"شجاعة اليأس"... هل تُهدد "فاغنر" بولندا؟

التأكيد على أن المرتزقة الروس يستعدون لغزو بولندا، أو حتى الانخراط في ما يمكن تسميته "طرفا مهاجما"، هو ادعاء بعيد عن الواقع

AFP
AFP

"شجاعة اليأس"... هل تُهدد "فاغنر" بولندا؟

في مشهد من المشاهد السوريالية وقع في روسيا، قال الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو لمضيفه الرئيس بوتين عن مجموعة مرتزقة فاغنر سيئة السمعة: "إنهم يريدون الذهاب إلى الغرب، ويطلبون مني الإذن [...] للذهاب في رحلة إلى وارسو، أو إلى رزيسزو".

جعلت ملاحظته وجه الرئيس الروسي يفتر عن ابتسامة مرحة بعض الشيء، قبل أن يضيف لوكاشينكو: "لكنني بالطبع سأحتفظ بهم في وسط بيلاروسيا، كما اتفقنا". كان بالطبع يشير إلى الاتفاقية التي يُزعم أنه توسط فيها بعد أن أطلق رئيس فاغنر يفغيني بريغوجين مسيره نحو موسكو، قبل أن يتراجع في اللحظة الأخيرة، حين كاد يصل إلى المدينة. ولكي يثبت صحة قوله، قال لوكاشينكو إنه كان يتحكم "فيما يجري برباطة جأش"، مشيرا إلى فاغنر، مضيفا أن مقاتلي المجموعة كانوا في مزاج سيئ".

بكل المقاييس، فإن التأكيد على أن المرتزقة الروس يستعدون لغزو بولندا، أو حتى الانخراط في ما يمكن تسميته "طرفا مهاجما"، هو ادعاء بعيد عن الواقع، فمقاتلو الجماعة لا يزالون في الوقت الراهن يتعافون من محاولة الانقلاب الفاشلة التي قاموا بها مؤخرا، وهم يقيمون في خيام مؤقتة داخل معسكر في بيلاروسيا. ولا يزال مدى تأثر القوى العاملة للجماعة بعواقب التمرد الفاشل غير مؤكد، وثمة احتمال في أن لا يكون جميع الأعضاء الذين كانوا موجودين قبل 23-24 يونيو/حزيران الماضي (اليوم الذي انتهى فيه التمرد) حاليا في بيلاروسيا.

مقاتلو الجماعة لا يزالون في الوقت الراهن يتعافون من محاولة الانقلاب الفاشلة التي قاموا بها مؤخرا وهم يقيمون في خيام مؤقتة داخل معسكر في بيلاروسيا

علاوة على ذلك، صرحت وزارة الدفاع الروسية بأن شركة فاغنر قد تخلت بالفعل عن جزء كبير من معداتها، بما في ذلك نحو 2000 مركبة ثقيلة و20 ألف بندقية هجومية وطنّين من الذخيرة. لا تُظهر صور الأقمار الصناعية المأخوذة للمعسكر البيلاروسي أي مركبات ثقيلة، وهي أول ما يتطلبه أي توغل بسيط في بولندا. يثير هذا النقص في المعدات أيضا أسئلة حول مستوى الثقة التي يمنحها الحاكم البيلاروسي إلى هؤلاء المرتزقة الذين يحتمل أن ينقلبوا عليه. والأكيد أن هذه المجموعة ليست مجموعة من المقاتلين المستعدين لغزو بلد آخر، بل هم فصيل يتعافى من تمرد فاشل، ومستقبله معلق في حالة من عدم اليقين.

AFP
يفغيني بريغوجين (وسط الصورة) يتحدث مع الفريق فلاديمير أليكسيف (يمين) ونائب وزير الدفاع الروسي يونس بك إيفكوروف (إلى اليسار)، في 24 يونيو 2023

بريغوجين، الذي سجل شركته، "كونكورد للخدمات الاستشارية والإدارية" (Concord Consulting and Management Services) في بيلاروسيا، مشغول حاليا بالسفر المتكرر بين روسيا وبيلاروسيا، حيث يسعى لإعادة الأموال والممتلكات الشخصية التي تمت مصادرتها في سان بطرسبرغ خلال المسيرة المشؤومة التي سماها "مسيرة العدالة".

