلة كبيرة حول نوايا أميركا الاستراتيجية الشاملة وموثوقيتها.

ولكن على الرغم من هذا التحول، سيستمر الشرق الأوسط في كونه منطقة ذات أهمية استراتيجية، وستحافظ الولايات المتحدة على مستوى معين من المشاركة. ولجذب انتباه الأميركيين، يجب على الناس والقادة في الشرق الأوسط أن يوضحوا بجلاء لماذا يجب أن تظل الولايات المتحدة منخرطة وكيف يفيد ذلك أمنهم بشكل مباشر. يتضمن هذا وضع الخطوط العريضة لـ"دليل القواعد الفضية،" موضحًا كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستفيد من التغييرات الاقتصادية والسياسية في المنطقة مع التأكيد على أن عبء توفير الأمن لا ينبغي أن يقع فقط على عاتق الغرباء مثل الولايات المتحدة.

واللافت أن اهتمام الأميركيين بالشرق الأوسط قد تضاءل مقارنة بالماضي، ومن يدري؟ قد يكون ذلك أمرا جيدا؛ فربما يوفر فرصة لإعادة ضبط طبيعة العلاقات بين شعوب المنطقة والولايات المتحدة بطرق جديدة ومثيرة.

font change

مقالات ذات صلة