ثم يوجد، على الجانب الآخر من الحدود، الجيش البولندي، وقد يكون أحد الجيوش الأوروبية الأفضل استعدادا لمواجهة روسيا. لقد كانت القوات المسلحة في وارسو تستعد بجد لتحمل القوة الكاملة للجيش الروسي، لذلك فهي لن تعجز عن التغلب بسرعة على قوة مرتزقة محبطة، كان إنجازها الكبير في السنوات الأخيرة هو الاستيلاء على بلدة تعدين صغيرة شرقي أوكرانيا، ناهيك عن تسجيلهم هدفا في مرماهم هم من خلال التحرك باندفاع نحو موسكو. في ضوء هذه العوامل، يبدو أن الجيش البولندي جاهز وقادر على التعامل مع أي عدوان محتمل من قبل هؤلاء المرتزقة.

كانت القوات المسلحة في وارسو تستعد بجد لتحمل القوة الكاملة للجيش الروسي، لذلك فهي لن تعجز عن التغلب بسرعة على قوة مرتزقة محبطة، كان إنجازها الكبير في السنوات الأخيرة هو الاستيلاء على بلدة تعدين صغيرة شرقي أوكرانيا

لكن مهلا! فإن بولندا لا تأخذ التهديد المحتمل بخفة، بل تأخذه على محمل الجد، كما يتضح من الحركة الاستراتيجية لنقل لواءين ميكانيكيين من الأجزاء الغربية من البلاد إلى الحدود مع بيلاروسيا. إن مينسك لها تاريخ من التدخل في أمن حدود بولندا، بما في ذلك افتعال أزمة المهاجرين على طول حدود وارسو عام 2021. وعلى الرغم من أن موسكو يمكنها أن تستخدم فاغنر كمصدر إزعاج وتنكره في الوقت نفسه، فهو لا يزال احتمالا بعيدا، وإن بقي واردا.

بمعنى أوسع، تميل القوات العسكرية إلى الالتزام بفكرة أن "الأمان خير من الندم"، وهو جزء متأصل من واجبها. لذلك، لا ينبغي أن تسبب عمليات الانتشار هذه قلقا كبيرا بشأن احتمال عبور "فتيان فاغنر الجياع" الحدود، بقدر ما تدفعهم إلى الاستعداد لردعهم، في حال إرسال مثل هؤلاء المرتزقة في مهمة انتحارية للعبث بأحد أفضل حدود الناتو من حيث الحماية.

لماذا يدلي لوكاشينكو بهذه الملاحظة العابرة؟

قد يتعلق هذا أولا بمخاوف المستبد البيلاروسي، الذي يريد– من خلال تسليط الضوء على أن فاغنر يمكنها التصرف بشكل غير عقلاني– أن يرسل رسالة إلى بوتين مفادها بأن موافقته على الصفقة ليست دون مخاطر. ربما كان الأمر الأكثر أهمية في رسالة لوكاشينكو هو الجزء المتعلق بكون فاغنر جامحة وفي "مزاج سيئ"، أكثر من التخيلات المتعلقة بغزو بولندا. هذه الرواية جديرة بالملاحظة؛ فهي تُظهر أنه بعد أسابيع من التمرد، وبعد أن التقى بوتين نفسه مع بريغوجين ، فإن مقاتلي فاغنر لا زالوا في هياج، بعد شهر من التمرد، ولا تزال التوترات بين الكرملين والطاهي السابق لبوتين عالية، وتتطلب أن يرسل لوكاشينكو– الرجل الذي يُزعم أنه وضع حدا للتمرد من خلال التوسط في صفقة لنقل فاغنر إلى بلاده– تحذيرا لا لبس فيه لبوتين.

Reuters
مقاتلو مجموعة فاجنر الخاصة من المرتزقة يعتلون دبابة بالقرب من مقر المنطقة العسكرية الجنوبية في مدينة روستوف أون دون، روسيا، 24 يونيو 2023

كانت وسائل الإعلام الروسية غارقة في النقد الضمني لبريغوجين، بينما كان الأخير يلقي خطابا في بيلاروسيا ينتقد الطريقة "المشينة" التي يدير بها الجيش الروسي الحرب في أوكرانيا.

رسالة أخرى أكثر دقة عززت هذا التحذير. خلال زيارة لوكاشينكو إلى روسيا إلى سان بطرسبرغ، قام الرئيس البيلاروسي ومضيفه الروسي بزيارة ميناء كرونشتاد، وهي المدينة التي تشتهر بتمردها التاريخي الفاشل المناهض للسوفيات والذي جرى سحقه من قبل القوات الشيوعية عام 1921.

ومما زاد الطين بلة أن من بين مستقبلي الرئيسين كانت كسينيا شويغو ابنة وزير الدفاع الروسي الذي سعى بريغوجين إلى عزله، والتي تصادف أن تكون رئيسة لمكتب المشروع في سان بطرسبرغ.

تميل الجيوش إلى الالتزام بفكرة أن "الأمان خير من الندم"، وهو جزء متأصل من واجبها. لذلك، لا ينبغي أن تسبب عمليات الانتشار هذه قلقا كبيرا بشأن احتمال عبور "فتيان فاغنر الجياع" الحدود، بقدر ما تدفع إلى الاستعداد لردعهم

منذ التمرد، ظل وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف في منصبيهما على الرغم من مطالبة بريغوجين باستبدالهما.

وبعد أيام من التمرد، سئل المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف عما إذا كان رأي بوتين بشأن شويغو قد تغير بعد التمرد، فقال إنه "لم يكن على علم بأي تغيرات في هذا الصدد". وبالفعل، على الرغم من أن شويغو قد يبدو مزاجيا أكثر من المعتاد في الاجتماعات، فلا توجد دلائل على أن الكرملين قد سحب دعمه للوزير.

عملية تطهير داخل الكرملين

يبدو أن هناك عملية تطهير هادئة داخل الكرملين. أحد الشخصيات البارزة المفقودة منذ التمرد هو الجنرال سيرجي سوروفكين، قائد القوات الجوية الروسية، والذي تدور التكهنات حول معرفته المحتملة بالتمرد وعلاقاته الجيدة مع بريغوجين.

وفي عملية اعتقال حظيت بدعاية كبيرة، اعتقلت سلطات إنفاذ القانون الروسية الضابط العسكري الروسي السابق إيغور جيركين، الذي يشتبه بتورطه في إسقاط رحلة الخطوط الجوية الماليزية "MH17" فوق أوكرانيا. ومذ ذاك، تحول جيركين إلى مدون حرب، وبات شخصية بارزة بين كبار الداعين إلى الحرب. وانتقدت مجموعته القومية، "نادي الوطنيين الغاضبين" بشدة سلوك روسيا في الحرب، بل وغامروا بالذهاب إلى السياسة، متجاوزين الخط الأحمر، بل بلغ به الأمر حدّ انتقاد الرئيس بوتين مباشرة، داعيا إلى استبداله بشخص أكثر قدرة ومسؤولية، وهو ما أدى إلى اعتقاله.

ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل يُعتقد أن التطهير يمتد إلى ما وراء اختفاء سوروفكين واعتقال جيركين، وثمة من يقول بين المدونين العسكريين الموالين لروسيا إن نطاق التطهير يذهب أبعد من ذلك، حيث تقمع وزارة الدفاع أي بادرة معارضة بين الضباط الروس. ومن بين هؤلاء اللواء إيفان بوبوف، المسؤول عن الجيش الروسي الموحد رقم 58، الذي أطيح به فجأة من منصبه، على الرغم من دوره الحاسم في الجبهة الأوكرانية الجنوبية، والتي تعد حاليا المحور الرئيس للهجوم المضاد الأوكراني. وكان نُقل عن بوبوف تعبيره عن مخاوفه بشأن أوجه القصور العسكرية، والتي أعلن عنها نائب في مجلس الدوما، مما جعله هدفا.

ومن المثير للاهتمام، أن مشرّعا روسيا آخر أعرب عن دعمه لبوبوف، مشيرا إلى أنه حتى النخبة السياسية في روسيا تُظهر علامات الانقسام، فيما يستعد البعض للدفاع عن جيركين ضد تهم "التطرف".

لا يزال هذا التطهير في مهده ولعل التهديد الأخير لبولندا قد لا يعدو كونه أكثر من مجرد تكتيك لصرف الانتباه عن الاضطرابات الداخلية في روسيا وإخفاء الانقسامات الداخلية بشيء من التبجح. يدين بريغوجين بحياته لقدرته على كسب الولاء بين رجاله، والحقيقة أن فاغنر هي بالفعل ذراع روسيا الطويلة في كثير من البلدان في أفريقيا ومناطق أخرى. لكن القصة لم تنته بعد، لأن روسيا ربما لم تنته بعد من أكل نفسها.

font change

مقالات ذات صلة